بسم الله الرحمن الرحيم
 
 
 
                                                  شاهد على العصر
 
                                                          17


 
            بعدها قررنا السفر والرجوع إلى ليبيا ،، وإشترى الشركاء سيارات مستعملة للسفر عبر إيطاليا ويوغوسلافيا واليونان والشحن من ميناء بيريوس إلى درنة على أحد السفن التي تحمل الإسمنت الخاص بي ، وكانت فرصة لأتعرف على المنطقة وأشاهد المعالم عسى أن أحصل على فكرة لإستيراد بعض المواد من يوغوسلافيا حيث وقتها نظام حكمها كان إشتراكياً وليس شيوعياً ولكن بطريقة ما تحت الهيمنة الروسية ورئيسها الرئيس " جوزيف تيتو " وأسعار مواد البناء بها  رخيصة مقارنة بإيطاليا وقتها .

بدأت الرحلة من روما إلى أقصى الشمال الشرقي حيث مدينة تريستي وعبرنا الحدود اليوغوسلافية وأقمنا بعدة مدن أذكر منها " باولا وسبلت ، بلغراد ودبروفنيك " وبعدها غربا إلى الجبال مسافة كبيرة ثم الطريق إلى الجنوب وعبرنا الطرق الضيقة وقتها وكان الجيش اليوغوسلافي يعمل في بناء وتشييد الجسور ومد الطرق وتوسيعها ورصفها بالإسفلت ،  بدلاً من معظم جيوشنا العربية لدى الثوريين الطغاة التي لا تعمل، بل الصرف للمليارات على الرواتب والعتاد وتكديس الكميات الرهيبة من الأسلحة التي مع الوقت تحتاج للصيانة وقضاء الوقت في المباهاة والغرور والأكل  وإرهاب الشعوب المقهورة ، وساعة الجد والحرب يتلاشون ويذوبون وكأنهم غير موجودين ، أليست بمأساة ؟؟؟

عبرنا الحدود اليونانية ووصلنا إلى مدينة " سالونيكي " حيث كان إبن السيد " ص م " مقيما طالبا يدرس في كلية الطب العسكرية ، وأقمنا بفندق هناك ، وتم الإتصال مع الإبن وجاء للفندق ليقابل والده ، وقضينا يومين في راحة وإستجمام ، ثم السفر إلى أثينا حيث تم الإتفاق على شحن السيارات من الميناء " بيريوس " إلى درنة على ظهر إحدى السفن المحملة بالإسمنت الخاص بي . رجعنا إلى ليبيا بالطائرة وكانت رحلة قصيرة إلى مطار بنينه بنغازي مدة ساعة طيران فقط وبعدها بأسبوعين وصلت السيارات إلى ميناء درنة . إنها رحلة جميلة تخللتها طرائف ونوادر وبالأخص في يوغوسلافيا حيث كانت الطبيعة بها جميلة خضراء من السهول والجبال ، أبدع الرحمن في الخلق مهما وصفت لن أستطيع الوصف .

أحد المغامرات أنني إشتريت سيارة مرسيدس من المصنع ودفعت الثمن ووصلتني برقية بإستلامها يوم 3 ديسمبر 1968م ، وكنت وقتها في روما بإيطاليا ، وإتفقت مع إبن خالي الطالب في لندن للدراسة " م ب " للقاء في ألمانيا ومرافقتي إلى اليونان لقيادة السيارة حتى الميناء للشحن إلى درنة ليبيا ، وخططت للأمر في حالة عدم حضوره لأي أمر وإعتذاره عن القدوم أن يأتي سائق إيطالي من طرف الشركة التي أتعامل معها للمرافقة .

ليلة 1968/1/2م   وصلت إلى مدينة " سندن فنقن " حيث مصانع شركة السيارات المرسيدس وبالصباح الساعة التاسعة وكان الجو باردا وكنت بالمصنع وإستلمت السيارة الجديدة آخر موديل " إس 280 " وقتها ، ولفرحتي لم أتناول وجبة الإفطار بالفندق الذي أقمت به وكان المطعم الفاخر لدى الشركة مفتوح ولم أدخل ، وتمت الإجراءات بسرعة وخرجت أقود  السيارة ومعي خارطة بالطريق للإرشاد وتوكلت على الله عز وجل .

الطقس كان باردا جدا والغيوم كثيرة وأمطار خفيفة وقدت حوالي الساعة وبدأت أجوع ، وبدأت أتطلع إلى العلامات لأشاهد أي محطة للوقود ومطعم ، وأخير شاهدت العلامة ودخلت من المفرق على اليمين وقدت عدة كيلومترات حتى وصلت إلى قرية صغيرة وبدأت أبحث حتى وجدت مقهى ومطعم ، وأوقفت السيارة في المكان المخصص و كان كل شخص  يمر يتطلع حيث السيارة كانت من الأوائل في السوق تظهر للعيان والجمهور ، ودخلت للمطعم وكان به عدة عواجيز متقاعدون حيث جميع الشباب يعمل وجلست على الطاولة ، وجاءت عجوز  وقدمت لي القائمة لأختار الطعام وكانت باللغة الألمانية التي لا أفهما ، وحاولت الحديث معها إذا توجد قائمة بالإنجليزية ولكن من هزات رأسها عرفت أنه لا توجد .

تطلعت إلى القائمة ولم أعرف الطعام … إخترت أغلى سعر بها ووضعت أصبعي عليها طالبا للوجبة ، وإنتظرت طويلاً ثم جاءت الوجبة الساخنة اللذيذة وقدمتها إلى وعندما رفعت الغطاء كانت قطعة كبيرة من فخذ الخنزير ، وطلبتها لتأخذها حيث أنا مسلم ولا أستطيع أكلها حيث حرام في الدين ولم تفهم العجوز وأصرت أن آكلها لأنني طلبتها ، وحاولت أفهامها بالإشارات بأنني مستعد لدفع ثمنها حيث غلطتي ولكن لا أستطيع أكلها ، وبعد مشادة ساخنة ، ساعدني أحد الجلوس حيث يتكلم اللغة الإنجليزية بركاكة وعرف المشكلة وشرحها مما العجوز سكتت وأخذت الصحن وإنتهت القصة وتناولت عدة بيضات مقلية في الزبدة والخبزة السوداء الألمانية وكوب كبير من القهوة مع اللبن ، ودفعت الكثير نظير الخطأ .

واصلت الرحلة حتى وصلت بالمساء إلى مدينة " ميونيخ " وتمت الإتصالات من الفندق حيث أقمت ، واليوم الثاني حضر إبن خالي من لندن وكذلك السائق الإيطالي وسلمتهم السيارة وأوراقها حتى لا يتعطلوا في الحدود وأعطيتهم مصاريف الرحلة من وقود وإقامة وحجزت للسفر إلى روما بإيطاليا لتكملة الشحن لبعض المواد ، وإتفقت معهم للقاء في مطار أثينا حيث حددت لهم التوقيت للرحلة والوصول بالضبط ، وأوصلوني للمطار للسفر ، وودعتهم على أمل اللقاء القريب بعد أسبوع  .

سافرت إلى روما وهم واصلوا المشوار وبالتاريخ المحدد حسب الإتفاق السابق وصلت لمطار أثينا باليومان وكانوا في الإنتظارفقد وصلوا البارحة بعد أن عبروا المانيا والنمسا ويوغوسلافيا وصولا لليونان وكانت رحلة ، وإشتريت تذكرة للمرافق الإيطالي وسافر ، وقررت مع إبن الخال أن نسافر مع بعض إلى ليبيا عن طريق الإسكندرية مصر بالباخرة ونشحن السيارة معنا لنستعملها للوصول إلى ليبيا .

تحصلنا على أماكن بالباخرة المصرية " بورسعيد " وحمولتها 3 آلاف طن من البضائع والركاب المتجهة إلى الإسكندرية مما وافقت حيث لا أحب ركوب البواخر الصغيرة في شهور الشتاء والبحر الأبيض المتوسط غدار ليس له أمان ، حسب الخبرة لدي ، ومن حسن الحظ كانت آخر سيارة ضمن العشرات تحمل على السطح سيارتي ودفعت إكرامية لمسؤول الشحن البحار المصري على رصيف  الميناء حتى تم تغطيتها جيدا وربطها بقوة حتى لا ترتطم بالأخريات ، وركبنا وكان لنا جناح خاص مريح بسريرين بالمقدمة ومن خلال النوافذ الكثيرة كنت  أشاهد سطح السفينة ومقدمتها والبضائع والسيارات المشدودة بوضوح .

غادرت السفينة ميناء بيريوس بالمساء وكان البحر شبه هادىء حيث الجزر كثيرة ، وبعد عدة ساعات من المغادرة بدأت بوادر عاصفة شديدة وزاد هيجان البحربصورة غير طبيعية مخيفة مرعبة ، وندمنا على القرار بركوب السفينة ولكن ما باليد حيلة فنحن شبه أسرى وعلينا الصبر وقوة التحمل  والسفينة تشق  الأمواج الضخمة العالية وكأنها قشة في البحر العاصف ، وحاولنا النوم ولم نستطيع ، وأصيب إبن الخال بدوار البحر وبدأ يتقيء ويقذف الأكل ، وقبل الفجر من الجوع إضطررت للخروج والسير في الممرات الطويلة الخالية من البحارة والركاب حيث الجميع بالغرف بدون عشاء محاولا الإمساك بالحبال المشدودة على جوانب الحوائط بقوة  حتى لا أقع أو أرتطم فجأة نتيجة الإهتزاز الشديد .

أخيرا بعد الهبوط عدة أدوار إلى الأسفل وصلت إلى قاعة كبيرة وبها بعض البحارة يلعبون  الورق وكأن الأمر عادي ، وسألتهم  عن الطعام وقالوا بأن المطعم مقفل ولكن تستطيع أخذ فواكه وخبز ولبن من المطبخ بجوارهم مما عبأت كيسا مما لذ وطاب وشكرتهم ورجعت للغرفة بعد مجهود شديد وتعب كبير من الإهتزاز خوفا من السقوط على الأرض ، ولو لم أكن شابا قوي البنية لما كنت وصلت …

عشنا ساعات الليل في قلق خوفا من الغرق حتى بزغ ضوء النهار وتطلعت من النوافذ وكان الجو مظلما مكفهراً وكم إرتعبت وأنا أشاهد  الأمواج العالية ترتطم بمقدمة السفينة بعنف والسفينة تشق فيها وترتفع عالية وتهبط إلى أسفل في دوائر وفتحات وفوهات كبيرة " بلاليع " أعجز عن  وصفها!   وترتفع  مرة أخرى مثل البهلوان الذي يرقص على الحبال بدون كلل ، ونحن نشاهد فى عظمة الخالق الله عز وجل كيف أبدع خلقه ، فقد كنا في وسط العاصفة المزمجرة ، وبدأنا ندعوا ونسبح ونتشهد حتى ننجو و نصل بالسلامة إلى ميناء الإسكندرية بسرعة … استمر بنا هذا الحال المخيف ولم نستطع مغادرة الغرف ولم نتناول أي وجبات طعام من الخوف والقلق وكانت تجربة فريدة ولمنا النفس على المغامرة الخطيرة والإحساس والشعور بالخطر طوال النهار والليلة الثانية …

قبل الفجر لليوم الثاني بدأت العاصفة في الهدوء والتوقف وعندما بدأ ضوء النهار يبزغ ضياءا شاهدت من بعيد ظلال خط بني غامق وعرفنا أننا وصلنا حيث ساحل مصرالمحروسة  أمامنا وبدأنا نرتاح من الخوف والقلق والسفينة ماضية تشق العباب كأنها عروس متهادية ومعظم الركاب فرحى بالسلامة والوصول إلى بر النجاة .

ودخلنا لحوض الميناء وبعد فترة بسيطة جاء زورق المرشد وركب المرشد على السفينة وخلال ساعة رست السفينة على الرصيف وبدأ شد السلاسل والحبال الغليظة بالرصيف حتى لا تتحرك بعيدا نظير التيار  ، ثم نزل الركاب وكنا معهم وإنتظرت السيارة وكانت الأولى في التفريغ  ولمست عجلاتها الأرض بكل  رفق من الرافعة  ووضعنا الحقائب وقدتها حتى حظيرة الجمرك للتفتيش والإفراج وكانت الإجراءات معقدة والروتين وكثرة الورق والأختام بدون عدد وكل خطوة ضروري من الدفع بالحق وغير الحق الرشوة بدون فائدة .

تعبت من الإنتظار والإجراءات العقيمة المعقدة والتعطيل والإبتزاز المستمر والدفع بدون فائدة وكأن التعطيل بقصد للسلب  المتعمد حتى منتصف النهار بدون فائدة والساعة الثانية يقفلون الخزينة والمعاملات وأضطر للبقاء للغد ، وطرأت علي فكرة وذهبت للمقصف وتحصلت على مكالمة بالهاتف وخابرت القنصل الليبي صديقي السيد " ع ب " وقلت له إنني بالميناء بالإسكندرية ومتعطل نتيجة السيارة حيث عبور فقط إلى ليبيا وأريد مساعدته .

سبحان مغير الأحوال من حال إلى حال ، ففي خلال فترة بسيطة من الوقت نودي على إسمي  وجاء أحد المسؤولين  بالميناء يعتذر عن التأخير وبقدرة قادر خلال ساعة  تمت جميع الإجراءات والأختام  بدون أي تعطيل وقمت بقيادة السيارة خارج الميناء ، وهو يودعنا  بالسلامة ، والجميع مستغرب من السيارة الفارهة الجميلة حتى إنني خفت من العين والحسد وقرأت عدة آيات من القرآن الكريم حتى تمنع العين الحاسدة الحاقدة من أن تصيبنا بخبث الشياطين ، ورأسا إلى مبنى القنصلية حيث القنصل ينتظر وصولنا .

أقمنا مع القنصل يومين وبعدها قررنا الرحيل والرجوع إلى درنة ليبيا ، وحمدت الله عز وجل إنني أخذت خطاب توصية لمدير الجمرك المأمور السيد " عقوب " قريبه ومن نفس قبيلته البراعصة ، لأنني أعرفه وأعرف شخصيته حسب معرفة الكثيرين وكان صديقا لإخوتي وكان صاحب مزاج متقلب ، إذا كان سعيدا وفرحا مبسوط لا يعقد الإجراءات والمعاملات والجمل يفوت من عين الإبرة بسرعة ، وإن كان مغتاظا وغاضبا فالإبرة لا تمر مع فتحة الباب بل ترتطم بالحائط ، ولم أكن أرغب في  المجازفة ! 

بالصباح الباكر ودعنا القنصل وشكرناه على المعروف وحسن الضيافة وبدأنا المسيرة وكل شىء مر مرور الكرام  وبسهولة في السلوم حتى وصلت إلى الحدود الليبية وعبرت البوابة وأتممت إجراءات الجوازات وتم الختم وتقدمت بالسيارة أمام مبنى الجمرك ، ولسوء الحظ كان مأمور الجمرك السيد " عقوب "  واقفا مستندا على درابزين السلالم وأول ماشاهدني والسيارة وقبل السلام عليه قال بصوت عالي الحمد لله على السلامة يا إبن الذوات مستهزءا ، وعرفت أنه في حالة نشوة من ليلة البارحة ، وأكمل الحديث وقال علي الطلاق لا تخرج السيارة حتى تدفع الجمرك في الإدارة العامة في بنغازي وبعدها يتم الإفراج عنها ، مما عرفت أنه يريد تعطيلي عدة أيام أخرى نظير مزاجه العكر، وقلت له عندي لك رسالة خاصة وأعطيته إياها ، وعندما قرأها تهلل وجه وقال معاتبا لماذا تركتني أحلف بالطلاق وأنت لديك الرسالة من القنصل إبن العم ؟؟ ورددت عليه بسرعة لأنك لم تعطيني الوقت حتى أشرح لك ، وقال لمساعده  جندي الجمارك ، أكتب له التصريح أن يقود سيارته لمدة شهر حتى إتمام إجراءات  دفع الجمرك في بنغازي وسوف أوقعه .

طرت من الفرحة فقبلها بدقائق كان يحلف بالطلاق على المنع والآن يوافق على التصريح للسيارة ببساطة ، وشكرت  الله عز وجل  على رسالة التوصية وإلا كنت تعطلت ، وخلال ربع ساعة كنت أشق الطريق بسرعة جنونية إلى مدينتي درنة والسيارة تحمل اللوحات المعدنية الألمانية ولدي تصريح لمدة شهر بالتجول ووصلنا هناك قبل الساعة الثانية ظهرا وأنزلت إبن الخال قرب بيته في المدينة القديمة وذهبت للبيت لأرتاح من الرحلة الطويلة وكانت الفرحة عارمة لدى الوالدين والعائلة على الوصول سالما  حيث كانوا مشغولين علي نظير الغياب الطويل ، بدون أخبار ولا إتصالات هاتفية … والله الموفق .
 
                                                                 رجب المبروك زعطوط
 
                                                                       2012/10/6م