Sunday, September 27, 2015

قصصنا المنسية 51

بسم الله الرحمن الرحيم

 رجال ليبيا المنسيين


  تم طمس وتعتيم أسماء الكثيرين من المجاهدين المناضلين الليبيين المغمورين الذين لم يذكروا في تاريخ الجهاد الوطني من جميع الشرائح والقبائل الليبية... الجنود المجهولين الذين قاموا بالكثير من العمليات الإنتحارية والبعض الذين كتبت لهم النجاة والحياة وعاش بقية العمر شاهدا حيا على مدى الإيمان والتضحيات ضد الغزاة العدو الايطالي الذي إستباح الوطن وغزاه آملا في ضمه للأبد لإيطاليا في أكتوبر من  عام 1911 م .

               الغزاة نسوا  ان الله تعالى حي في الوجود لا يرضى بطمس نور الاسلام عنها ، والشعب الليبي حي لا يموت مهما حدث له من مخططات ومؤامرات لإبادة الجنس والعرق العربي المسلم ، الذي ناضل حسب القدرة والإستطاعة وبالمتاح مقدما الضحايا الشهداء والجرحى والمعاقين في المعارك العديدة والقتلى في المعتقلات ، الذين تم شنقهم لأتفه الأسباب...  والمبعدين المنفيين بدون حساب من اجل الخلاص والحرية حتى تم التوفيق من الله عز وجل وسمحت الظروف  وخسرت ايطاليا في الحرب العالمية الثانية عام 1945 م ، وأصبحت ليبيا تحت الانتداب البريطاني الذي يضحك في الوجه ويطعن في الخلف من الخبث والدهاء في حكم الشعوب المغلوبة على أمرها... وتحقق الاستقلال في الوطن بجهود الرجال الوطنيين المخلصين وأصبحت ليبيا دولة معترفا بها من جميع دول العالم في الامم المتحدة، مملكة عربية منذ تاريخ 1951/12/24م .

                هذه القصة من عشرات ومئات القصص الفردية التي حدثت عن التضحية والفداء من اجل الحياة والوطن، قام بها البعض ولم تذكر مع مرور الايام والزمن ، سمعت بها خلال أحد السهرات والسمر مع الإخوة الرفاق عن قصص الجهاد والبطولات منذ فترة طويلة من الزمن والتي تذكرتها والتي تجعلنا نحن كليبيين نزهو ونفخر أن الكثيرين من بني وطننا كانوا أبطالا وقدموا هذه التضحيات في السر والخفاء والعلن ولم تذكر الا من القلائل وتظهر للعيان ..

              تم القبض على مجموعة من ثوار قبيلة الحاسة في الجبل الأخضر وصدر الحكم بالإعدام لإبادتهم بسرعة من قبل المحكمة العسكرية حسب المخطط الإستعماري للإستيلاء على الأرض...  وكان من العادة في ذاك الوقت توقيف المتهمين على جرف عالي معروف بالمنطقة مبنية بجواره قلعة مراقبة تشرف على وادي عميق سحيق مازالت أطلالها إلى الآن شاهدة ...   وقتها كان بها العشرات من العساكر والجنود الإيطاليين والتي حدثت بها عشرات الأحداث والمآسي المؤلمة والقتل للكثيرين من الضحايا الوطنيين المحليين حيث كانت مكانا لإعدام المتهمين بالمنطقة الذين شاء سوء الحظ وتم القبض عليهم من الغزاة المستعمرين بين مدن شحات وسوسة .

                ويتم اطلاق النار على الضحايا المعتقلين المحكوم عليهم بالموت على الحافة ، وترمى جثث القتلى بوحشية إلى القاع نكاية وتشفيا في الليبيين المحليين الثوار (المحافظية) على خسارتهم الجسيمة في المعركة المشهورة التي أطلق عليها إسم  معركة "الكراهب"(السيارات) عام 1925 م والتي خسر فيها الإيطاليون عدد كبيرا من جنودهم وتمت الإبادة لهم بدلا من الدفن للضحايا القتلى كما يجب حسب الأديان السماوية، والأصول والشرائع الانسانية .... ترمى الجثث في الوادي حتى تنهشها وتأكلها الحيوانات المفترسة من الضباع والذئاب.

                ولما وقف المتهمون في الصف نهاية الأصيل قبل المغرب وحلول الظلام ، مقيدين وأمامهم كتيبة الاعدام من الجنود ببنادقهم يستعدون لإطلاق الرصاص عليهم ، قام أحدهم طالبا من رفاقه المقيدين بالقفز إلى الوادي والشهادة بدلا من الموت برصاص العدو ولم يطاوعوه وإستسلموا لله تعالى راضين بالقضاء والقدر نظير قوة الإيمان بأنهم مظلومين وعلى حق ويعرفون ويعلمون أنه لديهم بعض الوقت القصير للعيش بالحياة، دقائق ويموتون ويقابلون وجه الخالق.

                   قفز المتهم السجين إلى الوادي مضحيا بالنفس حيث عارفا أنه ميتا لا محالة وفضل الموت بشرف بيده طواعية وكان محظوظا وعلق بأحد النتوءات بالجبل ولم يسقط للأسفل كما كان متوقعا من الجميع... ولم يهتم الحراس بالسجين الهارب الذي قفز إلى الهاوية حيث بالنسبة لهم هلاكه كان مؤكدا من هذا الارتفاع الكبير الشاهق...   وتم إعدام رفاقه ورميت الجثث في الوادي السحيق كالعادة بلا مبالاة ولا وخز ضمير وكأنهم يرمون جثث حيوانات نافقة ميته وليسوا بشرا شهداءا مناضلين من حقهم الحياة حيث يدافعون عن ارضهم ودينهم وقيمهم .

                 وحل الظلام وتحرك الهارب بصعوبة يتحسس بيديه ويهبط ببطأ وهو مقيد اليدين بالقيد مستعملا السلسلة الحديدية القصيرة في تثبيت الجسد بالنتوءات وجذور الأشجار القوية حتى وصل إلى قاع الوادي وهو في الرمق الأخير، والفرحة بالنجاة أعطته القوة على تحمل الجراح والخدوش والرضوض بالجسم وجر نفسه في الأحراش حيث يعرف المنطقة جيدا حتى وصل إلى احد المزارع المملكة لأحد المزارعين الايطاليين (السيشليان) القادمين من ايطاليا لإعمار المنطقة، حسب مخطط الإبادة والإستيلاء على الارض من أصحابها الأصليين بدون وجه حق...   بحيث تصبح مع الوقت الأغلبية السكانية من المقيمين للمسيحيين الكاثوليك....

               وعندما وصل كان في حالة صعبة يرثى لها ، وقام أحد العمال الليبيين الوطنيين من أولاد العم بالقبيلة الذي يعمل في المزرعة كعامل أجير، بتحريره من القيود وإطعامه في السر وزوده ببعض المؤونة وطلب منه الرحيل بسرعة وعدم البقاء بالمزرعة ولا في حدودها ، منعا في حالة قدوم أية دورية بالغد للعدو تبحث عنه ، وشككت فيه أنه قام بمساعدته مما سيتعرض للمساءلة والاتهام.

                وبدأ السير وسط الأحراش والغابات والوديان وكان طوال الوقت يقتات على بعض المؤونة التي معه ويشرب من الابار والعيون وبقايا المياه في البرك الصخرية من ندى الصباح الباكر وبعض الاحيان يحصل على بعض البيض او الدجاج من المزارع أثناء الطريق يستولى عليها خلسة وأصحابها من المستعمرين المزارعين الطليان غافلين ... حتى عبر الجبل الأخضر وتوغل في صحراء الحدود الشرقية ودخل خلسة إلى مصر التي كانت تحت الإحتلال البريطاني وقتها مفتوحة لجميع الليبيين الهاربين من العدو الايطالي .

             وجد الترحاب والكرم في نجوع البادية عند أولاد علي والضيافة والكرم العربي حيث ليبيين أصليين يعيشون في أرضهم في الشريط المثلث حتى رأس الحكمة بالقرب من الإسكندرية والتي تم الضم للأرض والبشر وقت الاحتلال الايطالي من الانجليز ووضعوا الخط الوهمي إلى الآن كحدود بين الدولتين خوفا على قناة السويس،  الشريان الحيوي لهم للوصول إلى مستعمراتهم في الشرق الأقصى من قرب وجود القوات الإيطالية لها .

                قضى بعض الوقت معهم في أمان حتى إلتأمت الجراح وشفي جسمه من الرضوض وأصبح قادرا على مشقة الطريق الصعبة وقتها، وواصل المشوار إلى الاسكندرية واقام بها فترة بسيطة ضمن الجالية الليبية ، ولظروف ما غير معروفة واصل المسيرة عبر فلسطين حتى وصل إلى الأردن بعد فترة طويلة ، وتطوع جنديا في جيش إمارة الأردن الهاشمية سنوات عديدة وتزوج هناك من احد الفتيات وأصبحت له عائلة .

                  قامت الحرب العالمية الثانية وبعد معارك شرسة عدة سنوات كل فريق يريد النصر بأي وسيلة كانت...  حتى إنتصرت دول الحلفاء وخسرت دول المحور الحرب وكانت إيطاليا من ضمن المحور وأصبحت ليبيا تحت الإنتداب البريطاني عدة سنوات حتى تحررت ونالت الاستقلال ، ورجع بعائلته ، وأقام بمدينة درنة فترة طويلة ، وكنت اعرفه شخصيا ولم أعرف بالقصة وتضحيته .... فقد كان احد الجيران وأبناؤه البعض من جيلي اصدقاءا لي حيث كنا في نفس المدرسة ولم أعرف القصة إلا بعد سنوات عديدة بعد وفاته (رحمه الله تعالى) .

             مثل هذا الرجل المناضل الذي  كتبت له الحياة نظير الإقدام والمجازفة،  قلائل يعدون على الأصابع... الذي رمى بنفسه من الجرف العالي محبذا الموت بدل الإعدام من العدو ، والمسيرة الطويلة والترحال خوفا من القبض عليه مرة أخرى، حتى وصل لبر السلامة ، والكثير من القصص والحكايات والتضحيات بالعشرات والمئات من جميع مناطق ليبيا ولا علم للكثيرين بها نظير الطمس والتعتيم ، وليس لدي علم بها شخصيا والتي في بعض الاحيان اسمع القليل عن بعضها عندما تتاح الفرص لسماعها .

                   حيث للأسف لم تكتب وتدون فى كتب أو تذاع فى الاعلام والقنوات المرئية أو تنشر في الصحافة من البعض، حتى تنتشر وتعم في أوساط الشعب وتظل قائمة إلى ماشاء الله تعالى ، تذكر بالخير وذكرى عاطرة تخلد أبطالها الجنود المجهولين ، حتى يعرف الجميع من الأجيال الحاضرة والقادمة بإذن الله تعالى،  مدى التضحيات والبطولات من الآباء والأجداد ونفخر ونزهوا بأننا ليبيين وطنيين لنا ماض مشرف سطره السابقون بالدم والشهادة في سبيل الله تعالى والوطن في صفحات سجل التاريخ الذهبي الليبي عبر الزمن... والله الموفق....

                رجب المبروك زعطوط

No comments:

Post a Comment