بسم الله الرحمن الرحيم

                                             شاهد على العصر

                                                    27            


Sofia, Bulgaria 
               وصلنا بالطائرة من بيروت إلى مدينة صوفيا ، عاصمة بلغاريا وكانت أول مرة تطأ فيها أقدامي دولة ضمن النفوذ والمنظومة الشيوعية ، ماعدى يغوسلافيا الإشتراكية التي سبق وأن زرتها عدة مرات ،  وتحصلنا على أجنحة واسعة في فندق " البلقان " العتيق الفخم بسعر زهيد حتى أنني لم أصدق أول مرة الرقم المطلوب للإيجار ، والدفع بالعملة الصعبة الدولار أو الإسترليني ، وكان في إنتظارنا صديقنا الحاج أحمد الفوال من سوريا والمقيم في بيروت ، ومعه إبن أخته السيد نصوح أصفهاني وأخوه الأكبر وأحد الشباب السوريين الذي لم أعد أتذكر إسمه الآن من طول المدة التي مضت من بدايات السبعينات 

كان لدى السيد نصوح أصفهاني سيارة فخمة فارهة أمريكية الصنع " أولدز موبيل " وبها جهاز تليفزيون بالقسم الخلفي و كان  فخوراً بها وهو يقود ونظرات الإعجاب تلاحقه مما كانت وقتها أعجوبة للمارة عندما تمر في الشوارع العريضة الخالية من السيارات الصغيرة إلا من القلائل حيث كانت الرؤوس تدور والعيون تتطلع بإستغراب لها وكأنها جنية أو جوهرة ألماس ظهرت فجأة ، حيث الإعتماد على  المواصلات كان الترام والحافلات والقطارات التي تعمل على  نقل الركاب إلى جميع الأماكن .

تطلعت للجميع في الطرقات والأسواق العامة ذات الرخص الرهيب وبالأخص الدفع بالعملة الصعبة وشاهدت العيون خائفة من القرب مع أي أجنبي خوفا من الملاحقة من رجال الحزب والأمن والمخابرات بدون عدد في الخفاء ، الشعب طيب وفقير جداً إلا من البعض المترفين  رجال الحزب ، أما البقية مهمشون يعملون كالآلات بدون كلل ، يعيشون على رواتب هزيلة بمقاييس اليوم لا تساوي أي شىء يذكر 

قضينا أياما حلوة جميلة في زيارات عديدة للريف ذو الخضرة والغابات الجميلة وبعض الأماكن التاريخية المشهورة وتجولنا بالمدينة القديمة التي لها تاريخ خاص عن العصور الماضية ، وأكلنا وشربنا الكثير مما لذ وطاب ، وكنا سعداء ونصرف بسخاء بدون حساب والخدمات متوفرة من جميع الأشياء طالما الدفع  بالدولار ، وأحد الأيام دعانا العجوز البلغاري صهر الحاج أحمد الفوال ، حيث زوجته بلغارية ، إلى جلسة وحفلة بسيطة إحتفاءا بقدومنا عند الأصيل ، حيث نحن عرب نعتبر من أهل الزوج ، صهرهم .

وصلنا إلى هناك وكنا مجموعة من 6 أشخاص  ، وإحتفى بنا حفاوة خاصة وقدم لنا جميع الخيرات مما لذ وطاب وطالت الجلسة وأكلنا جميع الذي قدموه على الطاولة ونقص البعض من المشروبات ، وشعرت بالعائلة محرجة وسألت صديقنا الحاج أحمد بالسر بدون أن ينتبه أي أحد عن الموضوع   ودخل إلى المطبخ وتحدث مع زوجته دقائق ورجع ، وقال أنهم محرجون غير قادرين على تلبية طلبات الضيوف حيث لا طعام بالبيت ونحن أكلنا الحصة الممنوحة لهم والتي تكفيهم إلى آخر الشهر 

مما أظلمت الأمور في عيوني كيف نترك هؤلاء يعانون بعد أن ننصرف  ،من  الضروري إيجاد حل ! وسألت زوجة الحاج عن وجود  محل تعاوني قريب للشراء وقالت نعم السوق الدبلوماسي قريب جدا على ناصية الشارع وكل شىء متوفر والبيع للأجانب بالدولار وقلت لها من فضلك إرشديني إلى المكان ، وقالت نعم ولا أستطيع الدخول وقلت لها أنا الذي سوف أدخل ، وذهبنا مشيا على الرجلين وكان المكان قريبا دقائق على المنعطف 

دخلت وكان السوق عامراً به كل المطلوب وشبه فاضي لا زبائن به ، وإشتريت حمولة 3 عربات يد كبيرة من الطعام والجبن والمعلبات من جميع الأنواع والمشروبات التي تكفي العجوزين شهوراً ، وبالخزينة دفعت المبلغ وكانت الفاتورة أقل من 80 دولار رقما هزيل بمقاييسنا في ليبيا الوطن ، وساعدتني العاملات في دفع العربات حتى البيت وأعطيتهن بقية ورقة المائة دولار التي دفعت منها مقابل الخدمة والتوصيل وكن فرحات سعيدات حيث الرقم كبير لم يحلمن به على ما أعتقد ، وفرغنا أكياس المواد  بالبيت ورجعن بالعربات وذهل العجوزان من الكرم الحاتمي الكبير وسقطت دموع  الشكر والفرحة ، وقضينا وقتا سعيدا في الحكايات والمرح ، وودعناهم على أمل اللقاء عن قريب ثم غادرناهم ورجعنا إلى الفندق حيث العشاء المتأخر والسهرة إلى منتصف الليل ونحن نلعب الورق ونتسامر 

أيام حلوة مضت بسرعة وسبقنا الأخوة في السفر بالسيارة إلى تشيكوسلفاكيا  " براغ " وبعدهم تركنا الحاج أحمد في صوفيا ولحقنا الجماعة ووصلنا في نفس التوقيت حيث ينتظروننا في المطار بناءا على موعد مسبق ، ولم نجد فندقا أو مكانا لنبقى مع بعض وتم التوزيع لنا من المطار  بناءا على تعليمات مكتب عام خاص بالسواح ، حيث السياحة قوية عامرة من داخل الدول الشيوعية نفسها وبقية العالم نظير الرخص الهائل  ، وجميع الفنادق والغرف والبيوت والأماكن محجوزة مسبقا فقد وصلنا في عز موسم السياحة بالصيف ونحن لاندري وليس لنا حجز مسبق لنقيم ،  وكانت لهم عدة شروط للإقامة كسائح ، إحداها ضروري من صرف مبلغ هزيل في البنك بالسعر الرسمي قدره 5 دولارات عن كل يوم إقامة ، والإثبات بالإيصالات الرسمية من البنوك المعتمدة أنه تم الصرف في المطار عن عدد أيام الإقامة ،  وإلا ممنوع من السفر ، حيث الدولار بالسوق السوداء حوالي 7 أضعاف مما كنا نصرف في السوق السوداء العملة ونصرف  ببذخ طوال الوقت ولا نحاسب مهما كان الصرف ! 

المشكلة التي واجهتنا كانت عدم البقاء مع بعض رفقة حيث السمر والسهر والأمان ، وتم توزيعنا إلى مجموعتين بعد وقت في الإنتظار ودفع بعض المال للإسراع ، وكنت محظوظا مع السيد محمود شحادة رفيق الرحلة من بيروت لبنان حيث أعطونا أفضلية في الإقامة في نزل بيت كبير كالقصرمسؤولة عنه سيدة عجوز  قائمة على الإشراف والخدمات لوحدها ، والآخرون الثلاثة في نزل  آخر ، وتعبنا كثيراً في الإتصالات ببعضنا البعض وتحديد المواعيد كل يوم حيث لم تكن توجد هواتف نقالة مثل الآن ، وإتفقنا على اللقاء كل يوم في أحد المقاهي المحددة المعروفة ، حيث نسهر بالليل وننام إلى الضحى ونكون جاهزين قبل الظهر للقاء وبدأ اليوم في التجوال والفسح ،  والذي يصل الأول ينتظر الثاني حتى يأتي وبهذه الطريقة البسيطة تم التواصل بيننا طوال الوقت .

قامت العجوز بخدمات كبيرة لنا وإعتنت بنا عناية خاصة نظير الإحترام في معاملتها  ، وعدم الإلحاح في الطلبات الكثيرة لكبر سنها حتى لا تتعب  وكان القصر عتيقا ونظيفا للغاية ويشعر المقيم به كأنه في متحف من العصور الوسطى  مما كانت لنا تجربة فريدة للعيش أسبوع وسط عالم خاص قديم مضى إلى غير رجعة ، وسمحت نظير الكرم والإحترام لنا بأن يأتي رفاقنا معنا للعشاء والسهر ، بشرط ممنوع النوم والإقامة لأي واحد منهم غيرنا تحت أي ظرف خوفا من لجان المراقبة التي تأتي دورياتها بدون إعلام بعض الأحيان فجأة في أوقات متأخرة بالليل أو بالنهار تراقب الوضع وكم سائحا غريبا مقيم .

كنا نشتري النواقص المطلوبة لطهو بعض الوجبات على الطريقة العربية التي نحتاجها من السوق الدبلوماسي في المطبخ الكبير ، وكانت سعيدة وراضية ، وأحد الأيام ونحن نتناول جميعا في وجبة عشاء متأخرة حكت لنا قصتها الحزينة عن القهر والجبروت من النظام التعسفي وأنها الإبنة الوحيدة لعائلتها وهذا المكان ملك لوالديها الذين قتلا خلال الحرب العالمية الثانية ، وتوفي زوجها في حادث أليم ولها  بنت واحدة ، والحزب أمم وأخذ المكان بدون تعويض بحجة أنه كبير عليها ، وسمح لها بالإقامة فيه بدل العيش في نزل خاص لكبار السن والعجزة ،  مقابل الحراسة و الخدمة والرعاية عن طريق واسطة من إبنتها العضوة المسؤولة بأحد الإدارات في الحزب الشيوعي في العاصمة "براغ" التي تعرفنا عليها خلال  أحد الزيارات لأمها العجوز .

كانت العجوز تكره الشيوعية من أعماق القلب على الوضع المزري بدل أن تكون سيدة البيت الآمرة الناهية هي الآن خادمة به وراعية ، وحاولنا الجبر بالخاطر حسب القدرات ، وأردنا أعطاؤها هدية تختارها من السوق الدبلوماسي ونحن نشتريها لها ، ولكن رفضت بإصرار شديد وعندما سألناها بإستغراب ، قالت إنها خائفة من إبنتها أن توشي بها ، لأمن الحزب أنها قبلت هدية من الأجانب ، أليس بأمر مؤسف ومأساة ؟؟ أن يعيش الإنسان في الرعب والخوف وقد ولدتنا أمهاتنا  أحرارا في هذه الدنيا 

لم أعرف وقتها الخوف والرعب القاتل في بداية السبعينات فقد كنت خالي البال من  مثل  هذه الأمور الصعبة والضغط والخوف والرعب سوف ينتاب ليبيا الحبيبة في العقود القادمة  من حكم المجنون القذافي  ونعيش المأساة مثل هذه العجوز من نظام قهر وإرهاب حتى وصل الأمر أن يخاف الأخ من أخيه والزوج من زوجته والأب من أبنائه ، حيث تم الزرع للشك وعدم الثقة بين أبناء الشعب البسيط الواحد ،  مما ضاعت المعايير السابقة مثل المحبة والثقة والولاء ، وتقطع نسيج الروابط العائلية والأخوة بين العائلات والشرائح والقبائل وعشنا مرحلة طويلة صعبة حتى أذن الله عز وجل بالفرج .

المهم زرنا أماكن كثيرة تاريخية سياحية في مدينة براغ وضواحيها حيث زرنا منطقة قريبة بها قلعة كبيرة تاريخية نسيت الأسم الآن بعد مرور اكثر من 4 عقود ونيف على الزيارة ، وكانت المعيشة رخيصة جدا وكنا نصرف بسخاء وبعد الأسبوع طلبنا من الإدارة السياحية السكن مع بعضنا في مكان واحد ، وتم التغيير لنا للإقامة في أحد  بيوت الشباب ، وقبلنا حتى نكون مع بعضنا ، وكان الأمر مستغرباً من طريقة لباسنا وصرفنا والسيارة الفارهة لصديقنا التي كانت واقفة في الميدان والبعض من المارة أو النزلاء  واقفون  يتفرجون عليها والبعض يلتقطون الصور ، وسعيدة الحظ من الفتيات من تركب في جولة بالمدينة  مع صديقنا السيد نصوح "دون جوان كازانوفا "  الذي بعض الوقت يهرب من المجموعة ويتناسانا عن قصد  ويتركنا ننتظر قدومه  بالساعات ، وصادفتنا مشكلة قلة الطعام فكل شىء مقنن ومحسوب ضمن حصص معينة لكل فرد سائح ،  وتندمنا أننا تركنا العجوز والسكن السابق حيث كنا في جنة ولا ندري !

حدثت نوادر ودعابات بسيطة ولكن لها معاني كبيرة  ، فقد كان أمام بيت الطلبة مقهى ومطعم وكنا نحن نستيقظ متأخرين بالضحى  ونذهب إلى المطعم لتناول وجبة الفطور والغداء حتى نفيق من السهر المتأخر ، وكانوا يجهزون الطاولات حتى يأتي الزبائن ويأكلون في ساعات محددة وعلى كل طاولة على عدد كراسي كانوا يضعون صحونا صغيرة بها أرغفة خبز ضئيلة في نظرنا حيث تعودنا على أكل الخبز بكثرة ، وكنا نحن السباقين في الوصول للمطعم ، وأثناء الفطور الضئيل كنا نحتاج للخبز ونأكل حصتنا ونمد أيدينا إلى الطاولات الأخرى مما خلقنا لهم مشكلة ، واليوم الثاني لا خبز على الطاولات مثل السابق وسألنا وكان الرد لدينا حصص وأنتم تأكلون بنهم ، ووصلنا معهم إلى حل أن كل يوم يجهزون لنا كل واحد منا دجاجة مشوية ونحن مستعدين للدفع المجزي ، مما بعد إتصالات كثيرة وافقوا على المبدأ 

الأيام الأخيرة كنا نأكل حسب الطلب وهم ينظرون لنا بإستغراب كيف يستطيع كل واحد منا أن يفطر آخر الضحى على دجاجة كاملة بسهولة ويدفع ،  إنها معادلة صعبة بالنسبة لهم للفهم ولكن بالنسبة لنا كنا نريد أن نشبع ولا نجوع طوال اليوم حتى العشاء .

بعدها رجعت أنا والسيد محمود بعد تقضية أيام جميلة في صوفيا بلغاريا ، وبراغ تشيكوسلوفاكيا ، وودعنا الرفاق وسافرنا رحلة العودة إلى بيروت عبر مدينة بودابست ، عاصمة المجر ، حيث قضينا بعض الوقت في الترانسيت ومنها إلى بيروت حيث كان السيد ماجد أخوه في الإنتظار وأذكر أننا وصلنا منتصف الليل حيث كان هناك تأخير كبير في الإقلاع ،، والطائرة شيوعية عتيقة وبالكاد وصلنا سالمين إلى بيروت لبنان .

بعد عدة أيام من العمل والإتصالات مع المكتب في درنة وطرابلس عرفت فكرة عامة عن المطلوب بالسوق فقد بدأ الإنتعاش والخروج من المظاهرات الصاخبة وتطبيل ومسيرات الثورة "الإنقلاب الأسود" والشعب يريد ويرغب العمل بجهد وعرق حتى يربح  ، مما إضطر القذافي للموافقة على رصد الميزانيات الضخمة لبعض المشاريع للبناء والتعمير في جميع المدن والقرى بالوطن التي  بدأت تعلن في الصحف مطلوب شركات وطنية التقدم وتقديم العروض للعمل ، حتى يذر الرماد في العيون والجميع يعمل بقوة ونشاط يريد الإثراء السريع ، بدون أن يهتم بما يدور في الخفاء من تفاهات ومهاترات وتصفيات في المعسكرات والإستراحات الخاصة لكل من يحاول أن يعارض الأخطاء من أحرار الوطن عسكريين أو مدنيين ، والقذافي يخطط بهدوء وصمت يرتب الشبكة القاتلة من أعوانه المجرمين من اللجان الثورية والأمن الأخرين حتى يخنق الجميع في وقت لاحق ،  أليست بمأساة ؟؟

                                                              رجب المبروك زعطوط


البقية في الحلقات القادمة                                   2012/10/23م