Saturday, February 25, 2012

قصصنا المنسية - يوميات معارض ليبي مهاجر خلال سنة 1987-1988م -5

                                            بسم الله الرحمن الرحيم

لقد سبق أن كتبت هذه الخواطر من سنوات عديدة ، ولم تسنح لي الفرصة لنشرها ،، والآن بعد ما تنشقنا نسيم الحرية العليل ،، أتى الوقت المناسب لإطلاع جمهور القراء عليها ،، ووجدت من المفيد سرد هذه القصص حتى تكون عبرة لشبابنا ،، وتذكيراً لشيوخنا ،، راجياً من الله عز وجل أن تتحقق الإستفادة للجميع . فقد كتبت هذه المدونة في تاريخ 1987/8/30 م ... 

                                                   مناجاة

              إنها حالة صعبة عندما يكون الإنسان بالغربة بدون عمل ودخل حتى يغطي مصاريف الحياة الصعبة التي تزداد كل يوم ،، خصوصاً عندما يكون مسؤولاً عن عائلة وطابور أولاد ،،، فالعيش في أمريكا يتطلب مصاريف ضخمة كل شهر ،، والمال بدأ ينفد والدخل بسيط بالكاد يستطيع الإنسان التدبير ،، ومهما حاول الإنسان التقشف لا يستطيع ،، فالأفواه مفتوحة بلا عدد ،، وكل يوم يأتي ساعي البريد بالفواتير التي لا تنتهي مهما دفعت وسددت ،، حتى كرهت الحياة ،، فلم أكن متعوداً على هذا النمط من الحياة ،، العيش في صعوبة وضغط ،، وأنا الذي كنت أعيش طوال العمر في بحبوحة ،، حتى أتى اللعين الصنم وإستولى بالزحف والتأميم  من رعاع غوغاء على كل شيء أملكه من مال وعقارات ،، وضاعت الملايين وذاب شقاء العمر والعرق ومجهود السنيين بجرة قلم من مجنون لعين وأصبحت بقارعة الطريق مهاجراً غريباً مطارداً بفرق الموت والإغتيالات لأنني رفضت الظلم وقاومت النظام ،،
هربت من الوطن خاوي الوفاض ،، إلا من بعض المال والمدخرات التي بدأت تنضب مع طول الوقت ،،، وإضطررت لأخذ القروض والسلف حتى تستمر الحياة ،، وعللت الأمر أن هذه ضريبة وإستحقاق علينا الدفع لقاء التحدي للكافر الصنم ،، ضروري من المعاناة والمرارة فترة من الزمن حتى نصل للقمة وننهي نظام الفرد  عن طريق  المقاومة والتحدي ،،، ضروري من ضحايا ودم على مذبح الحرية التي تحتاج لجهود جميع الأحرار الشرفاء من بني الوطن حتى بلوغ  النصر ،،، والرجوع للوطن رافعاً الرأس كريم ،،
أنا سعيد إنني أنفقت الملايين على التحدي للنظام خلال سنوات الغربة والحرمان من الوطن حتى وصلت إلى حدود الضياع وعدم السيولة ،، معلل النفس عن رضاء ،، أن ضياع المال في معارضة شريفة ومساعدة المحتاجين وقت الحاجة ،،، والكرم أحسن ألف مرة من ضياعها فيما يحرمه الله عز وجل مثل ماحدث للكثيرون من رجال الأعمال الأغنياء الذين ضيعوا ثروات كبيرة على الفساد والعاهرات والقمار ،، فالفقر ليس عيباً  ،، والغنى ليس فخراً  ،، عند الرجال الصادقين الصابرين ،، فالأيام تمر وتتقلب ويوماً لك ويوماً عليك ،، والأهم هو الصبر حتى يغير الله عز وجل ،،، الحال من حال إلى حال ،،ولكن الكثيرون لا يعرفون المباديء ولا الأخلاق همهم المال والجاه والحصول عليهما بأي طريقة ولو ببيع أنفسهم للشيطان الرجيم ،، لا يهمهم ماذا يقولون عنهم من شائعات وأقاويل ،، كل الهم كيف يصبحون أغنياء ذوي جاه ومراكز ،، ونسوا وتناسوا أن المال ليس كل شيء في الحياة له حدود عندها يتوقف ولا يستطيع الإستمرار ،، فالأخلاق والشرف والكرامة والقيم ،،، أغلى مافي الوجود لمن يعرف ويعلم أن الحياة دورة لا تتوقف مستمرة إلى ماشاء الله عز وجل ... وإن مصير المهاجر الغريب الرجوع مهما طال الوقت في الغربة ،،
إنني أحلم بكثير من الأشياء والأمور التي يمكن تحقيقها بعزيمة الرجال ،، وأجد نفسي في بعض الأحيان غير قادر على المضي حيث مكبل بقيود وأغلال الإلتزامات ونقص المال ،، لم أستطيع لملمة شتات افكاري ،، وأضع همي وكامل قدراتي وطاقاتي للعمل النضالي ،، نظير عدم السيولة ،، فأي معارضة لا يمكن أن تنجح وتستقيم بدون دعم وتدعيم ،، فكل خطوة للأمام تحتاج إلى المال الوفير ...
لا تأجيل في أمريكا لأي فواتير مهما كانت ،، ضروري من الدفع ! لديهم طرق عديدة قانونية للتخلص بإشهار الإفلاس ،، ولكن لا أرضى أن أعملها تحت أي ظرف ،، وإضطررت لبيع البيت الذي أسكنه ،، وعشت فترة سنوات بالإيجار ،، وتنازلت عن الشركة التي أسستها لبيع الرخام حتى أدفع الإلتزامات بدلاً من أن تزيد كل يوم  لقاء العيش رافع الرأس موفور الكرامة ،، ففي أمريكا ،،، يتعاملون بالعقل الآلي طوال الوقت وفي جميع المواضيع ولا يضيع أي شيء سواءاً لك أم عليك ،،،  فكل شيء محسوب بدقة متناهية ،،  الإنسان مسجل برقم وليس بإسم على شاشة الحاسوب ،، ولا وجود للتملص والمهاترات مهما حاول الإنسان العبث ،، والصدق هو سفينة النجاة في أي أمر .
عشت سنوات عديدة  حوالي ربع العمر بمجتمع غريب وعجيب ،، لم أستطع الإنصهار في البوتقة إلى الآن ،، جيراني ،، في الأصول العائلية خليط من جميع الجنسيات ،، لا تربطني بهم أية  أواصر أخوة و دم ،، دين وعقيدة ،، بل جيرة فقط ،، أول من بدأ التعارف الصغار حيث كانوا مع بعض في المدارس ،، ثم الأمهات مع الأم ،،،  وبعدها تم التعارف مع الرجال ،، والله يسامحهم على كل يوم  مضى كنا  فيه جيران خلال 9 سنوات من العمر تبادلنا فيها الزيارات والأعياد والأتراح ،، وكأننا عائلة واحدة ،،
لقد مررت بإمتحانات صعبة ،، والحمد لله عز وجل لم أمد اليد ،، ولم أتنازل عن الكرامة ،، وحافظت على القيم وضحيت بالمال والأصول المادية ،، حتى أربى الأولاد على المصداقية والشرف ،، وأجعلهم يوما يفخرون أن والدهم ،، مهما تعب وضاق به الحال بالغربة فترة من الزمن حتى نهض من جديد ،، ودارت الدورة وأصبح  مرتاح ذو دخل كبير لقاء بعض الأعمال ،، لم يرضخ ويتنازل مع العروض الكبيرة المغرية من النظام ،، وكان بالإمكان القبض ويعتبرها جزء من المال الذي سرقوه بالتأميم والزحف يوم      1978/9/22م 
في بعض الأحيان بالغربة ساعات الضيق ،، أتساءل مع الذات ... لو لم أهاجر هل كنت سوف أتعب مثل الآن مطارد من اللجان ،، بالكاد أعيش بلقمة الحلال ؟؟ وترد الذات وتقول أرضى ياحاج وأحمد الرب الخالق على عطاياه من صحة وعافية ،، وأولاد شباب وشابات ،، تعلموا في أحسن المدارس والجامعات ،، ولولا التأميم والهجرة والأزمة المادية التي مررت بها بعض الوقت حتى تحسنت الأمور للأفضل ...  لكنت جاهلاً بالوطن ،،  ضيق الأفق بدون حنكة وعلم وأفكار متحررة ... مما أرضى على الحال بقناعة ،، وأشكر وأحمد الله عز وجل على العطاء والكرم فطموحاتي كبيرة مثل الجبال لا تتوقف طالماً بي عرق ينبض ونفس يدخل ويخرج بهذه الحياة ،،
لقد تعلمت دروساً وخبرات قوية عديدة في أمور كثيرة من المحك بالحياة ،، لا أجدها مهما عملت ودرست ،، لا يمكن تحصيلها ولو قرأت آلاف الكتب وتحصلت على أعلى الشهادات ،، فتجربتي على الواقع المرير من الممارسة الفعلية العملية للحياة حيث تعرفت بالكثيرين من الوطن والأجانب ،،، معظمهم سقطوا مع الوقت ولم يبقى إلا البعض من الرجال ذوي الشهامة والكرم ،، الذين عاهدت النفس ،، وقلت للعائلة والأولاد ،، للتذكير وللمستقبل في حالة الغياب  ،، أن هؤلاء إخوة من الدهر وليسوا من الظهر ،، حتى يزيدوا في الإحترام والتقدير لهم ،، ويعرفون مدى المعزة المتبادلة مع والدهم ،،، فى حالة أية خدمة يطلبون ويريدون ،، فأحسن الأخوة الطاهرة النقية من غير شوائب ،، أيام الغربة والنضال والضيق ،، حيث تظهر معادن الرجال الأصيلة ،،
الحمد لله عز وجل على جميع العطايا والنعم ،، ومهما تعب الإنسان فترة وضيق وقلق ،، مصيرها الفرج ،،، فأهم شيء الصبر والصمود والتصدي ،، والإنسان يستطيع أن يكيف نفسه وقت الضرورة والحاجة ،، ويستطيع العيش بشرف بأي طريقة تحفظ فيها الكرامة والقيم ،، وعدم مد الأيادي وإراقة ماء الوجه ،،،  المهم رفع الرأس والحفاظ على الكرامة والقيم ،، ولا يتنازل لأشباه الرجال تحت أي ظرف ،، والصبر الصبر الذي هو مفتاح الفرج ،، والله الموفق .
                                                          رجب المبروك زعطوط

                                                               1978/8/30م 

No comments:

Post a Comment