Sunday, September 27, 2015

قصصنا المنسية 52

بسم الله الرحمن الرحيم

 التقاعد عن العمل السياسي

  يوم 2011/10/20م كان من أسعد الأيام في تاريخ ليبيا المعاصر في القرن الحالي الواحد والعشرين وفي حياتنا نحن المواطنيين الليبيين الوطنيين الأبرياء الذين إكتوينا بنار الإرهاب والظلم من نظام فوضوي ليس له أساسات ولا قواعد صلبة للحكم بالعدل ضمن القوانين.... أخذ أعمارنا وزهرة شبابنا التي ضاعت وتلاشت ولن ترجع مثل السابق، حيث تم قصف رتل السيارات الذي كان يغادر مدينة سرت من طرف أحد طائرات التحالف ، مما تفرق إلى أجزاء للتمويه  والإخفاء وتم القبض على الطاغية القذافي بالصدفة بعد حصار شديد على المدينة من جميع الطرق محاولا الهرب إلى الجنوب إلى الصحراء الواسعة،  فارا من ساحة المعركة مع البعض من أعوانه الثقات محاولا النجاة بالنفس.

               آسريه الثوار الشباب لم يرحموه في ساعة الهرج والمرج والفرحة بأسره ، وهم يسبونه  ويلعنونه بآلاف اللعنات واللطم بالأيادي على وجهه الكريه الحقيقي بعد أن زال الشعر المستعار عن الرأس والأصباغ ومواد التجميل عن الوجه القبيح، وهو يتوسل لهم راجيا الحفاظ على حياته بحجة أنه كبيرا في السن وفي عمر آبائهم، ناسيا متناسيا أعماله وجرائمه الشريرة وفساده في الحرث والنسل في الوطن والعالم الخارجي على مدى حوالي 42 عاما من حكم ليبيا المطلق بدون أي مراجعة عاث فيها الفساد والإفساد.

            وتم قتله شر قتلة وأسدلت ستائر المسرحية الهزلية للأبد التي ألفتها وخلقتها القوى الخفية الشريرة الدولية وساندها الغرب من البداية إلى النهاية،   لقاء المصالح ، المدة الطويلة والإستنزاف للمجنون لخيرات ليبيا حتى لا تنهض، ونحن أبناء الوطن الليبيين الوطنيين دفعنا الثمن الغالي من القهر والتمثيل والتدجيل والكذب وصرف الأموال في غير طاعة الله تعالى والشعب محتاج يمد أياديه إستجداءا لكثير من الأشياء من الألف وعلى رأسها الحريات والصحة والتعليم إلى الياء.

                  ومن وجهة نظري مات الممثل الوحيد بدون منازع، ولا من ينافس في وقتنا الحاضر أو حتى بالمستقبل ولا يستطيع إتقان الدور في المسرحية الهزلية الساخرة القاتلة أي ممثل آخر وصعب إيجاد البديل بنفس المواصفات المطلوبة مثله من الجنون والغرور بالعظمة والأحلام الخيالية التي صعب تحقيقها على الواقع بسهولة ويسر.

                  اشرقت االشمس بالضياء وهطل المطر الغزير في جميع ربوع ليبيا رحمة من الله تعالى وكرما على الشعب الفرح بالنصر على التطهيرمن رجس الشيطان الرجيم من على كاهل الوطن ، وعمت الفرحة والإحتفالات في كل مكان وكأننا في أعراس دائمة وزفاف لشهور غير مصدقين ولا متوقعين ان الحلم أخيرا تحقق والثوار الأشاوس الأسود الوطنيين وليس الأدعياء أشباه الرجال المنافقين الذين ركبوا موجة الثورة أثناء الهرج والمرج والفرح بالنصر... الثوار الوطنيين الحقيقيين الذين نفذوا المهمة على أكمل وجه محققين الهدف المطلوب والخلاص من الطاغية بالتضحيات والدم لآلاف الشهداء والجرحى والمعاقين .

                أخيرا تحقق الهدف النبيل والحلم الذي جاهدت من أجله وعارضت النظام طوال 33 عاماً بكل شدة وعنف جميعها مغامرات ومطاردات في أوطان العالم من قبل فرق الموت اللجان الثورية والنجاة من محاولات الاغتيال والتصفية الجسدية، وملاحقة البوليس الدولي (الانتربول) بالقبض وإلإرجاع بالقوة تحت الحراسة إلى ليبيا بناء على الطلب من حكومة القذافي لأمريكا، ولكن أمريكا دولة قانون رفضت التسليم بدون إثباتات دامغة .

               وكان عمل الخير ورضاء الله عز و جل والوالدين ، هي التي  حمتني طوال الوقت ونجوت  من الشر والقبض... ليلة مصرعه كنت في تونس والمفروض أن أكون حاضرا في العاصمة الليبية ولكن تأجلت الرحلة نظير إعطال وإغلاق المطار في طرابلس من إستقبال الطائرات القادمة والمسافرة خوفا من ان تصاب عشوائيا في  الهواء من كمية الأعيرة النارية التي تطلق لأعلى من من جميع أبناء الشعب، تعبيرا عن الفرحة والنصر وهلاك الطاغية ...  وكانت ليلة سعيدة من أسعد ليالي العمر حيث نمت هانئ البال طويلا في راحة بدون قلق كما كنت بالسابق طوال الليل ساهما ضمن الهم والغم من آي حدث قد يحدث في أي وقت ويتم القبض علي كما حدث  في العديد من المرات السابقة  !!!!

           وتم الاتصال الهاتفي مع فرج إبن أختي في طرابلس لإستقبالنا في الحدود الغربية القريبة من طرابلس العاصمة، واليوم الثاني غادرنا تونس العاصمة إلى جزيرة جربة ، في الجنوب التونسي ،على متن  طائرة صغيرة (فوكر) وكان معي إبني الكبير مصطفى للرعاية والحراسة والرفقة وهبطنا في المطار الصغير وكانت أول مرة تطأ فيها أقدامي أرضها، وتم تأجير عربة نقل (تاكسي) ليقلنا إلى الحدود وكان السائق التونسي ودودا مرحا من أهل المنطقة ولم نتعطل في البوابات التونسية العديدة حيث لديه معارف بدون حدود ومررنا بسرعة أمام مئات السيارات الليبية الواقفة في طوابير تنتظر الدور في الرجوع إلى ليبيا، حتى وصلنا إلى رأس إجدير والبوابة الأخيرة التونسية ودعنا السائق وحملنا حقائبنا وبعدها بخطوات قليلة عبرنا إلى البوابة الليبية والجميع فرحى وكان ابن أختي فرج ومعه عديله الضابط بالشرطة في الانتظار.

               بعد رحلة جميلة، وصلنا إلى طرابلس ونحن مشتاقين لرؤيتها بعد الخلاص والنصر ، ومررنا على معسكر العزيزية قلعة الطاغية الحصينة بالسابق وكانت أسوارها مهدمة ومبانيها بالداخل معظمها أطلالا من قوة الرماية بالنيران بالقنابل والصواريخ التي أطلقت عليها...  وقلت للنفس سبحانك رب العالمين بالأمس القريب كانت الإنوار تشع فيها طوال الليل والنهار والحرس شاكي السلاح في كل مكان يراقبون ويحرسون من الأبراج العديدة والجميع من أبناء الشعب يمرون على الطرق حولها بسرعة يخافون من التوقف في الطريق بجانب الأسوار وخاصة عندما تتعطل أي  سيارة  لظرف ما ، الحراس من الخوف والرعب من أي عمل فدائي قد يحدث، بناءا على الأوامر الصارمة التي لا ترحم ولا يتم التأكد، كانوا يطلقون عليها الرصاص بدون أي  سؤال ... وقد توفي الكثيرون عبر السنوات قتلى من الضحايا الأبرياء نتيجة سوء الحظ وعدم المعرفة.

             كنت ارغب في الإقامة بأي فندق في وسط المدينة، حيث لا نريد مضايقة أي أحد ولكن قريبي فرج أصر على الإقامة معه في بيته مما فعلنا. أقمنا فترة أسبوع في ضيافته وكنا كل يوم نخرج في جولات نشاهد على الطبيعة الدمار والخراب في بعض الأماكن من القصف الجوي القوي  للتحالف لشل حركة قوات وجنود القذافي المرتزقة ، ونسمع العديد من  القصص  والتي اعتقد انه أضيف على معظمها الكثير من المبالغة... حتى تمكنا من السفر إلى درنة .

                  بدأت صفحة جديدة في ليبيا من الصراع السياسي الخفي على من يخلف القذافي والإستئثار بالسلطة بأي ثمن كان والحصول على الثروات السائبة والمجنبة التي لا يعرفها ولا يعلم بها إلا القلائل،  بدون رعاية وإهتمام من حراس وطنيين شرفاء يحافظون عليها حيث أرزاق المجتمع، والتمكن والتحكم من قبل قوى ومراكز أخرى شيطانية بدأت تظهر على السطح السياسي والتي معظمها ذوي أقنعة مزيفة متخذين من الدين عناوين كبيرة حتى يتحكموا في رقاب الآخرين ، حيث شعبنا الليبي طيبا يعمل أي شئ يخطر على البال من خير وشر وعندما يصل الأمر إلى المساس بالدين يصاب بالرهبة روحيا ويتوقف بأية أعذار حيث ذاك الوقت من سنوات قليلة مازال ساذجا طاهرا لم يتلوث بعد.

           الكثيرون من ضعاف النفوس مع الوقت ومرور عقود من التطبيل والتدجيل وتراهات الكتاب الأخضر والطمع في الشهرة والكيد للبعض من الخصوم الأبرياء والحفاظ على النفس ومحاولة الإستغلال للمال والجاه والمناصب ، طواعية تم الانضمام منهم إلى اللجان الثورية والشعبية وعاثوا الفساد والإفساد في الحرث والنسل في ليبيا الوطن، لقاء فتات ، والآن بعد النصر وزوال الطاغية سبحانك رب العالمين مغير الأحوال من حال إلى حال آخر ، خائفين هاربين من ملاقاة المصير الاسود والملاحقة من الثوار ، للحساب والعقاب عن الضرر المشين الذى سببوه للآخرين بدون وجه حق ولا عدل.

             لم أتوقف عن النضال والكفاح ضد نظام الطاغية القذافي منذ يوم 1978/9/22م الذي كان  تاريخا لن أنساه طالما لدي نفس حياة على هذه الأرض... حيث تم الزحف والتأميم ونهب كل عرق الجبين طوال سنين من السعي والكفاح بشرف، وفي وقت قصير وجرة قلم من الطاغية بالإستيلاء على أرزاقنا الحلال بدون أي وجه حق كان...  ووفاة الوالدة من الصدمة خوفا علي من القبض والسجن ، وكان الإستيلاء والتأميم من ضمن الأسباب القوية في الهجرة والهرب من الوطن رغما عني حتى لا أتعرض إلى القبض والسجن والتعذيب والقتل وأنا بريئا بدون ذنب ، والتهمة الموجهة لي من النظام أنني من ذوي المال والشهرة، تاجرا ومقاولا في المنطقة الشرقية ناسين متناسين أن النعمة والمال والثروة حلال هو نتاج عمل وكد سنين طويلة كما انها عطاءا وهبة من الله عز وجل .

                     تعرضت للمطاردات ومحاولات الإغتيال والتصفية الجسدية سبع مرات في العديد من عواصم العالم، وبالمساعي الحميدة من الشرفاء، تم العفو العام وتحديت النظام ورجعت مخاطرا بالحياة ، وخلال عقدين من الزمن تعرضت فيها إلى الاعتقال والسجن 4 مرات من النظام والتحقيق المضني 28 مرة من معظم الأجهزة الأمنية المختلفة والترجيع من مطار طرابلس الدولي والمنع من السفر عدة مرات والحجز لجواز السفر الليبي حوالي 7 سنوات مما أصبحت سجينا ضمن السجن الكبير ليبيا غير قادر على السفر لرؤية العائلة والأولاد المقيمين في امريكا الذين كانوا وقتها صغارا في العمر في سنين المراهقة وبحاجة ماسة إلى وجودي وسطهم .

                    بعد معاناة وصبر طويل من" الله تعالى على بالكرم والفضل ومساندة البعض من أصحاب القرار في السر المجهولين والعلن عن طريق المعارف والواسطات والدفع المجزي لبعض عديمي الضمير والذمة المرتشين حتى تحصلت على جواز السفر الليبي المحجوز بعد جهد جهيد ، وتم تجديده للخروج من ليبيا ، وسافرت إلى امريكا وقابلت الأولاد والأحفاد الذين ولدوا فترة الغياب الطويل.

             قامت الثورة المجيدة يوم 2011/2/17م   ويعلم الله تعالى ماذا قدمت من جهد واتصالات دولية في السر والعلن والدعم بالمال والسلاح للثوار قدر الاستطاعة والمتاح ولم أتوانى في أي لحظة كانت خلال شهور الثورة عن العطاء والمخاطرة بالنفس مع بعض أولادي متنقلا في ربوع ليبيا وعدة دول بالخارج للدعم والمساندة حتى يوم النصر .

             رجعت بي الذاكرة إلى الوراء سنين عديدة مضت حيث بدأت في المعارضة الحقيقية لنظام الجهل يوم 1978/3/21م الذي كان تاريخا مميزا في مسيرة العمر النضالية حيث كان يوم الخروج والمغادرة السريعة والهرب من مطار طرابلس ليبيا إلى المهجر في امريكا ، وتم بحمد الله تعالى قفل الملف الساخن المثير بالأحداث والمغامرات مبدئيا يوم 2011/10/20م  يوم هلاك و مصرع الطاغية ، وإخترت حياة التقاعد والبعد عن المسرح السياسي لعوامل عديدة حيث الرجال الوطنيين الحقيقيين الصادقين مع الله تعالى وأنفسهم معظمهم أصبحوا شهداء موتى في ذمة الله تعالى، والباقين الأحياء منهم الأحرار ذوي الدم الساخن الأطهار في وقت قصير تواروا بالخلف وراء الستار عن المسرح السياسي ، ليس خوفا ولا جبنا لأنهم لا يرضون العيش في المهاترات والمتاهات لقاء مصالح شخصية ومراكز وهمية زائلة مع الأيام مهما طالت.

              والآن بعد مرور بضع سنوات بعيدا عن الأضواء، مازلت أتابع في المسارات وما يحدث من مهاترات في ليبيا يوما بيوم في الهجرة الثانية عائشا على الأمل أن يتغير الحال للأفضل ولا يضيع كفاحنا وزهرة أعمارنا وشبابنا هباءا منثورا من غير الوصول للهدف الذي ناضلنا وكافحنا من أجله ، ونفرح بحياة سعيدة بقية أيام الحياة في وطننا الغالي ليبيا إذا أطال الله تعالى لنا العمر وتمتعنا بالصحة والعافية ، ونشاهد نهضة الوطن وتقدمه إلى الأمام بدلا من الصراعات العديدة والدم بين الأخوة المواطنين الذي يراق كل يوم بدون فائدة ولا جدوى كل فريق يريد النصر وفرض الأمر أنه على الصواب والحق.

                    ومن وجهة نظري الخاصة نظير الخبرات والتجربة ، الكاسب والفائز في الصراع مهما وصل للقمة  وإنتصر خاسر ا على طول المدى حيث الوطن غالي للجميع وليس لأحد دون الآخر... حتى يتحكم ويحكم الجميع بدون انتخابات حرة والفوز بالاغلبية من الاصوات من أبناء الشعب  ... والله الموفق...

         رجب المبروك زعطوط

قصصنا المنسية 51

بسم الله الرحمن الرحيم

 رجال ليبيا المنسيين


  تم طمس وتعتيم أسماء الكثيرين من المجاهدين المناضلين الليبيين المغمورين الذين لم يذكروا في تاريخ الجهاد الوطني من جميع الشرائح والقبائل الليبية... الجنود المجهولين الذين قاموا بالكثير من العمليات الإنتحارية والبعض الذين كتبت لهم النجاة والحياة وعاش بقية العمر شاهدا حيا على مدى الإيمان والتضحيات ضد الغزاة العدو الايطالي الذي إستباح الوطن وغزاه آملا في ضمه للأبد لإيطاليا في أكتوبر من  عام 1911 م .

               الغزاة نسوا  ان الله تعالى حي في الوجود لا يرضى بطمس نور الاسلام عنها ، والشعب الليبي حي لا يموت مهما حدث له من مخططات ومؤامرات لإبادة الجنس والعرق العربي المسلم ، الذي ناضل حسب القدرة والإستطاعة وبالمتاح مقدما الضحايا الشهداء والجرحى والمعاقين في المعارك العديدة والقتلى في المعتقلات ، الذين تم شنقهم لأتفه الأسباب...  والمبعدين المنفيين بدون حساب من اجل الخلاص والحرية حتى تم التوفيق من الله عز وجل وسمحت الظروف  وخسرت ايطاليا في الحرب العالمية الثانية عام 1945 م ، وأصبحت ليبيا تحت الانتداب البريطاني الذي يضحك في الوجه ويطعن في الخلف من الخبث والدهاء في حكم الشعوب المغلوبة على أمرها... وتحقق الاستقلال في الوطن بجهود الرجال الوطنيين المخلصين وأصبحت ليبيا دولة معترفا بها من جميع دول العالم في الامم المتحدة، مملكة عربية منذ تاريخ 1951/12/24م .

                هذه القصة من عشرات ومئات القصص الفردية التي حدثت عن التضحية والفداء من اجل الحياة والوطن، قام بها البعض ولم تذكر مع مرور الايام والزمن ، سمعت بها خلال أحد السهرات والسمر مع الإخوة الرفاق عن قصص الجهاد والبطولات منذ فترة طويلة من الزمن والتي تذكرتها والتي تجعلنا نحن كليبيين نزهو ونفخر أن الكثيرين من بني وطننا كانوا أبطالا وقدموا هذه التضحيات في السر والخفاء والعلن ولم تذكر الا من القلائل وتظهر للعيان ..

              تم القبض على مجموعة من ثوار قبيلة الحاسة في الجبل الأخضر وصدر الحكم بالإعدام لإبادتهم بسرعة من قبل المحكمة العسكرية حسب المخطط الإستعماري للإستيلاء على الأرض...  وكان من العادة في ذاك الوقت توقيف المتهمين على جرف عالي معروف بالمنطقة مبنية بجواره قلعة مراقبة تشرف على وادي عميق سحيق مازالت أطلالها إلى الآن شاهدة ...   وقتها كان بها العشرات من العساكر والجنود الإيطاليين والتي حدثت بها عشرات الأحداث والمآسي المؤلمة والقتل للكثيرين من الضحايا الوطنيين المحليين حيث كانت مكانا لإعدام المتهمين بالمنطقة الذين شاء سوء الحظ وتم القبض عليهم من الغزاة المستعمرين بين مدن شحات وسوسة .

                ويتم اطلاق النار على الضحايا المعتقلين المحكوم عليهم بالموت على الحافة ، وترمى جثث القتلى بوحشية إلى القاع نكاية وتشفيا في الليبيين المحليين الثوار (المحافظية) على خسارتهم الجسيمة في المعركة المشهورة التي أطلق عليها إسم  معركة "الكراهب"(السيارات) عام 1925 م والتي خسر فيها الإيطاليون عدد كبيرا من جنودهم وتمت الإبادة لهم بدلا من الدفن للضحايا القتلى كما يجب حسب الأديان السماوية، والأصول والشرائع الانسانية .... ترمى الجثث في الوادي حتى تنهشها وتأكلها الحيوانات المفترسة من الضباع والذئاب.

                ولما وقف المتهمون في الصف نهاية الأصيل قبل المغرب وحلول الظلام ، مقيدين وأمامهم كتيبة الاعدام من الجنود ببنادقهم يستعدون لإطلاق الرصاص عليهم ، قام أحدهم طالبا من رفاقه المقيدين بالقفز إلى الوادي والشهادة بدلا من الموت برصاص العدو ولم يطاوعوه وإستسلموا لله تعالى راضين بالقضاء والقدر نظير قوة الإيمان بأنهم مظلومين وعلى حق ويعرفون ويعلمون أنه لديهم بعض الوقت القصير للعيش بالحياة، دقائق ويموتون ويقابلون وجه الخالق.

                   قفز المتهم السجين إلى الوادي مضحيا بالنفس حيث عارفا أنه ميتا لا محالة وفضل الموت بشرف بيده طواعية وكان محظوظا وعلق بأحد النتوءات بالجبل ولم يسقط للأسفل كما كان متوقعا من الجميع... ولم يهتم الحراس بالسجين الهارب الذي قفز إلى الهاوية حيث بالنسبة لهم هلاكه كان مؤكدا من هذا الارتفاع الكبير الشاهق...   وتم إعدام رفاقه ورميت الجثث في الوادي السحيق كالعادة بلا مبالاة ولا وخز ضمير وكأنهم يرمون جثث حيوانات نافقة ميته وليسوا بشرا شهداءا مناضلين من حقهم الحياة حيث يدافعون عن ارضهم ودينهم وقيمهم .

                 وحل الظلام وتحرك الهارب بصعوبة يتحسس بيديه ويهبط ببطأ وهو مقيد اليدين بالقيد مستعملا السلسلة الحديدية القصيرة في تثبيت الجسد بالنتوءات وجذور الأشجار القوية حتى وصل إلى قاع الوادي وهو في الرمق الأخير، والفرحة بالنجاة أعطته القوة على تحمل الجراح والخدوش والرضوض بالجسم وجر نفسه في الأحراش حيث يعرف المنطقة جيدا حتى وصل إلى احد المزارع المملكة لأحد المزارعين الايطاليين (السيشليان) القادمين من ايطاليا لإعمار المنطقة، حسب مخطط الإبادة والإستيلاء على الارض من أصحابها الأصليين بدون وجه حق...   بحيث تصبح مع الوقت الأغلبية السكانية من المقيمين للمسيحيين الكاثوليك....

               وعندما وصل كان في حالة صعبة يرثى لها ، وقام أحد العمال الليبيين الوطنيين من أولاد العم بالقبيلة الذي يعمل في المزرعة كعامل أجير، بتحريره من القيود وإطعامه في السر وزوده ببعض المؤونة وطلب منه الرحيل بسرعة وعدم البقاء بالمزرعة ولا في حدودها ، منعا في حالة قدوم أية دورية بالغد للعدو تبحث عنه ، وشككت فيه أنه قام بمساعدته مما سيتعرض للمساءلة والاتهام.

                وبدأ السير وسط الأحراش والغابات والوديان وكان طوال الوقت يقتات على بعض المؤونة التي معه ويشرب من الابار والعيون وبقايا المياه في البرك الصخرية من ندى الصباح الباكر وبعض الاحيان يحصل على بعض البيض او الدجاج من المزارع أثناء الطريق يستولى عليها خلسة وأصحابها من المستعمرين المزارعين الطليان غافلين ... حتى عبر الجبل الأخضر وتوغل في صحراء الحدود الشرقية ودخل خلسة إلى مصر التي كانت تحت الإحتلال البريطاني وقتها مفتوحة لجميع الليبيين الهاربين من العدو الايطالي .

             وجد الترحاب والكرم في نجوع البادية عند أولاد علي والضيافة والكرم العربي حيث ليبيين أصليين يعيشون في أرضهم في الشريط المثلث حتى رأس الحكمة بالقرب من الإسكندرية والتي تم الضم للأرض والبشر وقت الاحتلال الايطالي من الانجليز ووضعوا الخط الوهمي إلى الآن كحدود بين الدولتين خوفا على قناة السويس،  الشريان الحيوي لهم للوصول إلى مستعمراتهم في الشرق الأقصى من قرب وجود القوات الإيطالية لها .

                قضى بعض الوقت معهم في أمان حتى إلتأمت الجراح وشفي جسمه من الرضوض وأصبح قادرا على مشقة الطريق الصعبة وقتها، وواصل المشوار إلى الاسكندرية واقام بها فترة بسيطة ضمن الجالية الليبية ، ولظروف ما غير معروفة واصل المسيرة عبر فلسطين حتى وصل إلى الأردن بعد فترة طويلة ، وتطوع جنديا في جيش إمارة الأردن الهاشمية سنوات عديدة وتزوج هناك من احد الفتيات وأصبحت له عائلة .

                  قامت الحرب العالمية الثانية وبعد معارك شرسة عدة سنوات كل فريق يريد النصر بأي وسيلة كانت...  حتى إنتصرت دول الحلفاء وخسرت دول المحور الحرب وكانت إيطاليا من ضمن المحور وأصبحت ليبيا تحت الإنتداب البريطاني عدة سنوات حتى تحررت ونالت الاستقلال ، ورجع بعائلته ، وأقام بمدينة درنة فترة طويلة ، وكنت اعرفه شخصيا ولم أعرف بالقصة وتضحيته .... فقد كان احد الجيران وأبناؤه البعض من جيلي اصدقاءا لي حيث كنا في نفس المدرسة ولم أعرف القصة إلا بعد سنوات عديدة بعد وفاته (رحمه الله تعالى) .

             مثل هذا الرجل المناضل الذي  كتبت له الحياة نظير الإقدام والمجازفة،  قلائل يعدون على الأصابع... الذي رمى بنفسه من الجرف العالي محبذا الموت بدل الإعدام من العدو ، والمسيرة الطويلة والترحال خوفا من القبض عليه مرة أخرى، حتى وصل لبر السلامة ، والكثير من القصص والحكايات والتضحيات بالعشرات والمئات من جميع مناطق ليبيا ولا علم للكثيرين بها نظير الطمس والتعتيم ، وليس لدي علم بها شخصيا والتي في بعض الاحيان اسمع القليل عن بعضها عندما تتاح الفرص لسماعها .

                   حيث للأسف لم تكتب وتدون فى كتب أو تذاع فى الاعلام والقنوات المرئية أو تنشر في الصحافة من البعض، حتى تنتشر وتعم في أوساط الشعب وتظل قائمة إلى ماشاء الله تعالى ، تذكر بالخير وذكرى عاطرة تخلد أبطالها الجنود المجهولين ، حتى يعرف الجميع من الأجيال الحاضرة والقادمة بإذن الله تعالى،  مدى التضحيات والبطولات من الآباء والأجداد ونفخر ونزهوا بأننا ليبيين وطنيين لنا ماض مشرف سطره السابقون بالدم والشهادة في سبيل الله تعالى والوطن في صفحات سجل التاريخ الذهبي الليبي عبر الزمن... والله الموفق....

                رجب المبروك زعطوط

Sunday, September 20, 2015

قصصنا المنسية 50


 بسم الله الرحمن الرحيم

رحلة لندن


        يوم الأربعاء 1987/7/22م الساعة الرابعة عصراً ، سافرت إلى لندن على متن رحلة شركة الطيران بيدمونت  الداخلية إلى نيويورك، بعد أن أوصلني الأخ عاشور بسيارته إلى مطار نورفولك في فرجينيا بيتش،  وقضينا بعض الوقت في أحاديث عامة في الإنتظار قبل الصعود للطائرة التي تهادت على المدرج وكانت جديدة على المطار في خيلاء وزهو وإنطلقت بقوة في الجو في نعومة وهي تشق عباب السحاب، وقدمت لنا بعض المشروبات الغازية، ورحلة مريحة حتى الوصول، لمطار نيويورك بعد رحلة ساعة طيران جوية وأثناء الإنتظار للصعود للرحلة القادمة، إتصلت هاتفيا بالعائلة سائلاً إذا كان هناك أي شيء جديد قد حدث... أو نسيت شيئا نظير العجلة ؟؟ وكان الرد كل شيء على مايرام. بعد إنتظارا بسيط في بوابة ( تي دبليو أي) ، صعدت للطائرة العملاقة (الجامبو) رحلة 708 عبر المحيط إلى لندن.
              الرحلة طويلة تستغرق عدة ساعات وجلست ساهما لوحدي وطاف الفكر في مواضيع كثيرة وإسترجعت حديثاً للأخ عبدالعالم على مائدة العشاء في البيت عندما كان ضيفاً لدينا في مدينة فرجينيا بيتش حيث أسكن، زائرا مع عائلته لنا وقضى يومين بالزيارة، وكان الحديث يدور على أوضاعنا في الغربة والهجرة والبعد عن الوطن، وقال أن الغربة سوف تطول، وساحة المعارضة الآن في هدوء ونوم وخمول لا تستطيع عمل أي شئ غير الجعجعة في الإعلام. وأذكر أنني أجبته قائلا بأن هذا الهدوء عبارة عن وقفة إستراحة قبل أن تهب العاصفة بقوة من جديد وتزيل النظام من على كاهل الوطن ... ضحك من كلامي ولم يستحسن الجواب، وقال أنت تحلم ... وفعلاً أنا كنت أحلم لأنني مؤمن أن النظام مهما طال الوقت يوما سينتهي ويصبح في برميل قمامة التاريخ ولا أعرف متى ؟؟ فهذا قدر مقدر في اللوح المحفوظ من الأزل وعلمه عند الله عز وجل .

                 كان صديقي وضيفي مهموماً مغموماً من بعض المشاكل التي يمر بها وغير قادر على حلها، ورددت عليه محاولاً التسرية عنه، لو يعلم كم من المشاكل التي أعاني منها سوف يرتاح، فأنا أعاني عشرات المرات أكثر وأصعب من  الذي يعانيه. ومازلت صابراً وأقاوم محاولا النسيان حتى لا أمرض محاولا التغطية للصعاب بمهارة ولا أريد الزوجة والأولاد والآخرين يحسون بها. تاركاً الأمر للعارف الله تعالى حتى يفرجها يوماً من الأيام إذا أطال لنا العمر وأفرح .

             لدي عادة كل يوم مهما كنت مشغولا أو مرهقاً ، أقرأ وأطالع بعض الوقت وأنا بالفراش قبل النوم ، والبارحة إطلعت على الخواطر التى كتبت الكثير منها منذ فترة وإستهوتني وعشت معها بجوارحي ومضت الساعات بدون أن أدري....وتطلعت للساعة ووجدتها حوالي الثانية بعد منتصف الليل، وقلت كان الله عز وجل في عوني ، لأن غداً هناك عدة أشياء لتنفيذها قبل السفر وأحتاج للراحة .

              في المدة الأخيرة مررت بتجربة مريرة كبيرة وطعنة في الظهر من أعز الرفاق نظير إختلاف وجهات النظر والدس والخبث من بعض المنافقين، ولا أستطيع العتاب ولا السب ولا نشر الغسيل القذر للبعض فقد كنا يوماً ضمن تنظيم واحد، إخوة في المصير ورفاق في الطريق النضالي، ونظير ظروف معينة وحسابات في نظرهم يعتقدون إنها صادقة نظير رؤيات معينة ومصالح وقتية يعتقدون فيها الفائدة العميمة، وفي نظرنا خاطئة تصرفوا تصرفات عشوائية بدون مشاورات مما أضر بالجميع ، وتقهقرت القضية الوطنية للوراء .

             المعدن الأصيل دائماً مثل الذهب ، حتى لو تكسر ممكن صياغته من جديد، أما الزائف مثل جرار الفخار عندما تنكسر لا يمكن إرجاعها مثل قبل من جديد، وهذا هو الفرق الكبير في نوعيات الرجال، بدون ضغوط قوية وأخطار وطول الطريق لا يمكن الفرز السليم والمعرفة لقوة التحمل والطاقة، حيث في الواسع والهدوء ووقت الراحة والسلام الجميع الغث والسمين رجالا مناضلين .

               والسؤال الكبير من هو المتوقع للزعامة الحقيقية ليقود المسيرة إلى تحقيق الهدف، الرجل الحقيقي الصامد المؤمن بالقضية ويعمل في صمت من أجل الوطن مهما عصفت الرياح والأعاصير، ومن هم الذين يدعون الرجولة والقوة والصمود ... وهم أدعياءا وأشباه رجال ، حتى يعرف المناضل مع من سوف يدعم ويخاطر.

                 والواقع أن أدعياءا كثيرين أشباه رجال عبارة عن مناظر وصور خدعوا الكثيرين بعض الوقت، سقطوا للقاع والحضيض عند أول هز للغربال، لم يستطيعوا الصمود حيث القلوب هواء ليس لديهم الجرأة والعزم على تحمل المشاق والخطر الذي هو الأساس للحكم على الرجال .

            يوماً من الأيام سوف ينتهي الطاغية من على كاهل الوطن ،  ونصبح أحراراً ... وسعيد الحظ من يطول عمره ويشاهد نهايةالنظام، وسوف تفتح الملفات وتظهر حقائق غريبة عن أمور عديدة لا تصدق من الكثيرين من أبناء الشعب، عن قيادات ورجال ، والواقع المرير عبارة عن أشباه رجال لظروف عديدة والحظ إستغلوا عرق وجهد ودم الآخرين المهمشين ووصلوا للقمة وهذه الأمور طبيعية من سنن الحياة... فنحن الآن نسجل ونسطر ونكتب تاريخ الوطن بدون أن ندري ونعرف من خلال الكفاح والتجارب العديدة، البعض منها قاتل....  وفي نظري من خلال المحن يفرز ويخلق ويظهر على السطح الرجال ذوي العزم، فليبيا أنجبت الكثيرين من الأبطال، ومازالت تنجب في الغث والسمين إلى ماشاء الله عز وجل.

          إنني لا أستفز أو أهدد أي أحد، وإختلاف وجهات النظر رحمة، وكل إنسان قيادي وله طريقته الخاصة في العمل والمواجهة ،  وخوفي ليس من أعدائي، بل من أصدقائي ورفاق الدرب النضالي، أخاف كيدهم والغدر يوماً ما، من جانبهم وأنا غافلا عن الأمر .

           كثيرون من الشباب الطلاب بالخارج المتحمسين للقضية ،  ضحوا بإتمام دراساتهم وتخلوا عنها بطيب خاطر وهم من الأوائل بالصفوف الدراسية نظير الحب للوطن، إستغلهم البعض أسوء إستغلال وتحصلوا على الجاه والأموال بإستخدامهم كأدوات وجنود للعرض ، والضحايا نظير الإندفاع وعدم التجارب،  همشوا مع الوقت وأصبحوا بآخر الطابور .

           أصابني الإحباط والحزن بسبب هذه القيادات الفاشلة التي لولا الجاه والمركز والدعم من القوى الخفية والحصول على الدولار مستعدون للإنسحاب أو التخلي عن المباديء وقضية الوطن، وتساؤلاتي للنفس هل أستطيع ضم الجهود مع بعض في بوتقة واحدة، وأغامر بالرأس وأخاطر بالحياة مع أمثال هؤلاء ؟؟  

                  صدق من قال إحذر عدوك مرة واحدة، وإحذر أصدقائك ألف مرة، فالعدو ظاهر للعيان وممكن الإحتياط منه، ولكن الأخ والرفيق عالم ببعض الأسرار، وممكن بقصد أو بدون قصد نظير المباهاة، يردي للتهلكة نظير زلة لسان في وقت ومكان غير مناسب .

                  كثيرون من المهاجرين تسلقوا عربات قطار المعارضة لأغراض خاصة، البعض نبيل وصادق محبا القضية من القلب والوجدان بضمير ، والكثيرين عبارة عن حسابات خاصة للوصول لهدف معين ،  وما أكثر من هؤلاء الأدعياء الذين أجهدوا المسيرة من المضي بسرعة ،حيث مشاكلهم لا تنتهي طوال الوقت، من الدس والخبث والمزايدة ولا يعجبهم العجب ،  وكان الله عز وجل في عون الشرفاء الذين مروا بالأيام السوداء وهم طوال الوقت يحاولون المصالحة حتى لا يتوقف القطار في أحد المحطات النائية ولا يستطيع السير بقوة ، وعندها المصائب ، تحل على رؤوس الجميع .

                في أحد الرحلات السابقة في مدينة لندن تحدثت مع أحد الشباب الليبين الذي كان والده من الأثرياء أيام الغفلة، وكان يبلغ الثلاثين من العمر، وأثناء النقاش كان يسب ليبيا والليبيين و يقول أنهم سلبيون وكلام كثير مبتذل في نظري، وقال أنه سعيد أنه يعيش في بريطانيا، وبدأ يعدد في الفروقات ،  وجاملته بعض الوقت وأنا أحترق داخل النفس على مثل هذه العقليات الجاهلة في نظري مع أنه يحمل شهادة جامعية عالية ، وقلت سبحانك ربي الكريم، هل ليبيا يوما سوف تنهض بعقليات حقودة حاسدة جاهلة مثل هذا الدعي ؟؟ الذين عائلته نهشوا خيرات ولحم ليبيا بالنهب بالسابق ويعيشون في الغربة على أموالها، ويتشدقون ويزايدون ،  بدلا من مد يد العون أو العمل النضالي مع الآخرين من أجل الأم الحنون التي الآن بحاجة إلى العون.

              ونصحته بصدق، وقلت له مصير الغريب يوماً يرجع للوطن ،  ولا تقل هذا الكلام المبتذل وتسب الوطن، يوماً ما سترجع وتكون منبوذاً من الجميع نظير تراهات اللسان.  صدم من الرد والصراحة، وإنني لم أخدعه، ورجع لعقله وحاول الإعتذار ولملمة الموضوع، وخرجت من المحل وأنا حائرا ومتعجب أن بعض هؤلاء الشباب الليبي بالمهجر ليس لهم ولاء ولا إنتماء للوطن، وفي نفس الوقت أعطيته بعض العذر، لأنه ممكن إختلط مع نوعيات تافهة، أو المرارة والحرقة وهو يسمع في المظالم التي تحدث بالداخل والتمزق والتشرذم للمعارضة بالخارج، وقلت للنفس لو إستمر النظام عقوداً طويلة أخرى، ماذا يكون الحال، مع شباب الغربة والمهجر؟؟

              كنت ضيفا في أحد الولائم، وتطرق الحديث من أحد الحضور وتشعب عن خيرات ليبيا، وسهولة النجاح بها وأنها بدون منافسة ، وقلت ردا عليه بإستهزاء أنت تحلم ... النفوس تغيرت وستجد منافسة كبيرة أمامك فالليبيون تغيرت نفوسهم وليسوا مثل أيامنا في السابق ... ورد قائلاً ياحاج إذا رجعت يوماً للوطن أنا رجل أعمال وسوف أدخل للسوق بمواضيع كبيرة يعجز عليها الكثيرون وسوف أنجح من جديد، ولكن سوف أحول جميع المال للخارج وأترك ديون لدى المصارف حتى لا يتم تأميمها من جديد ... وقلت للنفس  سبحانك رب العالمين، هل ليبيا منكوبة إلى هذا الحد من التفكير الشيطاني لبعض رجال الأعمال والتجار بدلا من التفكير في الخير والمساهمة في البناء والتشييد والإعمار، لكي يخطط البعض من الآن كيف يستغلون الأمر؟؟

              ونقاش آخر مع أحد الضباط الكبار السابقين المتقاعد "عواجيز" العهد الملكي، الذين تشردوا بعد الإنقلاب الأسود يوماً في ساعة صفاء، فتح قلبه وقال لو تتاح لي الفرصة مرة ثانية وأُصبح من ذوي القرار في الوطن، سوف أصفي الحسابات وأنتقم من عديدين يحتاجون للبتر من المجتمع نظير أعمالهم المشينة وعدد بعض الأسماء، وكان ردي عليه بسيط:  دع الخلق للخالق فهو العادل والمنتقم ، وأحسن شىء أن تنظف قلبك من الأحقاد، فأنت الآن على أبواب الثمانين من العمر ومازلت تطمح في الوصول والإنتقام، جهز نفسك للرحيل حتى تلاقى الرب بقلب طاهر.  وإبتسم وقال ياحاج عندك حق، وشكراً على النصيحة القيمة الغالية .

               تساءلت مع النفس وقلت لماذا يزداد العويل والضجيج عندما تتم إتصالات مع البعض بالداخل، أو اللقاءات بالصدف في المطارات والمستشفيات أو بالأسواق صدفة بالخارج أو عن مواعيد عن طريق ثقات، وتلوك الألسن علينا ونوصم بالعمالة نظير الجهل...  ولولا الإتصالات مع الداخل بطرق كثيرة وتسريب المعلومات القيمة كيف كنا نستطيع المقاومة، وإفشال مخططات القذافي .  وأي خطأ بسيط لو تم الإتهام لهؤلاء الذين سيرجعون للوطن،  سيدفعون الثمن الغالي معرضين حياتهم للخطر، أما بالخارج ذوي الجعجعة والهراء ورمي التهم جزافا، أيادي القذافي السوداء قاصرة عن الوصول لهم بسهولة حتى يدفعون الثمن .

                أحد الأصدقاء المتعاونين مع المعارضة قدم إلى إيطاليا للعلاج، بعد أن تحصل على تأشيرة الخروج بالسفر بعد سنة ، و عندما فحصه الأطباء تبين أن مرضه كان نتيجة عوامل وهواجس نفسية تتعلق بالخروج والسفر وليست لديه أية أمراض لعلاجها، وبعد بعض الفحوصات البسيطة خلال فترة أسابيع رجع إلى طبيعته العادية ولم يشكو من أي شىء، والمرض عبارة عن كآبة وضغوط شديدة نظير المنع، وآلاف الحالات التي أودت بكثير من أبناء الشعب الليبي موارد الهلاك نتيجة حكم التسلط والقهر والإرهاب من مجنون طاغية. وتمت إتصالات هاتفية عديدة مرتبه عن طريق أحد الثقات من الأصدقاء الإيطاليين (ماريو)، بحيث صعب متابعتها من النظام ،  وتحدث المريض بالكثير من المعلومات القيمة والتحذير من بعض أسماء العملاء المندسين في أوساطنا بالخارج والتي تهمنا كجالية مهاجرة حتى نستطيع أن نعمل من خلالها إفشال الكثير من مخططات اللجان بالخارج، وتم العمل بها وكانت ذات فوائد كثيرة جمة للمعارضة!

              يوجد الكثير من رجال مسؤولين في مناصب كبيرة بالدولة كنا نخاف منهم لأنهم رجال النظام وهم أبرياء، يعطلون في كثير من الأمور بالتعطيل والتأجيل والتسيب المتعمد عن الإنجاز السريع مما تفشل كثير من الأوامر والأمور العشوائية وتتاح الفرص للكثيرون للهروب قبل أن يتم القبض عليهم والتحقيق العشوائي والتعذيب العنيف الذي قد يؤدي إلى الموت.  يتحملون المسؤوليات الجسام ويخاطرون بحياتهم ويسربون المعلوماتال كثيرة، والظروف أجبرتهم لتقلد المناصب الكبيرة كحضور وأجسام مناظر لها الرهبة والخوف منها ولكن الضمائر حية، يحبون الوطن، يضعون الحياة ورؤوسهم على أكفهم في مخاطر نظير خطأ أو زلة لسان، أحسن من كثيرين بالخارج يزايدون وهم أدعياءا متسلقين .

               إرتكب النظام أخطاءا عديدة نظير الجهل وقوة الدخل والمال، لو كانت عندنا التجربة الكاملة والخبرات لكنا إستغلينا الأمر أحسن إستغلال، ولكن المشكلة النظام يتخبط طوال الوقت ويجرب، ونحن كذلك كمعارضة نتخبط بدون تفاهم ووحدة عبارة عن إعلام وكلام وتراهات ومهاترات وكيد ودس من كثيرين من الأدعياء، لدينا الهدف واضح، إطاحة النظام، وليست لدينا الأدوات والدراسات الجيدة في التنظيم والتخطيط لمعايير النجاح والفوز فنحن نلعب في مباراة طويلة شبه خاسرة من البداية، لأن الأساس لنجاح الثورة هو الداخل إذا لا يهب ويتمرد ويعلنها ثورة قاتلة الفشل أكيد،  فلا يمكن محاربة النظام من الخارج وإنهاؤه بسهولة ونحن بيننا وبينه محيط شاسع ...

                   المعارضة بالخارج عبارة عن إعلام قوي وتشويه وفضح النظام في جميع المحافل والمؤتمرات الدولية، مثل طنين البعوض المزعج بالقرب من الإنسان، تحلق وتكرر الدوران عدة مرات بإصرار، تذهب العقل "تدوشن"، تجعل الجسم يتراقص خائفا حذرا من اللدغة الحارة والواقع عبارة عن طنيين وإزعاج بدون ان يقتل .

                   إستفحل الداء بالوطن نظير حكم الإرهاب، ولا يمكن محاربة النظام إلا بنفس الأسلوب عن طريق الخوف والإرهاب لأعوانه المقربين الذين يعيثون الفساد، يتجولون كما يحلو لهم في مدن وعواصم العالم من غير أي خوف، حتى يتحرك الشعب من الداخل ويشعر ببصيص من الأمل وتبدأ المقاومة بالنمو كل يوم للأحسن والأفضل، حتى يوماً تهب بقوة جامحة تخنق أنفاسه وتنهي نظامه بثورة عارمة .

                الخميس يوم 1987/7/23م وصلت لمطار هيثرو لندن وبعد المعاملات للدخول أخذت عربة أجرة ورأسا إلى فندق رويال لانكستر، وقبل النوم تم إتصال هاتفي مع أخ الدهر الصابر مجيد الذي أتى حوالي الساعة الثانية ظهراً إلى الفندق والذهاب للغداء في بيته...  وبالطريق إلى البيت قلت له عن الغرض للقدوم إلى لندن، وكان رده آسف لا أستطيع مما كتمت الأمر ولم ألح وأزيد في الشرح للموضوع حتى أدع له الوقت للتفكير في الطلب وحل المشكلة وجاء قريبي مفتاح بن عمران وحضر معنا مأدبة الغداء، ونقاشات كثيرة معظمها تدور عن الهم الذي نعاني منه وندور... وبعد الغداء خرجت مع الصابر لوحدنا للحديث الخاص ومقابلة الأخ رمضان بن موسى الذي حضر إلى لندن مع العائلة والأولاد لعلاج زوجته المريضة، وكان نعم الرجل الواثق من نفسه، قليل الكلام والشكوى، يحب الوطن من أعماق الروح والنفس، وتحدث بمصداقية وكم يعانون بتحفظ... مما أكبرت فيه الصراحة، ولم أبالغ في الطلب وتأييد المعارضة بالمعلومات والدعم بالمال وبالأخص أن مثله لا غبار عليه، حتى لا أصاب بالإحباط في حالة الرفض، وتركت الأمر للأيام . 

                ركز الصابر على سوء التفاهم الذي حدث مع أحد الرفاق، وحاول رأب الصدع، والوحدة مع الجبهة الوطنية والعمل معاً حتى  نتوحد بدل الفرقة والتمزق...  وحسب قوله الجملة جمل صعب إبتلاعه بسرعة، وشكرته على السعي والوساطة والمصالحة التي نحن في أمس الحاجة لها، ولكن كانت لدي تحفظات وهواجس سابقة منذ البدايات مع الجبهة نظير أخطاء قاتلة مازلت أدفع ثمنها إلى الآن عن الخداع وعدم الصفاء في الشراكة النضالية ولن أستطيع تحت أي ظرف المغامرة مرة أخرى...  وكنت عنيداً لم أرضخ مهما حاول، فأنا غير مستعد لأي ظرف أن أتعاون مع قيادات تريد السلطة بأي طريقة وهي مازالت بأول المشوار، وشرحت له الأسباب ولم يقتنع ... وأثبتت الأيام صحة القول، حيث بعد سنوات تغير المسار معهم إلى الفرقة والعراك والتشرذم بعد الدعم القوي، المال والمعلومات من جماعة درنة الصابر مجيد والعراب أحسين سفراكس وأثبت إنني كنت على حق وصواب ... والصابر شخصياً أكثر من مرة قال لي عدة أشياء بمرارة عن المعاملة السيئة والتهميش، ولا داعي للذكر ونشر الغسيل القذر .

                إتصالات كثيرة سواءاً بالحضور أم بالهاتف مع عديد من الرفاق والأصدقاء فقد كنت نظير الإطلاع والمتابعة مما تحصلت وعرفت الكثير من المعلومات السمين والغث حتى نحافظ على أنفسنا والغير من البسطاء المهاجرين من أن يضيعوا هباءاً بالإغتيال وهم أبرياء، فالنظام يقتل بالخارج لإشاعة الرعب في الجالية حتى تستكين ولا تقاوم، ولم أهتم بأي مورد عمل وعيش، ولم أمد اليد لأي إنسان وأريق ماء الوجه كما عمل الكثيرون ، بل عشت صابراً على الأيام، وتحصيل بعض الديون السابقة وقرض كبير من أحد الأخوة الرفاق، الذي أعانني على الإستمرار في العيش الكريم .

               رجعت إلى أمريكا بعد أن قضيت أياما في لندن جميعها تعب وقلق من المجهول، حائرا لدى شعور غريب ينتابني طوال الوقت من شىء ما سوف يحدث غير عالما به ، عسى أن يكون خير ... وسمعت الأخبار المؤسفة أن جد أولادي وخالهم، تم القبض عليهم والإيداع بالسجن من قبل عقيد الأمن الداخلي السنوسي الوزري، والتهم الموجهة نظير بعض المكالمات الهاتفية المتبادلة مع العائلة في أمريكا... وكم تأسفت للأمر، ولكن ليس باليد حيلة حتى أساعدهم ويتم الإفراج عليهم، وزادتني هذه الخطة الخبيثة للضغط علي من خلال أقرب المقربين... الإصرار في العمل النضالي والكفاح لآخر نقطة دم ونفس .

               لا أنسى هذه الرحلة فلها ذكريات خاصة تحتاج إلى وقت طويل فقد تعلمت أن الإنسان المناضل من غير دعم ومال لا يستطيع المضي في المشوار، وأكبر خطأ صرف المال الخاص بالعائلة والأولاد على السياسة، المفروض لكل شيء ميزانية قبل البدأ والتقدم إذا أراد الإنسان البدأ بأول خطوة نجاح، ويقوم  بالإحتياط للصرف ساعة الصفر والحاجة الماسة للعيش الكريم ، ففي حالة النضوب يكون الضياع على الجهتين والوجهين، وهذا الذي حدث، خططنا للرجوع للوطن منصورين بسرعة خلال سنوات بسيطة مرت، ولم نحسب حساب التعطيل عقودا من السنين الطويلة ولم نمد أيادينا إستجداءا لكل من هب ودب، صابرين ، ننتظر  رحمة الله تعالى .

 الصبر الصبر فالله عز وجل حي موجود في الوجود ولن يتأخر عن العون للشرفاء الأتقياء، وكل بداية لها نهاية، ومهما طال الوقت للنظام، يوماً سوف يسقط وينتهي من الوجود مهما طغى وتجبر فالقضية الوطنية يهون فيها بذل كل شيء... الأرواح والدم وليس المال فقط ،  لقاء الفوز والنجاح بشرف وكرامة...  والله الموفق ...                 

     رجب المبروك زعطوط

 البقية تتبع...

قصصنا المنسية 49

بسم الله الرحمن الرحيم

 نوعيات الرجال

                          في بعض الأحيان تشدني رغبة كبيرة للكتابة وتسطير الخلجات والخواطر التي تتردد بالنفس بعض الوقت تريد الخروج والإنطلاق إلى الأجواء بالعالم الفسيح للإطلاع عليها من البعض عسى ان تكون ذات فائدة يوما من الأيام ، والتي أشعر بعشرات الخواطر متشابكة مع بعض تجيش بالنفس قبل أن أنساها وتضيع مع الوقت ومرور السنين ... وكتبت الكثير والكثير عندما وجدت بعض فراغ الوقت، بدلا من تضيعه في اللعب ، أو مشاهدة الأفلام في القنوات المرئية العديدة التي تخلب اللب وتسحر وبالأخص في أمريكا ، مصنع الإعلام والأفلام .

                  وقال لي أحد الأخوة الأوفياء الذين ربطتني به صلة أخوة وصداقة في الله تعالى من أيام الشباب والدراسة بالسابق أيام الوطن ومصاهرة وعلاقة دم بين العائلات ، وزادت الأواصر بالغربة، ووقت الضيق، الذي قال متسائلا لماذا تتعب  نفسك وتكتب طوال الوقت وتسطر ؟؟ فنحن جميعا لدينا خواطر ونعيش في نفس المأساة ، الضيق والتعب في الغربة  بعيدين عن الوطن .

                  ورددت عليه قائلاً ، ياصاحبي أنا أعرف ذلك، والفرق بسيط بيني وبينك، فأنا أسجلها على الورق حتى لا تضيع وتنتسى مع الوقت، أو أتوفى فجأة أو أصاب بمرض صعب لا أستطيع التذكر والكتابة ، على الأقل أولادي من بعدي يقرؤن بعض الذكريات عن مامر بوالدهم من صراع وتعب بالغربة والنضال ويعرفون كم عانيت من أجل البقاء والعيش بكرامة ضمن القيم ...ويوماً ما إذا أطال الله عز وجل الحياة والعمر ، سوف أتابع قراءتها وتنقيحها قدر الاستطاعة والصياغة من جديد في حالة النشر .

                   وأنت ياصاحبي تضيع الوقت الثمين هدرا مع أنه عندك وقت الفراغ الكثير، وبالأخص طليقا بدون مسئوليات عائلية ومعاناة ، ولا عمل متقاعدا بدل التضييع في مشاهدة الأفلام العديدة كل يوم والزيارات والرياضة، تعمل شيئا مفيدا تشغل به الوقت، تسطر كل يوم بعض الكلمات كمذكرات ويوميات عن تجربتك في الحياة العملية لعدة عقود وما مر بك من قصص ، يوما ما سوف تحتاج لها، تفيد بها الآخرين.

                 كتاباتي هذه  سوف تصبح يوماً موسوعة بها الكثير من المعلومات والتجميع للأحداث الحلوة والمرة لبعض الدارسين، الذين يرغبون تقديم بحوث ودراسات عن القضية الليبية المعارضة بالخارج في فترة الثمانينات، وتعدد الفصائل الكثيرة وتناحرها مع بعض، من بعض الزعامات الهشة أو الأدعياء على تفاهات شخصية من الدس والخبث وتدخل وتغلغل عملاء النظام، وأشباه الرجال المتملقين المتسلقين ، والكثير من الأجهزة الأمنية الخارجية لقاء عمالة وفتات مثل الموافقات على البقاء والإقامة والدعم بالمال مما زادت الفرقة والتمزق والتشرذم، بدل الوحدة والتعاون ضد العدو الجاثم بالوطن القذافي المجنون .

                  ضاع الشرفاء الوطنيين وسط الخضم وهم كثيرين في الظل والصمت لا يريدون الظهور في العلن حتى لا تطالهم الألسن الخبيثة بالخارج التي تحب الهدم والإنقسام والعقاب من النظام، وأن يستشف منها بعض الذي دار على الساحة بالغربة من خير وشر وخصام فارغ، فقد كتبتها بكل الصدق والإخلاص حسب القدرة والفهم، ومتحملا جميع المسؤولية في أي كلمة سطرتها وكتبتها حيث أمانة تاريخية، وأنا إنسانا مؤمنا متدينا، لا أخون مهما كان الظرف، أريد الفوز والنجاح يوما بالآخرة وليس بهذه الحياة والدنيا الزائلة التي مهما طالت لها يوما موت ونهاية .

               تبسم صاحبي ولم يعلق، ولدي القناعة داخل النفس من غير أن يقول، أنه غير مقتنع بالرد والحجج، وهو حرا في نفسه سواء أقتنع أم لا ؟ فأنا مقتنع بالذي أعمله وسوف لن أتوقف ، فالكتابة أصبحت جزءا من حياتي مثل القراءة والإطلاع المستمر، ففي الكتابة أجد راحة نفسية تنتابني وتخفف الآلام بالنفس عن المعاناة والمرارة بالغربة والنضال، حتى لا تسيطرالهموم والمصاعب والآلام على الذات وأسقط مريضا بحاجة إلى علاج طويل ونقاهة وراحة من الصدمات ،  مثل ماحدث للكثيرون من الإخوان والرفاق، الآن مرضى بدون شئ ظاهر للعيان ولا ألم نتيجة الضغوط الكبيرة والإصابة بمرض االعصر الحديث الكآبة، وعندها المصائب تحل بلا نهاية .

                     عن قريب إذا أطال الله عز وجل العمر ، وأقمت في مكان مريح، آمن بدون خوف ولا ضغوط و إرهاب، سوف أجمع جميع الورقات التي كتبتها الموزعة بين ليبيا وأمريكا في عدة أماكن، وأضعها بالترتيب وتصبح يوميات رحلة حياة عما شاهدته وقمت بعمله وماذا حدث من أحداث وطرائف ومغامرات من البداية ، من أفراح وأتراح وحزن ومخاطر، فالحياة مستمرة ويوماً سوف تكون ذات قيمة وفائدة للبعض سواءا العائلة أو الغير، وأنا فخورا بماذا قدمت وعملت وأرجو من الله عز وجل الصلاح والتوفيق في الطريق النضالي الذي إخترته بمحض الرغبة والتطوع بدون طمع في مكافئات وجوائز... إنه دين كبير في عنقى حتى أرجع يوماً لوطني منصورا رافعاً الرأس كريماً .

                 لقد مررت بتجارب وأهوال كثيرة، وفي بعض الأحيان عندما أكون لوحدي في جلسة صفاء ومراجعة للذات والنفس، راجعا بالذكريات للوراء، العرق يتصبب من الجسم وأشعر برعدة ورعشة خفيفة تنتابني من بعض الأحداث الصعبة التي مرت على منذ زمن وإنتهت وقفلت الملفات للأبد، وأتساءل هل معقولا أنا الطرف الرئيسي فيها وبطلها، ومازلت حيا أرزق ؟؟ ولو لم أكن عارفا وملما بجميع التفاصيل الدقيقة لأصابني الشك وأقنعت النفس أنها عبارة عن تخيلات وإدعاءات .

                 الكثيرون يقولون عن بعض الأحداث أنها شجاعة وبطولة ورجولة ويعددون ويكررون في الحدث ويضيفوا عليه بعض الإضافات مما يتضخم ويصبح أسطورة، وردي عليهم بسيط من خلال التجارب الصعبة أن (الرجال محاضر وليسوا مناظر) فياما من رجال كنت مخدوعا مغررا فيهم إعتقدت أنهم ذوي شجاعة وإقدام، وأثبتت الأيام أنهم في قمة الجبن والخوف ساعة الخطر، أشباه رجال لا يعتمد عليهم خطوة واحدة لحظة النداء والفداء، يتراؤون للكثيرين عديمي الفراسة والتجربة انه يعتمد عليهم نظير بسطة وضخامة الأجسام وقوة العضلات وطلاقة اللسان وحلو الكلام وهم منافقين من أجل  الحصول على مصالح، حيث مناظر كبيرة ولكن هشة ، تسببوا في الضرر للكثيرين من رجال كثرت الأقاويل عليهم ولاكتهم الألسن باتهامات كثيرة أنهم عملاء ومتسلقين يسعون للصدارة والقيادة، نظير الحقد والحسد للتهميش وجعلهم بآخر الطابور، حتى لا يهتم بهم أي أحد ويصبحون هم بالمقدمة ... وساعة الصفر والخطر هؤلاء المبعدين المستهزأ عليهم أثبتوا الوجود بأنهم رجالا أقوياءا ذوي عزم وجرأة نادرة وشجاعة وحسن التصرف وقت الحدث قادرين على الصمود والتصدي بدون أي نوع من الخوف .

                مررت بمواقف صعبة جداً في بعض الأحيان ومسيرة الحياة، ولحظات الغضب والخطر تتفتح الشرايين ويتدفق الدم بغزارة هادراً بالجسم وتشد العضلات، ويتوقف العقل عن التمييز وإعطاء الرأي الصحيح، وينعدم الخوف والحواس جميعها في حالات إستنفار قصوى حتى يمر الحدث بالخير أو بالشر وينتهي ، وتختلف الأحاسيس من شخص لآخر ،  فالبعض يسقطون ويتداعون بسرعة ويصابون بشلل وإعياءا وضعفا وقتي، مع أنه لديهم القوة البدنية ولكن ينقصهم العزم والإقدام والجرأة، قلوبهم هواء يوصمون بالجبن، والبعض في الظلال لديهم العزيمة وقوة القلوب والجرأة، يقومون بأعمال بطولية أكثر من قدراتهم وإمكانياتهم في اللحظات الحرجة ويوصمون بالشجاعة والإقدام، وفي نظري خلال ماشاهدت خلال بعض المواقف الصعبة على الواقع المرير وشاهدت بأم العين في مواقف الخطر للبعض ، أن الشجاعة والإقدام موهبة ، وليست إكتساباً من الأيام ودروساً تعطى في المدارس للفهم والتحصيل .

                      تعلمت من الأيام، وخدعت في كثيرين مع طول الوقت والمسيرة وتساقط العديدين مثل أوراق الشجر أيام رياح فصول الخريف العاصفة الباردة، وبدأت أتحسس محاولاً الفهم للخلفيات عند حدوث أمور تعتبر بسيطة تافهة لا يهتم بها أحد، ولكن مع الوقت تصبح قاتلة، فالحكم على الرجال من أصعب الأمور بسرعة ، حيث لها أساسيات كثيرة أهمها، الإختلاط والسفر، المعاملة المادية والجيرة، رفقة النضال والجهاد، الكرم...  ففي نظري ومن خلال التجارب، البخيل لا يعتمد عليه في أي ظرف نضالي صعب حيث ممكن السقوط فى أحضان العمالة للأعداء نظير حب المال والإغراءات ، وإن كان عفيفا يحسد الآخرين في أي شىء كان ولو في لقمة طعام، لا يحب الصرف والدفع، ويشكك في أي موضوع يحتاج للعطاء والصرف والتبرع، مترددا في إتخاذ القرارات المهمة، مثل الشيخ وفقيه الدين الذي يحب أن يأخذ الصدقات ولا يتكرم ويعطي ويهب للآخرين غير الفتات .

                 حالات كثيرة مررت بها في خلال رحلة الحياة، وأتذكر عشرات الحالات، وسوف أذكر البعض للتدليل بدون ذكر للأسماء، مع العلم أنه لو أتيحت الفرص والذين أعنيهم مازال البعض منهم أحياءا يرزقون قرؤوا هذه المدونة سيعرفون أنفسهم، وأن كل كلمة كتبتها بضمير حق وصدق، وليس كيداً وكذباً وحسدا، محاولاً النيل منهم، أو الإدعاء عليهم بدون وجه حق .

                لقد تعرفت بأحد الأشخاص فترة طويلة حوالي 16 عاما ذقنا فيها الحلو والمر مع بعض، وكنت أعتبره من إخوة الدهر، ولم أبخل عليه طوال الوقت بكل ماهو متاح ومستطاع بجميع الجهد، والنهاية نظير ظروف صعبة عديدة مادية، وتشويش ودس الأراذل من الخبثاء نسى الماء والملح والعشر، وإنني صادق معه في كل لحظة، وإنتهت المصلحة، تآمر مع بعض أشباه الرجال ، نظير الحصول على مركز وجاه زائل ... وعرف الخطأ الذي إرتكبه بعد بعض الوقت عندما جرب الآخرين وعرف كم كنت أعاني منهم في صمت ... وحاول بكل الجهد الإستمالة والرجوع كما كنا من قبل .

                وجاءني أخ العمر الحاج الصابر كوساطة لرأب الصدع حتى ترجع المياه لمجاريها ونصبح رفاقاً كما كنا من قبل ولكن الأساس ضاع، الثقة زالت وكان رأياً قاطعاً لا شراكة ولا عمل مع بعض ، والصداقة سوف تستمر فقد أكلنا عيش وماء وملح مع بعض طوال سنين عديدة، ولم أحرق الجسور بل تركت الأمور تجري في أعنتها، ولكن ليست مثل السابق، إحتفظت به كصاحب وصديق ورفيق سابق، حتى يتعلم ويعرف قيمة الرجال وقت الضيق والمعاناة، فليس الحقد و الحسد والتشفي من أخلاقياتي وطبيعتي، وتركت الأمر لصاحب الأمر الله عز وجل ... فلي عشم ... والآن هو في رحمة الله عز وجل، الله يرحمه ويحسن له فقد كان نعم الرجل والرفيق يوما مضى إلى غير رجعة .

               أحد الحالات والنماذج، خدعنا في أحد الرجال، وتم تقديمه كمناضل يرغب في الإنضمام للتنظيم، وكنت أعرفه معرفة سطحية ومن أبناء العمومة فى القبيلة ( التواجير ) من بعيد ،،، كان يدعى الشجاعة والعزم وخدع الكثيرون بالتملق والنفاق وكان لدي شعورا داخليا ما وأحاسيس، أنه أجوف، لا أعرف لماذا ؟؟ وساعدته قدر الإمكان بتحفظ، وحدثت معه عدة حوادث من خلال الممارسات وعرفت أنه متسلق يحب الدس والفتن وسبب لي إحراجات كبيرة نظير الوشايات الكاذبة مما نظير الثقة العمياء تسرعت بسبب معلومات خاطئة من طرفه وطردت بعض الشباب من العمل والسكن في فرجينيا في شهر رمضان الكريم وكانوا أبرياءا، كان متفانياً في الخدمات لأغراض شخصية، دائماً بالجوار يتملق و يستقطب الأخبار، ونسيت مع كل الفهم والمعرفة التي لدي نظير الثقة ، أنه يلعب على الحبال ذو وجهين، مما سبب الشرخ بين الرفاق نظير الدس والفتن، ولما تأكدت من الألاعيب وضعته على الرف بدون أي إهتمام، وأقفلت ملفه طوال الحياة .. ولا تعليق عليه سواءا خيرا أم شر، فالرب القادر عارف وهو صاحب الأمر .

                أخطر الحالات التي مرت علي من أحد أدعياء العلم والمعرفة، تعرفت به في الغربة، ورشحه أحد الرفاق المحترمين بأنه من أبناء عمومته ومنطقته وفي الثمانينات حاول قدر الإستطاعة وعشرات الإتصالات أنه يرغب في الإنضمام معنا في التنظيم، وتم السؤال عنه والتحقق أنه ليس عميلاً مدسوساً، ووافقنا عليه، وزكيته وشملته بالرعاية، وتدرج في المناصب وفي وقت قليل وصل إلى الإدارة، وتعرف بالرفاق، كان ذكياً بخبث مستور في الخفاء يعرف كيف يأكل الكتف السمين، وبعد مدة عرف الكثير مما دار في الخفاء من أمور، رؤوس مواضيع وليس بالتفاصيل ... حاول تغيير المسار للتنظيم نظير أفكاره اليسارية التي لا تتمشى معنا. وعندما وجد التصدي، إنقلب إلى عدو كاسر في الخفاء، يدس الفتن وسط الرفاق بفن للوصول، وإستغل غباء وطيبة البعض وزين لهم كثيراً من الأمور .

                  والنهاية للقصة منعا للشر أن يستفحل وغسيلنا القذر يظهر للسطح ويسبب لنا الأضرار الكثيرة والكبيرة ، أنا الذي تراجعت حتى أتخلص من الرفقة المزعجة وإنسحبت في هدوء من غير أن أغضب أي أحد، قائلا للنفس إتق شر من أحسنت إليه ... فممكن هذه العثرة والدس الكاذب لمصلحتي، قدر مقدر وضع العراقيل في الطريق ضدي، حتى أتنحى وأترك هذا الطريق، فهذه الرفقة السيئة يوماً سوف تجلب المصائب والنحس حيث لدي عشم، نظير الإخلاص والثقة كل من حاول النيل مني بطريقة أو أخرى دفع الثمن، وأثبتت الأيام صدق القول، عندما تركتهم في صمت وسكون بدون ضجيج، ليس خوفاً ولكن قمة الشجاعة الأدبية، والله يسامحه على الفعل ، وأنا متأكد أنني مظلوم من الإدعاءات وهو يعرف.

               مهما كتبت عن هذه الحالات، سأحتاج إلى ملفات كثيرة للذكر، لا أدعي البراءة ولا أنني معصوما من الأخطاء، وأكيدا علي ملاحظات عديدة لا اعرفها ولا أعلم بها، والمشكلة لا يواجهون الأمر بقلوب نظيفة وحجج دامغة وشفافية حتى يتحاور الإنسان معهم ونصل إلى حل وحلول بالمنطق، وأعتبر الأمر جميلا أنهم نبهوني للخطأ حتى لا يتكرر، وتتجدد الأخوة والصداقة لباقي العمر، ففي نظري لا يمكن أي عمل سريع يتم من غير بعض الأخطاء... وأنا آسف إذا أخطأت في حق أي أحد ... ولكن هؤلاء كانوا يحاولون إزاحتي فقد كنت سداً منيعاً عائقا أمامهم .

               دائماً أعطي الأعذار لغيري ولا أحب أن أتسرع فقد تعلمت من بعض الأخطاء السابقة التي إلى الآن دائما أمام ناظري حتى لا أكررها مع آخرين، والحمد لله عز وجل، لدي موهبة عظيمة، وصفة جيدة حميدة، عندما أنام كل ليلة وأضع رأسي على المخدة، لا أحمل حقدا ولا حسدا لأي إنسان مهما كان ...  مهما حدث من سوء فهم أو عراك، مسامحاً الجميع، طالباً السماح لأنني لا أعرف عن يقين اليوم الثاني سوف أصبح حيا أرزق أعيش، أم ميتاً في ذمة الله تعالى .

                  سردي لهذه الحالات من عشرات ومئات خلال رحلة الحياة، لا أريد الإدعاء بأنني الفاهم والعارف، أردت ذكرها بتجرد وصراحة ولو على النفس حتى يتعلم غيري من الشباب في المستقبل أن لا يتسرعوا في الحكم في أي موضوع مهما كانت الأسباب حتى يتأكدوا من صحة الأخبار والمعلومات، وإنها ليست وشايات ودس وخبث، ولا يقعوا في الأخطاء مثلنا، ويقدمون الثمن الغالي من جهد ومال وتضييع للوقت الكثير الذي نحن في مسيس الحاجة لإستغلاله للوصول للغايات النبيلة منصورين ، ويختصروا الوقت نظير التجارب والمحن والمعاناة التي مرت بنا خلال الغربة والمعارضة التي إستمرت سنين طويلة للنظام بدون أية أطماع مستقبلية، والله الموفق .

 رجب المبروك زعطوط

 7/7 /1987م

Sunday, September 13, 2015

قصصنا المنسية 48

 بسم الله الرحمن الرحيم

 ذكرى المولد النبوي

             الحمد لله عز وجل على الصحة والعافية وطول العمر، الحمد لله تعالى على الهبات والأفضال الربانية، حيث عشت سنوات كثيرة إلى الآن في هذه الحياة الحلوة والمرة، وشاهدت الكثير خلال عمر ومسيرة حوالي سبعة عقود من أفراح وأتراح، من ضيق وفرج ، وشاهدت وعشت العديد من العادات الحلوة التي كانت موجودة تمارس بالطبيعة والفطرة، حيث كنا نعيش أوقاتها أيام الصبا والشباب في بدايات الخمسينات من القرن الماضي في فرح وسعادة بدون هموم وغم إرهاب ودم مثل الآن من خوارج مارقين .

               الآن بدأت تتلاشى مع الوقت وتصبح في عالم النسيان نظير مشاكل ومشاغل الحياة وتقدم العلم في عصر العولمة، حيث من وجهة نظري ورأي الخاص أن الإنسان بدون ماض كريم مشرف له أساسات ودعائم تجعله مرتبطا روحياً بأمور كثيرة تتعلق بالدين، ترتاح وتطمئن النفس لها بالفطرة ، وعدم تطبيق العادات الجيدة المتوارث عليها، يفقد معايير كثيرة إيمانية وروحية ومع مرور الوقت تنتسى وتصبح في زوايا النسيان...  حيث الآن نعيش ونجري ونلهث وراء العالم الغربي بحجج العلم والتقدم وعلماؤنا بإمكانهم عمل الكثير لو أتيحت لهم الفرص والتقدير والتشجيع في أوطانهم العربية ولكن معظمهم عاشوا بالغربة وأبدعوا في كثيرمن الإختراعات ونسينا تطبيق ديننا الحنيف الإسلام الصحيح وماضينا المشرف بالأ مجاد وحضارتنا العربية الإسلامية ، وشعلة النور التي أضاءت العلم للغير عبر العصور والزمن .

                       حكامنا وأولاة الأمر لدينا في العصور الأخيرة ، نظير اللهو والمجون والتنافس على السلطة والبقاء فيها حاكمين ، مهما كلف الامر من إرهاب وضحايا من جور وظلم وعدم التقدير والخوف من السمو والتجديد ، ضاع علماؤنا، وأصبحنا نعيش في الظلام، حتى وقتنا الحاضرالآن الذي بالكاد قادرين على فهم بعض الأمور التي سادت يوماً والآن تلاشت و بادت، نظير خضم الحياة التي تتصعب كل يوم في عصر العولمة والحواسيب والنت والتقدم العلمي الهائل الذي يعتمد على المادة في الإتصالات وسهولة المواصلات، ناسين الأساس الداخلي الروح الإيمانية الدافعة والخلاقة لأشياء كثيرة تسمو بالإنسان وتجعله مؤمنا قريبا من الله عز وجل ، يعبده ويخشاه ، راغباً في الرحمة والغفران حتى يفوز وينجح دنيا وآخرة .

                    عادات جميلة  ضاعت مع الوقت وإنتهت في صمت، ومع مرور الوقت تلاشت وتم نسيانها من قبل الأجيال الشابة الحاضرة، والبعض في قيد الإحتضار على وشك النهاية، إحداها الإحتفال بذكرى مولد رسول الله، سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، الذي يوما لم أشعر بقدومه وحلوله حتى قالت لي زوجتي الحاجة في المساء كل عام وإنت بخير ، وإستغربت عن المناسبة، وقالت هل نسيت؟ غدا ذكرى المولد النبوي الشريف، مما فوجئت كيف الحياة وخضمها أخذت تفكيرنا وسلبت عقولنا ونحن نجري وراء العيش والملذات كالآلات، ونسينا الأهم والمهم ذكرى ميلاد رسولنا الكريم، الذي أنار لنا طريق الهداية والإيمان، وبين لنا عزة ووحدانية الله عز وجل الرب الكريم الذي خلق، سيدنا محمد عليه السلام، حبيب الرحمن، ونحن غافلون عن الإحتفاء والإحتفال بالذكرى الخالدة التي تتجدد كل سنة لميلاده .

                     لا أفتي في الدين الإسلامي فلست بعالم ولا فقيه ولا شيخ دين، والقلب دليلي قائلاً للنفس ماذا عندنا من معايير إذا بدأنا ننسى شعائرنا الدينية وأخلاقنا الحميدة مع الوقت، النسيان الذي مثل الغول يقرض فينا مضغة وراء الأخرى، وتذكرت أيام الصبا في بدايات الخمسينات، كيف كانت لنا عادات وتقاليد جميلة بالإحتفال بالمولد العظيم .

                     فقد كان الإحتفال عظيما، وليلة ذكرى المولد الوالدة ،  وأختي الكبيرة وزوجة أخي، الله تعالى يرحمهن جميعاً ، يصبغن شعر رؤوسهن وأياديهن بالحناء ليلة المولد، والنور الكهربائي يشع ضياءاً في كل مكان بالبيت وفي الفناء طوال الليل والشموع مضاءة بعدد أفراد الأسرة الحاضرين والغائبين تعبيرا عن الفرحة والسرور، ونحن الصغار بعد المغرب ، جميع أولاد الحي والجيران لابسين أحسن ثيابنا حاملين قناديل مضاءة بالشمع ونغني بأصوات جميلة جماعيا في مدائح وقصائد تمدح وتصلي بالثناء على الرسول للذكرى بالميلاد ونمر على بيوت الجيران إحتفالا بالمناسبة والمعايدة، حتى يعطونا حلوى وبعض القروش كهدايا بالذكرى .

               وبعد صلاة الفجر، شقيقتي الكبيرة ، تشعل النار بالموقد (المنصب) فقد كنا نستعمل الحطب في الطهي ولم نعرف بعد الغاز في البيوت، وتضع القدر الكبير على النار وتبدأ في وضع الدقيق بمقادير معينة حسب الطلب والحضور وتبدأ في تحريك الخلطة (بمدلك) مخصص لطهي مثل هذا النوع من الطعام...   الكمية وراء الآخرى حتى يمتلأ بالكمية المطلوبة، وهي تزغرد وتمزج  العصيدة حتى تستوي، وتساعدها  في العمل والزغاريد زوجة أخي بينما تشرف عليهن الوالدة وتراقب حسن الأداء .

                  ويجتمع الجيران في بيتنا الكبير يهنؤون الوالد بذكرى المولد، وعندما تستوي العصيدة، يوزعنها ويضعنها مثل القباب في قصاع كبيرة تسمى (الطابونية)، وتحفر فيها  حفرة بمقبض اليد تسمى (النقرة) بالمنتصف تعبأ بالسمن البلدي والعسل على جميع الجوانب، ويرش السكر عليها، وكل قصعة يحملها رجلان إلى (المربوعة) ،الصالون ، والجيران جلوس يتسامرون، وعندما تدخل القصاع يحملها الرجال، كان الوالد يخرج مسدسه ويطلق عدة أعيرة نارية في فناء البيت فرحاً جذلاً إبتهاجا بالإحتفال والنساء تزغرد... وأنا صبي كنت أمر على كل واحد من الجيرا ن الحضور حاملاً (الطشت) آنية لغسل اليدين، وأعطيه فوطة قماش ليمسح يديه من الماء قبل الأكل وبعده، فقد كان الجميع يأكل بالأيدي، وليس مثل الآن العادات تغيرت إلى ملاعق وصحون .

                  وبعد الظهر أذهب مع الوالد لـتأدية صلاة العصر في الجامع الكبير العتيق بوسط مدينة درنة في ذاك الوقت ومشاهدة الإحتفال الكبير حيث الدعاء يشق عنان السماء من حناجر الجميع، طلباً للرحمة والغفران من الله عز وجل، بجاه خاطر النبي وذكرى المولد، ثم صلاة العصر، وبعدها توزع كميات الحلوي على الجميع، ويمر أحد الشيوخ ممسكا بزجاجة صغيرة سميكة فيها شعرة من لحية ورأس   النبي عليه الصلاة والسلام محفوظة من مئات السنين، والجميع يتزاحم عليها في لهفة وشوق من الرهبة والإحترام والتقدير يحاولون الوصول لتقبيلها فهي مقدسة روحيا للجميع، (بعد الإنقلاب الأسود للقذافي سرقت من الجامع ) .

                   ولم أنتبه من الذكريات الجميلة التي كنت  أعيشها بجميع جوارحي ولا إهتمام بماذا يدور حوالي، حتى نطقت الحاجة وقالت أين أنت؟ ففكرك مشغول ولست معنا تتابع الحديث... وقلت لها آسف فقد كنت أعيش  ذكريات الماضي والعادات الجميلة، متمنيا أن تستمر، وأجيالنا الشابة تحافظ على التراث السابق وتحي الذكرى الخالدة طالما هناك حياة مستمرة إلى ماشاء الله تعالى ...

               فلا مستقبل منيرا لهم إذا لم نعيش الحاضر بفهم وفكر متنور ونتذكر الماضي بكل الخير، ونحافظ على الإحتفالات بمولد رسول الله عليه الصلاة والسلام حتى تترسخ ذكراه في عقول وقلوب أجيالنا وأبنائنا الصغار، حتى لا ينتسى الكثير مع الأيام، ونصد الجهل والتجهيل من قول وفتاوي بعض الشيوخ المارقين الآن في وقتنا الحاضر الذين يفتون في الدين بدون علم غزير ولا أدلة واضحة ثابته في أمور كثيرة أشاعت الفتن والتشكيك، وعندها المصائب، فالذكرى العاطرة في نظري مهمة أساسية حتى لا نفقد مع الوقت عاداتنا وقيمنا ، ونجعلها مستمرة تتداول مع الزمن سنويا بالمناسبة وتتجدد للتذكير، حتى لا تنتسى مع مرور الوقت وتتلاشى.... والله الموفق...

             رجب المبروك زعطوط

قصصنا المنسية 47

 بسم الله الرحمن الرحيم

 الإستدعاء 

وسط مدينة نورفوك فرجينيا 
  (سبق وأن كتبت هذه الخواطر يوم 1987/5/15م، ولم تسنح لي الفرص لنشرها لوجود النظام والطاغية القذافي على رأس السلطة في ليبيا... والآن وقد تنشقنا نسيم الحرية العليل، وأتى الوقت المناسب، لإطلاع القراء عليها، ووجدت من المفيد سرد هذه القصص حتى تكون عبرة لشبابنا، وتذكيرا لكهولنا وشيوخنا عما مر من أحداث مضت ولم تخرج للنور والتي لا يعرفها إلا القلائل، حتى البعض منهم يكتبون مذكراتهم ولا تنتسى مع مرور الوقت، راجيا من الله عز وجل، أن تحقق الإستفادة للجميع)

             سأظل صابرا مناضلا ضد النظام الغوغائي في ليبيا، نظام الأهوج الفوضوي في وطننا ، متحدياً رافع الرأس موفور الكرامة، مهما عصفت بي الرياح وجرف التيار وكثرت وتلاحقت المصائب والمحن الواحدة وراء الأخرى على الرأس، فإيماني وعقيدتي بالرب الخالق ليس لهما حد ولا حدود، صابراً على القدر، منتظراً مضحياً بكل ما أملك من طاقات وجهد حتى أرجع يوما لوطني منصوراً، إذا أطال الله تعالى العمر.

               منذ 3 أسابيع وصلني طلب إستدعاء من إدارة الهجرة والجنسية، بالمكتب الرئيسي في مدينة نورفولك، ولاية فرجينيا أمريكا، طالبين مني الحضور الشخصي يوم الجمعة        1987/5/8م الساعة الواحدة ظهراً لموضوع هام، وأن أحضر معي جميع مستندات الإقامة لمقابلة أحد المسؤولين....

             شعرت بالإزعاج من الطلب حيث المستندات التي قدمتها للإقامة صادقة وصحيحة ضمن القانون، وكنت مسافراً خارج أمريكا، وطلبت بالهاتف من الزوجة الذهاب والسؤال عن سبب الاستدعاء....عسى أن تعرف رأس الموضوع ... وكان الرد بأن الموضوع كان خاصا وخطيرا... وخابرتني بالهاتف وأعطتني الأخبار فقد كنت يومياً على إتصال مع العائلة، ورجعت إلى أمريكا، وقضيت أياما عصيبة من غير راحة ولا نوم في قلق وإنتظار أقلب الأمور جميعها رأساً على عقب ،  محاولاً التحليل والوصول لمعرفة ماذا يريدون حتى أرتاح وتهدأ النفس .

                  ويوم الخميس 1987/5/7م تم إتصال هاتفي من الإدارة يعلمونني بتغيير الميعاد إلى موعد قريب، مما إرتحت قليلاً نظير الخبرة والتجارب العديدة ، وإقنعت النفس لو أن الموضوع خطيرا كما يقولون، لن يأخذ هذا الوقت الطويل ولا التأجيل ... بل يتم الإستدعاء فورا وإن تأخرت عن الحضور سيتم إخراج إذن بالقبض علي ...  ويوم الإثنين تحدد الميعاد الساعة التاسعة والنصف من يوم الجمعة القادم 1987/5/15م.

                ليلة الخميس سهرت طوال الليل مع الإخوة عاشور بن خيال، ومحمد قندرة الذين كانوا ضيوفاً بالبيت على مأدبة الإفطار فقد كنا بشهر رمضان الكريم، والسهرة اللذيذة طالت إلى الفجر في حكايات ونوادر، وذهبت للفراش محاولا النوم لبعض الساعات ولكن نظير القلق والعواصف بالنفس لم أرتاح.

                 الجمعة الساعة الثامنة والنصف إنطلقت في الطريق إلى مبنى الإدارة العامة، ووصلت قبل الميعاد بدقائق، ووضعت الرسالة طلب الإستدعاء في الصندوق المخصص على الطاولة حسب الطلب، وجلست في الصالون لوحدي ساهما، لا أعرف ماذا يخبئه لي القدر... والتاسعة والنصف بالضبط تم الإستدعاء إلى مكتب آخر، حيث كانت قاضية سيدة في منتصف العمر عليها الوقار والهيبة، ومعها سكرتيرة تسجل في الكلام والحديث المتبادل بالإختزال ... وبعد التحية طلبت مني النهوض والقسم بقول الحق مع التنبيه أن أية كلمة أنطق بها سوف تسجل وسوف تكون ضدي او في صالحي في حالة الشك والإتهام .

              وأقسمت اليمين وأنا صائما وسلمتني ورقة بها جميع الشروط والحقوق، وإذا كنت أرغب في حضور محامي معي أم لا.... وقالت إن الموضوع خطير وممكن يؤثر على إقامتي وعائلتي في أمريكا إذا كان الإتهام صحيحاً ... وأجبتها ببساطة بأنني أريد أن أعرف الموضوع والإتهام حتى أستطيع الدفاع عن النفس بالحق ، مما لاحظت شبه إبتسامة على وجهها من الجرأة وسرعة الرد بالقبول بدون إضاعة الكثير من  الوقت.

              أخرجت من أحد الأدراج ملفاً سميناً بالأوراق العديدة مكتوب عليه الإسم الشخصي بخط عريض واضح، وتصفحت بهدوء وقالت، لدينا طلبا رسميا من الحكومة الليبية في طرابلس عن طريق البوليس الدولي (الإنتربول) بالقبض والترجيع إلى ليبيا للمحاكمة، والتهم اولاً، أواخر 1979م إستلمت مشروعاً لبناء وحدات سكنية بالظهرة في طرابلس وإستلمت قيمتها بالكامل وهربتها للخارج ... وثانياً، عندما تم تفتيش البيت بدرنة من قبل أجهزة الشرطة والأمن وجدوا أكثر من 30 قطعة سلاح مخبأة وهذا الأمر في ليبيا ممنوع حيازة سلاح بدون ترخيص...  وطلبت منها أن أشاهد الرسائل والطلب ولكن رفضت، ولاحظت الكتابة بالعربية باللون الأخضر وشعار الفاتح الأسود، مما إرتحت بعض الأمر .

                ورددت السؤال: "هل أنت مستعد لنفتح باب التحقيق؟"، وأجبتها بكل ثقة وعزم، وبدون تلعثم ولا إرتباك من هول الطلب، نعم جاهزا، وطلبت كإجراء روتيني مرة أخرى إذا كنت أرغب في إستدعاء محامي ، وشكرتها وقلت لا فأنا أعرف نفسي أكثر من أي أحد وأستطيع الرد والدفاع .

                 وبدأت الأسئلة وكانت 15 سؤالاً صعباً، وأجبتها بالحق، وأثبت بالتواريخ على جواز السفر الملابسات الخاطئة والكذب في المطالبة بالقبض، وأنا داخل النفس أحترق من الكذب والزور وأخطاء التواريخ التي طالبوا فيها القبض علي، وأنا وقتها كنت خارج الوطن في أمريكا، مما كانت أسبابا جوهرية أقنعت القاضية أن العملية والطلب كانت كيدا وزورا وبهتانا بدون عدل ولا يمت للحقيقة بأية صلة .

             وبعد الإنتهاء من الإختزال والطباعة أعادت مرة أخرى سرد الأقوال التي صدرت مني، ووافقت عليها ووقعت أمامها، وطلبت أحد المسؤولين بالمبنى حيث حضر كشاهد ووقع المحضر وقفل التحقيق، وقالت: مع السلامة سوف أرفع التقرير للجهات المختصة وإذا كان هناك أي شىء سوف نتصل بك... وقلت لها متسائلاً أنا كثير السفر فهل من موانع ؟؟ وردت علي بإستغراب وقالت لديك جواز سفر وتستطيع السفر متى تشاء وترغب، لا توجد أي موانع في الوقت الحاضر، وسوف نستدعيك لجلسة أخرى عن قريب لقفل الملف سواءا بالسلب أم الإيجاب ....

             خرجت من التحقيق فرحا مسرورا، فقد أزيحت الهموم والغموم التي كانت على كاهلي من تاريخ الطلب بالإستدعاء وأنا أفكر من غير راحة، وإبني مصطفى يقود السيارة ، وكنت شبه نائم فقد غلبني النعاس، ونمت طوال الطريق مرتاحا بدون هموم ووصلت للبيت وكانت الزوجة متشوقة لسماع الأخبار قلقة على أحر من الجمر، لا تعرف ماذا سوف يحدث لي ولهم في حالة حدوث مكروه، وحكيت لها القصة وطمأنتها، وقلت لا تخافي الرب العادل موجود وعارف إنني مظلوم مما شعرت بالإرتياح من الموضوع .

                 جلست بالمكتب في البيت وجاء الأخ عاشور وهو مشغول يريد أن يعرف ماذا حدث معي، وقلت له القصة، وبعض الإتصلات الهاتفية، وفاتتني تأدية صلاة الجمعة بالجامع حيث كان بعيدا عن البيت حوالي 80 كم والساعة الثانية والنصف لم أستحمل ضوضاء الأولاد دخلت لغرفة النوم لأرتاح وأنام....

               عندما كنت  بالفراش مغالبا النوم، إستعرضت الحدث وكأنه شريط مصور، وضحكت في سري وقلت، هل أفلس النظام وهذا آخر سهم في جعبته أطلقه ؟ حتى أعيش بقية أيام العمر في هموم وغم الملاحقة بالغربة مهموماً طوال الوقت في المشاكل ... ام أن النظام الأهبل يتوقع أن أمريكا بلد الحريات والعدالة، فوضى كالجماهيرية لا تحكم بدستور وقوانين عادلة للجميع ، أو يحاولون التشويه للسمعة وإنني مجرم حتى تسحب الثقة وأطرد من أمريكا ؟؟ أم هذه الأمور المعقدة عبارة عن بدايات، وسوف يأتي الكثير والكثير من المشاكل والمصائب والمحن بالمستقبل، طالما القذافي المجنون حيا يرزق وعلى رأس السلطة .

                 شكرت الله عز وجل على الصحة والعافية، القوة والصمود، الطمأنينة والسكينة إنني لم أضعف أمام نظام جائر جاهل متخلف، لا يريد وجود أي مواطن وطني معارض على قيد الحياة، يطالب برؤوسنا ونحن بالخارج لأنه أجوفا فارغا بدون محتوى.... ورددت القول مهددا الطاغية متوعدا في السر داخل النفس ، مهما قتلت وطاردت الأحرار الوطنيين بالداخل والخارج، فأنا مناضلا من ضمن عشرات الآلاف الذين يطالبون بالثأر ولن أتوقف طالما بي نفس وحياة ...

              لو تم الإغتيال والقتل غدرا وإستشهدت في سبيل القضية النبيلة ، أكون حققت الرغبة والأمنية بالنفس حيث أريد الشهادة والفوز بالآخرة وليس بالدنيا، ولو عشت وطالت بي الحياة ووهبني الخالق طول العمر، لن أتوقف لحظة عن الكفاح والنضال بالمتاح وبأي وسيلة كانت حسب الجهد، حتى أشهد النهاية والنصر وأفرح، حيث في جميع الحالات أنا الكاسب والفائز !

               سأظل صابراً مجاهدا رافعاً راية العصيان والثورة للنهاية، لا هدنة، ولا سلام، مهما عملت من دسائس وحيل ومطالبات للدول ومهما أشاعت اللجان الثورية الفوضى في أوروبا وقتلت غدرا الأحرار ولا من مهتم  للقتلى الشهداء ماداموا ليبيين عرب ليسوا من مواطنيهم، نظير المصالح المتبادلة والمال الذي أعمى نفوس أصحاب القرارات لديهم، وهم يدعون العدل والشفافية، والله الموفق...

 رجب المبروك زعطوط

 الجمعة 1987/5/15م

 البقية تتبع... 

Monday, September 7, 2015

قصصنا المنسية 46

بسم الله الرحمن الرحيم

 رجال ليبيا المنسيين

              الحضارة والسمو والبعد عن التراهات والمهاترات لأي مجتمع الوعي وتحصيل العلم والثقافة العامة للمواطن مهمة جدا حيث العلم نور، وبالعلم والممارسة والتجربة الديمقراطية كثيرا من الامور والحساسيات تتلاشى ولا يصبح لها وجود ، ونحن الليبيين مازال الكثيرون منا يعيشون في ظلمات الماضي والأمجاد السابقة وبالأخص البدو حيث العيش في ظروف بيئية قاسية وصعبة في البادية والصحراء في وحدة بدون الاختلاط مع الغرباء الا من القلائل أثناء المرور والزيارات للبعض لهم أو ذهاب البعض منهم إلى المدن لبيع الأغنام أو الإبل وللتسوق للأشياء الضرورية التي يحتاجونها مما نظير الترابط والحماية والجهل والوحدة أصبح الولاء للعائلة والقبيلة هو الاساس الأول قبل الولاء للوطن .

                    وزاد التعصب كثرة الحديث والترديد للأمجاد والأعمال البطولية لرجال القبيلة الماضية والتي معظمها أضافوا الكثير عليها نظير كثرة الترديد أثناء السهر على ضوء القمر، حيث تربى الكثيرون من الشباب على الحمية وعدم التفكير بالمنطق وأن المواطن في الدولة ، ولاءه الأول لله تعالى والوطن والعمل الجماعي بالعقل ضمن شرائع وقوانين حتى ينهض ويتقدم الجميع معا، وليس الحكم على البعض من القبائل نتيجة أخطاء البعض تحتسب وزرا على الجميع مثل ماحدث لقبيلة الحاسة بالشرق وكل من ينتمي إلى قبائل غريان بالغرب والتي الآن بمرور الزمن والوقت بدأت تتلاشى من الأذهان ، ولم يتساءل الكثيرون لماذا؟ والبحث عن الأسباب التي أدت إلى هذا الامر.

             السبب هو الجهل الكاتم على النفوس والعقول ، نتيجة صراع للحط من الشأن والتنافس الغير شريف وطمس الكثير من الحقائق مع مرور الوقت والزمن، مما الأجيال لا تعرف الحقيقة الصادقة وتضيع في خضم المهاترات والتحديات والعنصريات... تردد الكذب والزور وكأنه حقائق ، متناسين أن أخطاء البعض من الجدود إنتهت للأبد ومن غير المعقول ان يتحمل الابناء والاحفاد الوزر ، ناسين عن قصد مبيت ان جميع المواطنين سواسية لا فرق بين احد وآخر ضمن الدين والشرائع الإلاهية والسنن والأعراف والقوانين . 

            حدثت بالوطن الكثير من المصائب ايام الجهاد والنضال ضد العدو الايطالي ولم يستطع العدو السيطرة على المنطقة الشرقية حيث المساحات شاسعة وتردد الكثير من القول شعبيا متهمين الشيخ الشارف الغرياني الذين كان متعاونا مع العدو، محاولا مساعدة الوطنيين الليبيين من جور المستعمر في السر ونصح العدو بإخلاء المنطقة من أهاليها وتجميعهم  في معتقلات بالصحراء حتى يصعب الأمر على المجاهدين الثوار (المحافظية) الحصول على الدعم والمساندة في التموين  وتمريض الجرحى والتزود بالمعلومات... مما تم الإخلاء لجميع البادية والحضر المقيمين خارج المدن إلى معتقلات الصحراء في البريقة والعقيلة ومرادة ، وأصبحت المنطقة خالية من البشر والحركة مما زاد الضغط والمعاناة على الثوار ، ناسين أن المخطط الأول في إبادة البشر مصدره  ألمانيا الهتلرية والايطاليون حلفاؤهم لإبادة الشعب الليبي العربي المسلم وطمس دين وهوية الإسلام من المنطقة وإحلال الغير من المستوطنين الإيطاليين الكاثوليك حتى مع الوقت يصبحون أغلبية لهم الشأن والحكم وصعب إخراجهم أو التخلص منهم كما حدث في دول عديدة مازالت تعاني ... ولا تمت للحقيقة نصيحة الشيخ الشارف الغرياني التي ترددت في الأوساط الشعبية كثيرا، بل إدعاءات عليه بالزور والكذب والبحث عن ضحية وكبش فداء لتحمل الوزر .

           جاء الدور على قبيلة الحاسة للنقل إلى المعتقلات وتم التجميع المبدئي للبعض في منطقة سوسة لترحيلهم بالبحر ، وشاء سوء الحظ وقامت مجموعة من المحافظية (الثوار) بالإستيلاء على قطعان الغنم والماعز للقبيلة ، مما وفدا من شيوخ الحاسة طلب الزيارة لقائد المنطقة الايطالي يشكون له الامر حيث البادية بدون الغنم والحيوانات لا يستطيعون العيش والبقاء أحياءا في سعادة وراحة ، قائلين في شكواهم اذا لم تستطيعوا الدفاع عنا وحمايتنا من الاعتداءات والسرقة، زودونا بالسلاح ونحن نتصرف ونسترجع أغنامنا بأنفسنا التي سرقت وندافع عن أنفسنا من الاعتداء .

            وكانت فرصة كبيرة للعدو حتى يدس الفتن ويترك السكان المحليين يحاربون بعضهم البعض (الفخار يكسر بعضه) وعرض الأمر على قادته عن طريق البرق وتحصل على الموافقة السريعة وتم تسليم الشيخ السلاح حسب طلبه وبضمانته حيث العائلات المأسورة تحت قبضته ، مائة بندقية (بوحريبه) والذخائر الكافية التي وزعها الشيوخ على رجالهم الشباب إلى عدة مجموعات آمرين لهم بسرعة باللحاق وترجيع الأغنام حيث يعرفون جيدا الطرق الخلفية الصعبة وسط الأحراش في الجبل الأخضر وأماكن العيون والآبار للشرب والتي من الصعب المرور خلالها إلا لسكانها الاصليين العارفين....  وسهولة المطاردة في إغتنام الوقت وبالأخص الحيوانات تسير ببطء مما من السهولة اللحاق بهم وإسترجاعها.

             وبعد عدة ايام رجع الفريق المطارد منتصرا بمعظم قطيع الغنم ومجموعة أسرى من المحافظية الثوار مما العدو الايطالي حاكمهم محاكمة صورية وتم شنقهم على  الفور بحجج السرقة والإستيلاء،   مما القبائل الاخرى بالمنطقة  وضعت اللوم الكبير على قبيلة الحاسة على سوء التصرف ومعاونة العدو وزادوا عن الحد في النكايات وقرض الأهازيج الشعبية والشعر الذي زاد عن الحد ، مما حدثت ردة فعل لدى شيوخ الحاسة وتعاونوا مع العدو في الحفاظ على الأمن إلى أقصى حد،  نكاية في إخوتهم ، وتم الإعفاء لقبائل الحاسة من الاعتقال والترحيل والسجن في المعتقلات كما حدث للآخرين مما جعلت القبائل الأخرى نظير الغيرة والحسد يتطاولون عليهم في الدس والنكايات بلا حدود .

                نسى الآخرون المواقف البطولية للكثيرين من مجاهدي قبيلة الحاسة والبعض الذين تم أسرهم في المعارك الأولى مع العدو في بداية الإحتلال في منطقة مدينة درنة دور (معسكر) بو منصور ...  وطلب العدو إستسلامهم مقابل  إطلاق سراح إخوتهم الأسرى،  مما في ذاك الوقت يعتبر عارا الإستسلام للعدو ، وتم الرفض البات للمقايضة ، قائلين لقد ودعناهم يوم المعركة ونعتبرهم شهداء الوطن، وتم  شنقهم تحديا على الرفض ، وهذه الشهادة لم تذكر من مواطن ليبي ممكن تحتسب أن فيها تمجيدا للقبيلة ومحاباة ، ذكرها المجاهد الكبير التركي فى يومياته القائد أنور باشا عن دوره فى الجهاد الليبي وقيادته (للدور) بومنصور القريب جنوب مدينة درنة حوالى 15 كم والذي العدو الايطالي لسنوات عديدة كان محصورا ضمن السور في درنة غير قادرا على الخروج والتقدم إلى الجنوب من شدة وشراسة المقاومة من الوطنيين الليبيين .

             قبائل الحاسة في ليبيا وبالأخص في المنطقة الشرقية معروفة جيدا والكثيرون جنودا مجهولين قدموا الخدمات المهمة للحفاظ على أرواح المواطنين من الشنق عندما كانوا يعملون كموظفين مع العدو وبالأخص في مجال الأمن حيث معظمهم عساكر في تسريب المعلومات للحفاظ على الكثيرين من المواطنين المتهمين وإنذارهم للهرب قبل القبض عليهم،  وكان والدي أحدهم ولولا النصيحة من أحد الحاسة (الزبطية) قريب زوج خالتي الحاسي في وقتها لكان ضمن الموتى الضحايا حيث وقتها كانت معظم أحكام القضاة الإيطاليين تصدر بالإعدام شنقا على المتهمين الوطنيين لإرهاب الآخرين من أي شغب ضد قواتهم الغازية .

                    إحدى القصص المشهورة شعبيا التي حدثت على السور المحيط بدرنة وطمست في تاريخ الجهاد الليبي ولم تذكر البطل الملقب بكناية (إفحيش الحاسي) الذي قتل ثلاثة جنود إيطاليين إنتقاما مقابل الإهانة وتكسير زجاجة لتر مليئة بزيت الزيتون ، والقصة معروفة ولم تذكر ولم تدون في الكتب عن قصد مبيت حتى لا تكون لها أية اهمية ولا يذكر البطل الذي ينتمي لقبائل الحاسة.

              العدو الايطالي أقام سورا،  الوحيد في مدن ليبيا،  مبنيا بالحجر على مدينة درنة من ثلاثة جهات والرابع شاطئ البحر، وحراسة مشددة طوال الوقت من الحرس منعا للتسلل وتسرب المؤن والمواد الطبية من الوصول للثوار وكانت الأبواب تفتح الساعة السادسة صباحا للخروج والدخول وتغلق السادسة مساءا منعا للمرور حتى صباح اليوم الثاني على مدار السنة .

            وفي أحد الأيام حوالي العصر مر الملقب بإفحيش على البوابة يريد الخروج من المدينة راجعا إلى عائلته التي تسكن قريبة عدة كيلومترات ويحمل في يده زجاجة (شيشة) مملوءة بلتر من زيت الزيتون ، وعلى البوابة سأله الحارس الإيطالي عن ماذا معه في متاعه وقال لدي هذه وإشار إلى الزجاجة مما الحارس أخذها وكسرها أمامه وضربه بركلة في مؤخرته قائلا إذهب بغيط وغضب وتفوه عليه بسيل من الشتائم القذرة... وكان إفحيش مشهورا بالرماية وقناصا بارعا في إصابة الأهداف وتحمل الركلة والإهانات،  وقال للحارس هل استطيع أخذ الزيت الذي توزع على الارض الترابية وكان الحارس مغفلا ولم يفهم القصد ورد عليه لا مانع... فقام بوضع طرف ردائه الصوفي (الجرد) و غطسه في بقايا الزيت  المسكوب على الارض مما امتص  بعض الزيت ، والحارس يتطلع له ببلاهة غير عارفا ولا فاهما لماذا؟ وإعتبره مجنونا ومضى إفحيش مسرعا خارج البوابة قبل أن تقفل .

                  وكان لدى إفحيش بندقية مخبأة في احد الأحراش القريبة من السور قبل الدخول للمدينة منذ فترة ، أخرجها من المخبأ وقام بالمسح والتزييت لها بالجرد المشبع بالزيت حتى اصبحت تلمع والأقسام تتحرك بسهولة وأصبحت جاهزة للرماية ، ورجع للسور حوالي المغرب وبداية العتمه والظلام والباب الحديدي الكبير موصد وصرخ على الحارس بصوت عالي (مارشيللو) مما تطلع الحارس من أعلى السور عفويا يتساءل يريد أن يشاهد مصدر الصوت وقام برمايته وإصابته بطلقة رصاصة مميته مما سقط قتيلا ، وجاء الثاني ليستطلع الأمر نظير سماع صوت الرصاصة وكان نصيبه مثل صاحبه طلقة أردته قتيلا ، وجاء الثالث ونفس القصة تكررت وقتل الثالث ، وصرخ إفحيش بأعلى صوت مرددا كلمات النصر والزهو ، وأصبحت مع مرور الزمن اهزوجة شعبية قائلا ( ثلاثة من عدوان الدين ، إفدى شيشتي) لقد قتلت ثلاثة من الأعداء مقابل زجاجة الزيت والإهانة .

             وهرب في الأحراش متخذا من ساتر الظلام حماية ، ولم يستطيع الحرس الخروج ومطاردته خوفا من المخاطرة في الظلام وأن تكون مجموعة كبيرة من الثوار (المحافظية)  لإستدراجهم في انتظارهم لفتح البوابة الحصينة، وبدؤا في الرماية العشوائية في الاتجاه بلا فائدة ، ووصل إلى مكانه حيث أمه العجوز وإبنته الشابة وجمع متاعهم البسيط في عجالة وكان لديه ناقة ووضع العجوز والشابة على الناقة مع بعض الذخيرة المخبأة للثوار لديه وعدة بنادق وبعض المتاع البسيط مع المؤونة وبدأ المسيرة والرحلة إلى الشرق هاربا إلى مصر بسرعة لأنه كان متأكدا أنه بالغد ستأتي دوريات العدو تبحث عنه للقصاص حيث إصابة وقتل ثلاثة جنود إيطاليين ليست بالأمر السهل الذي يسكتون عليه ولا ينتقمون من المواطنين الوطنيين العزل !!

              وإستمر في السير عدة ايام فى دروب الصحراء الموحشة الخالية بدون بشر ، يسير بالليل طوال ساعات الظلام من المغرب إلى الفجر ويرتاح في الضوء والنهار بدون إشعال أية نار لطهي الطعام معتمدين على لبن الناقة والتمر في الأكل والشرب خوفا من خروج الدخان بالنهار وضوء اللهب بالليل  بالظلام .

              وآخر يوم من المسيرة فى الصحراء بالصدفة شاهدته دورية هجانة مما أناخ الناقة وتمركز القرفصاء رافضا الاستسلام للعدو أسيرا معتقدا انه مازال في ليبيا والدورية إيطالية ، وبدأت الرماية بين الطرفين ، وإستمات كل طرف يريد الفوز لساعات والبطل إفحيش يدافع ويتحرك من عدة اتجاهات مما الدورية لم تتقدم خوفا ان تكون مجموعة من عدة افراد مهربين عبر الحدود، وإفحيش لم يتوقف حتى أصيب بطلقة بالصدفة في الكتف واصبح عاجزا عن الرماية وهجمت الدورية عليه لقتله او أسره وكانت الدورية من الهجانة المصرية ورئيسهم جاويش بريطاني ، ولما شاهد الوضع وأن المدافع رجلا واحدا معه عائلته امر بالحفاظ عليه وعدم قتله وأسره قائلا هذا المدافع بطلا جديرا بالعناية والتكريم الذي تحداهم لوحده هذه الساعات التي مرت وجرح الكثيرين منهم .

            وبالنسبة بإفحيش كانت فرحة فقد عبر الحدود وتوغل في الاراضي المصرية وهو لا يعلم... وتم نقله وعائلته إلى الاسكندرية وعلاجه بالمستشفى حتى من الله تعالى عليه بالشفاء وقضى السنوات العديدة في مصر مهاجرا من ضمن الجالية الليبية ، ورجع إلى ليبيا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وخروج الإيطاليين من المنطقة الشرقية وعاش بها حتى توفاه الله تعالى في منتصف الخمسينات .

             قصة ومغامرة البطل إفحيش الحاسى واحدة من آلاف القصص الفردية التي حدثت في ليبيا ضد الغزو والعدو الايطالي خلال الاحتلال للوطن على مدى 34 عاما مرت في معاناة وقهر وضاع من الشعب الليبى حوالي المليون مواطن من الشهداء القتلى والجرحى المعوقين والمفقودين في المعتقلات والمهاجرين والذي رجع منهم لأرض الوطن بعد إنتهاء الحرب وخسارة إيطاليا، وبعد الاستقلال القلائل للوطن .

              إنها دلالة كبيرة وواضحة على حب الوطن والولاء له في قلب وروح أي مواطن وطني ليبي أصيل جذوره نابعة من الارض لا يرضى بالذل والتراجع ، يقاتل ويدافع حسب القدرة وبالمتاح ، والبطل إفحيش لم يرضى بالإهانة والركلة والسباب البذئ له من غازي أ جنبي لا يمت للوطن ، ورجع وقتل ثلاثة من الأعداء ولو كان جبانا رعديدا لذهب في حال سبيله آثرا النجاة والحياة ، فهنيئا للرجال مثله الجنود المجهولين الذين توفاهم الله تعالى ولم يحضوا بالتكريم في حياتهم ولكن ذكراهم سوف تبقى إلى الأبد في سجل تاريخ الجهاد الوطني بحروف من ذهب ...  والله الموفق...                                    
                                   
          رجب المبروك زعطوط