Sunday, September 13, 2015

قصصنا المنسية 47

 بسم الله الرحمن الرحيم

 الإستدعاء 

وسط مدينة نورفوك فرجينيا 
  (سبق وأن كتبت هذه الخواطر يوم 1987/5/15م، ولم تسنح لي الفرص لنشرها لوجود النظام والطاغية القذافي على رأس السلطة في ليبيا... والآن وقد تنشقنا نسيم الحرية العليل، وأتى الوقت المناسب، لإطلاع القراء عليها، ووجدت من المفيد سرد هذه القصص حتى تكون عبرة لشبابنا، وتذكيرا لكهولنا وشيوخنا عما مر من أحداث مضت ولم تخرج للنور والتي لا يعرفها إلا القلائل، حتى البعض منهم يكتبون مذكراتهم ولا تنتسى مع مرور الوقت، راجيا من الله عز وجل، أن تحقق الإستفادة للجميع)

             سأظل صابرا مناضلا ضد النظام الغوغائي في ليبيا، نظام الأهوج الفوضوي في وطننا ، متحدياً رافع الرأس موفور الكرامة، مهما عصفت بي الرياح وجرف التيار وكثرت وتلاحقت المصائب والمحن الواحدة وراء الأخرى على الرأس، فإيماني وعقيدتي بالرب الخالق ليس لهما حد ولا حدود، صابراً على القدر، منتظراً مضحياً بكل ما أملك من طاقات وجهد حتى أرجع يوما لوطني منصوراً، إذا أطال الله تعالى العمر.

               منذ 3 أسابيع وصلني طلب إستدعاء من إدارة الهجرة والجنسية، بالمكتب الرئيسي في مدينة نورفولك، ولاية فرجينيا أمريكا، طالبين مني الحضور الشخصي يوم الجمعة        1987/5/8م الساعة الواحدة ظهراً لموضوع هام، وأن أحضر معي جميع مستندات الإقامة لمقابلة أحد المسؤولين....

             شعرت بالإزعاج من الطلب حيث المستندات التي قدمتها للإقامة صادقة وصحيحة ضمن القانون، وكنت مسافراً خارج أمريكا، وطلبت بالهاتف من الزوجة الذهاب والسؤال عن سبب الاستدعاء....عسى أن تعرف رأس الموضوع ... وكان الرد بأن الموضوع كان خاصا وخطيرا... وخابرتني بالهاتف وأعطتني الأخبار فقد كنت يومياً على إتصال مع العائلة، ورجعت إلى أمريكا، وقضيت أياما عصيبة من غير راحة ولا نوم في قلق وإنتظار أقلب الأمور جميعها رأساً على عقب ،  محاولاً التحليل والوصول لمعرفة ماذا يريدون حتى أرتاح وتهدأ النفس .

                  ويوم الخميس 1987/5/7م تم إتصال هاتفي من الإدارة يعلمونني بتغيير الميعاد إلى موعد قريب، مما إرتحت قليلاً نظير الخبرة والتجارب العديدة ، وإقنعت النفس لو أن الموضوع خطيرا كما يقولون، لن يأخذ هذا الوقت الطويل ولا التأجيل ... بل يتم الإستدعاء فورا وإن تأخرت عن الحضور سيتم إخراج إذن بالقبض علي ...  ويوم الإثنين تحدد الميعاد الساعة التاسعة والنصف من يوم الجمعة القادم 1987/5/15م.

                ليلة الخميس سهرت طوال الليل مع الإخوة عاشور بن خيال، ومحمد قندرة الذين كانوا ضيوفاً بالبيت على مأدبة الإفطار فقد كنا بشهر رمضان الكريم، والسهرة اللذيذة طالت إلى الفجر في حكايات ونوادر، وذهبت للفراش محاولا النوم لبعض الساعات ولكن نظير القلق والعواصف بالنفس لم أرتاح.

                 الجمعة الساعة الثامنة والنصف إنطلقت في الطريق إلى مبنى الإدارة العامة، ووصلت قبل الميعاد بدقائق، ووضعت الرسالة طلب الإستدعاء في الصندوق المخصص على الطاولة حسب الطلب، وجلست في الصالون لوحدي ساهما، لا أعرف ماذا يخبئه لي القدر... والتاسعة والنصف بالضبط تم الإستدعاء إلى مكتب آخر، حيث كانت قاضية سيدة في منتصف العمر عليها الوقار والهيبة، ومعها سكرتيرة تسجل في الكلام والحديث المتبادل بالإختزال ... وبعد التحية طلبت مني النهوض والقسم بقول الحق مع التنبيه أن أية كلمة أنطق بها سوف تسجل وسوف تكون ضدي او في صالحي في حالة الشك والإتهام .

              وأقسمت اليمين وأنا صائما وسلمتني ورقة بها جميع الشروط والحقوق، وإذا كنت أرغب في حضور محامي معي أم لا.... وقالت إن الموضوع خطير وممكن يؤثر على إقامتي وعائلتي في أمريكا إذا كان الإتهام صحيحاً ... وأجبتها ببساطة بأنني أريد أن أعرف الموضوع والإتهام حتى أستطيع الدفاع عن النفس بالحق ، مما لاحظت شبه إبتسامة على وجهها من الجرأة وسرعة الرد بالقبول بدون إضاعة الكثير من  الوقت.

              أخرجت من أحد الأدراج ملفاً سميناً بالأوراق العديدة مكتوب عليه الإسم الشخصي بخط عريض واضح، وتصفحت بهدوء وقالت، لدينا طلبا رسميا من الحكومة الليبية في طرابلس عن طريق البوليس الدولي (الإنتربول) بالقبض والترجيع إلى ليبيا للمحاكمة، والتهم اولاً، أواخر 1979م إستلمت مشروعاً لبناء وحدات سكنية بالظهرة في طرابلس وإستلمت قيمتها بالكامل وهربتها للخارج ... وثانياً، عندما تم تفتيش البيت بدرنة من قبل أجهزة الشرطة والأمن وجدوا أكثر من 30 قطعة سلاح مخبأة وهذا الأمر في ليبيا ممنوع حيازة سلاح بدون ترخيص...  وطلبت منها أن أشاهد الرسائل والطلب ولكن رفضت، ولاحظت الكتابة بالعربية باللون الأخضر وشعار الفاتح الأسود، مما إرتحت بعض الأمر .

                ورددت السؤال: "هل أنت مستعد لنفتح باب التحقيق؟"، وأجبتها بكل ثقة وعزم، وبدون تلعثم ولا إرتباك من هول الطلب، نعم جاهزا، وطلبت كإجراء روتيني مرة أخرى إذا كنت أرغب في إستدعاء محامي ، وشكرتها وقلت لا فأنا أعرف نفسي أكثر من أي أحد وأستطيع الرد والدفاع .

                 وبدأت الأسئلة وكانت 15 سؤالاً صعباً، وأجبتها بالحق، وأثبت بالتواريخ على جواز السفر الملابسات الخاطئة والكذب في المطالبة بالقبض، وأنا داخل النفس أحترق من الكذب والزور وأخطاء التواريخ التي طالبوا فيها القبض علي، وأنا وقتها كنت خارج الوطن في أمريكا، مما كانت أسبابا جوهرية أقنعت القاضية أن العملية والطلب كانت كيدا وزورا وبهتانا بدون عدل ولا يمت للحقيقة بأية صلة .

             وبعد الإنتهاء من الإختزال والطباعة أعادت مرة أخرى سرد الأقوال التي صدرت مني، ووافقت عليها ووقعت أمامها، وطلبت أحد المسؤولين بالمبنى حيث حضر كشاهد ووقع المحضر وقفل التحقيق، وقالت: مع السلامة سوف أرفع التقرير للجهات المختصة وإذا كان هناك أي شىء سوف نتصل بك... وقلت لها متسائلاً أنا كثير السفر فهل من موانع ؟؟ وردت علي بإستغراب وقالت لديك جواز سفر وتستطيع السفر متى تشاء وترغب، لا توجد أي موانع في الوقت الحاضر، وسوف نستدعيك لجلسة أخرى عن قريب لقفل الملف سواءا بالسلب أم الإيجاب ....

             خرجت من التحقيق فرحا مسرورا، فقد أزيحت الهموم والغموم التي كانت على كاهلي من تاريخ الطلب بالإستدعاء وأنا أفكر من غير راحة، وإبني مصطفى يقود السيارة ، وكنت شبه نائم فقد غلبني النعاس، ونمت طوال الطريق مرتاحا بدون هموم ووصلت للبيت وكانت الزوجة متشوقة لسماع الأخبار قلقة على أحر من الجمر، لا تعرف ماذا سوف يحدث لي ولهم في حالة حدوث مكروه، وحكيت لها القصة وطمأنتها، وقلت لا تخافي الرب العادل موجود وعارف إنني مظلوم مما شعرت بالإرتياح من الموضوع .

                 جلست بالمكتب في البيت وجاء الأخ عاشور وهو مشغول يريد أن يعرف ماذا حدث معي، وقلت له القصة، وبعض الإتصلات الهاتفية، وفاتتني تأدية صلاة الجمعة بالجامع حيث كان بعيدا عن البيت حوالي 80 كم والساعة الثانية والنصف لم أستحمل ضوضاء الأولاد دخلت لغرفة النوم لأرتاح وأنام....

               عندما كنت  بالفراش مغالبا النوم، إستعرضت الحدث وكأنه شريط مصور، وضحكت في سري وقلت، هل أفلس النظام وهذا آخر سهم في جعبته أطلقه ؟ حتى أعيش بقية أيام العمر في هموم وغم الملاحقة بالغربة مهموماً طوال الوقت في المشاكل ... ام أن النظام الأهبل يتوقع أن أمريكا بلد الحريات والعدالة، فوضى كالجماهيرية لا تحكم بدستور وقوانين عادلة للجميع ، أو يحاولون التشويه للسمعة وإنني مجرم حتى تسحب الثقة وأطرد من أمريكا ؟؟ أم هذه الأمور المعقدة عبارة عن بدايات، وسوف يأتي الكثير والكثير من المشاكل والمصائب والمحن بالمستقبل، طالما القذافي المجنون حيا يرزق وعلى رأس السلطة .

                 شكرت الله عز وجل على الصحة والعافية، القوة والصمود، الطمأنينة والسكينة إنني لم أضعف أمام نظام جائر جاهل متخلف، لا يريد وجود أي مواطن وطني معارض على قيد الحياة، يطالب برؤوسنا ونحن بالخارج لأنه أجوفا فارغا بدون محتوى.... ورددت القول مهددا الطاغية متوعدا في السر داخل النفس ، مهما قتلت وطاردت الأحرار الوطنيين بالداخل والخارج، فأنا مناضلا من ضمن عشرات الآلاف الذين يطالبون بالثأر ولن أتوقف طالما بي نفس وحياة ...

              لو تم الإغتيال والقتل غدرا وإستشهدت في سبيل القضية النبيلة ، أكون حققت الرغبة والأمنية بالنفس حيث أريد الشهادة والفوز بالآخرة وليس بالدنيا، ولو عشت وطالت بي الحياة ووهبني الخالق طول العمر، لن أتوقف لحظة عن الكفاح والنضال بالمتاح وبأي وسيلة كانت حسب الجهد، حتى أشهد النهاية والنصر وأفرح، حيث في جميع الحالات أنا الكاسب والفائز !

               سأظل صابراً مجاهدا رافعاً راية العصيان والثورة للنهاية، لا هدنة، ولا سلام، مهما عملت من دسائس وحيل ومطالبات للدول ومهما أشاعت اللجان الثورية الفوضى في أوروبا وقتلت غدرا الأحرار ولا من مهتم  للقتلى الشهداء ماداموا ليبيين عرب ليسوا من مواطنيهم، نظير المصالح المتبادلة والمال الذي أعمى نفوس أصحاب القرارات لديهم، وهم يدعون العدل والشفافية، والله الموفق...

 رجب المبروك زعطوط

 الجمعة 1987/5/15م

 البقية تتبع... 

No comments:

Post a Comment