Monday, October 8, 2012

شاهد على العصر 16


                                             بسم الله الرحمن الرحيم


                                                  شاهد على العصر
                                                      
                                                         16


             حدثت كوارث وحوادث أليمة خلال سنوات العمل في إستيراد الإسمنت  من اليونان من منتصف الستينات حتى نهاية السبعينات ، حيث البحر الأبيض المتوسط خلال الشتاء غادر  مضطرب بالأمواج  وهائج  ، والسفن ذات الحمولات الخفيفة في حدود ألف طن أو أقل ، لا تستطيع المقاومة و الإبحار في العواصف الشديدة في كثير من الأحيان بل تلجأ إلى الرسو في أقرب جزيرة أو مكان آمن عدة أيام حتى تهدأ العواصف ، والعمل في البناء يتعطل نظير البرد والأمطار ،  وساعات العمل تقل عن المعتاد حيث الظلام يحل بسرعة وساعات الضوء قليلة مقارنة بالصيف ، والبناء والتشييد في منطقتنا يتوقف وبالأخص العمل في صب الخرسانات  شبه مشلول ، ومعظم العمال المصريين يرجعون إلى مصر لقضاء الشتاء مع عائلاتهم حيث لا يوجد  دخل كبير    يتحصلون عليه  نظير العمل .

بدأت الحوادث الأليمة  بأول سفينة " ديمتريوس " وقبطانها الكابتن " شرياكو وأخوه أليفتيري " وكنت  أعرفهم معرفة وثيقة حيث تعاملت معهم لسنين عديدة ، وكانت السفينة  لها ذكريات  خاصة لدي حيث نقلت  أول حمولة إسمنت بإسمي في منتصف الستينات عندما كنت أعمل كتاجر  في إستيراد مواد البناء .

في بدايات السبعينات في عز الشتاء والبحر هائج  والعاصفة شديدة غرقت السفينة وهي فارغة بدون حمولة في طريق العودة من ميناء درنة إلى االيونان قريبا من إحدى الجزر اليونانية مما تمكن القبطان شرياكو وأخوه وجميع البحارة من النجاة  من الموت غرقا ، وكانت نعمة كبيرة لهم حيث ساعدهم الحظ والقدر على التجديف في قارب النجاة طوال ساعات الليل والظلام الدامس وفي خضم عاصفة شديدة حتى وصلوا لليابسة وتمت نجاتهم ، ومنذ تلك الكارثة وضياع السفينة تقاعد القبطان شرياكو عن العمل في البحر ، ومرت السنين العديدة ولا أعرف إن كان مازال على قيد الحياة ، فقد كان القبطان اليوناني صديقا وفياً .

السفينة الثانية  المنكوبة أندرونيكي التي غرقت حيث القبطان للسفينة " فولوس " الملاصقة لها على الرصيف يومها في ميناء درنة يتابع الطقس والأحوال الجوية عبر الراديو اللاسلكي وعرف بطريقة ما أن العاصفة الشديدة سوف تبدأ بعد عدة ساعات بقوة وعنف  وكان الطقس جميلاً وخادعاً ولا هبة ريح أيا كانت بشكل غير طبيعي ونحن في عز فصل الشتاء  وكنت في ذلك اليوم  متواجداً على رصيف الميناء أتابع عملية تفريغ  الحمولة من الإسمنت و عندما كنا على وشك  النهاية أو إستكمال تفريغ كامل الحمولة ، طلب القبطان  من العمال الذين يعملون التوقف والخروج فجأة مما إستغربنا من عمله الغير متوقع وطلب من بحارته قفل العنابر بسرعة ، وطلب من قبطان سفينة أندرونيكي التي لم تبدأ بعد في التفريغ اللحاق به إلى مكان آمن في خليج البومبة الذي يبعد عن ميناء درنة حوالي 30 ميل شرقا ، ولكن  القبطان العجوز رفض و سخر منه ولم يوافق ، وغادرت السفينة فولوس الميناء بعد أن أخذ الإذن من إدارة ميناء درنة بالمغادرة والرسو في الخليج القريب حيث لا أمان في حوض ميناء درنة المفتوح والعاصفة الشديدة قادمة ولم يصدقه أحد ،  وكانت الساعة حوالي الثالثة ظهرا .
وحوالي الساعة السادسة مساءا تغير الطقس فجأة وأكفهر بالسواد الكثيف من السحب وبدأ هبوب الرياح ، وهناك عرف قبطان السفينة خطأه وحاول إصلاحه وخرج من الميناء محاولاً اللحاق بصاحبه الذي كان على وشك الوصول للخليج الآمن .

ولكن القدر أسبق منه حيث أرتطم بجرف بالليل في الخليج بالقرب من أحد الشواطىء وتسرب الماء بقوة وغرقت السفينة بكامل حمولتها بالليل إلى القاع وبقى من آثارها قمة الصاري المرتفع وكانت نكبة للقبطان على سوء تقديراته وعدم السماع  ، ولم يهتم لكلام القبطان الشاب لسفينة " فولوس "  وهو كبير السن العجوز المتمرس طوال العمر في البحر ، ونسى أن البحر لا أمان له في أي وقت .

اليوم الثاني كان البحر هائجاً وذهبت للميناء للمشاهدة وكم ذهلت من قوة العاصفة وإرتفاع الأمواج عدة أمتار بصورة مخيفة وهي تضرب الحاجز الإسمنتي القوي والمغطى بمئات المكعبات الإسمنتية التي تزن عشرات الأطنان ثقلاً وتغطيه وتنساب بسرعة على الرصيف العريض إلى البحر من الجهة الأخرى حيث كانت السفينتين " فولوس  وأندرونيكي " راسيتان للتفريغ ، وقلت للنفس سبحان الله عز وجل القادر القدير عاصفة مثل هذه ممكن تغرق جميع السفن الصغيرة والقوارب للصيد في عرض البحر بسهولة .

في اليوم الثالث هدأت العاصفة ووصلت السفينة " فولوس " إلى ميناء درنة لتكملة تفريغ بقية الحمولة من الإسمنت ، وكان على متنها قبطان السفينة " أندرونيكي " المنكوبة وجميع بحارتها ، وتم إستدعائهم لمكتب رئيس الميناء " الحاج سالم رقص " رحمه الله تعالى لكتابة تقرير بالواقعة والحدث وكيف تم الغرق لتقديمه إلى السلطات البحرية في اليونان لتتابع الواقعة ، وشاهدت القبطان العجوز وهو يبكي بالدموع وشددت على يديه مصافحا مشجعا ومواسيا بأن لا يحزن وأن الذي حدث قدر مقدر ، والحمد لله عز وجل على سلامة الجميع مما كان للمواساة لها تأثير نفساني كبير ، وكنت مالك الحمولة وطمأنته أن التأمين سوف يدفع القيمة ، وكان بكاؤه أنه ختم حياته بالبحر بغرق سفينته ، وأنه من الصعب الحصول على عمل كقبطان مرة أخرى وحكم على نفسه بالتقاعد والحصول على الدخل البسيط من الضمان الإجتماعي في اليونان ليعيش بقية العمر .

غادرت السفينة " فولوس " بعد أن أكملت تفريغ الحمولة ، وعلى ظهرها جميع بحارة السفينة المنكوبة وقبطانهم ، وبالنسبة لي كان آخر مرة أشاهد فيها القبطان ولم يرجع إلى درنة خلال عدة سنوات التي كنت أتردد على الميناء فيها .

بعدها بسنة شاء القدر وأثناء عاصفة شديدة كانت السفينة " فولوس " راسية بميناء درنة وقد تم تفريغها بالكامل من حمولة الإسمنت ،  وأثناء الليل من الدفع والشد القوي تقطعت الحبال الغليظة القوية المشدودة لها في الميناء ، وجرفها التيار بسرعة وقوة وإرتطمت بالجرف المقابل للميناء في " مغاير الصرواحي " و حصل ثقب كبير بأحد الجوانب وتسرب الماء وغرقت ، وإستمرت ظاهرة للعيان من المنتصف الأعلى مهجورة لعدة سنوات حتى تم التصليح للميناء وتم شطرها وقطعها وأصبحت خردة .

آخر سفينة لي غرقت ولا أتذكر أسمها الآن  ، جنحت في الميناء نظير عاصفة قوية وإرتطمت بالرصيف في ميناء بنغازي مقابل فندق عمر الخيام وتسربت المياه لها وغرقت بكامل حمولتها وكانت تحمل الفا طن من الإسمنت ودفع الـتأمين القيمة لي .

كذلك أنا شخصيا حدثت لي عدة حوادث سيارات والحمد لله عز وجل نجيت منها ولم أصاب إلا ببعض الخدوش ، وأذكر إحداها حيث كادت تسبب لي مشاكل حيث كنت في سباق مع أحد الأخوة من بلدة شحات إلى درنة وأعطيته الوقت الكافي قبل اللحاق به وتسابقنا وكان برفقتي أحد الأصدقاء من آل الجامعي بدرنة وعندما وصلت إلى منطقة القبة رمتني أحد الفتيات التى تمشي بجانب الطريق مع بعض الصغار بحجر وأنا في سرعة عالية وقتها حوالى 140كم بالساعة تعتبر من الخوارق والجنون ، مما تحطم الزجاج الأمامي وبصعوبة تمكنت من الوقوف وأنا أغلي من الغيظ والغضب ، وطاردت الفتاة جريا على الأرجل لمسافة كبيرة حتى أمسكت بها قرب بيتها وسط المزارع وحملتها بعنف ورجعت للسيارة ورجعت إلى مركز الشرطة لعمل المحضر وسلمتها لهم ، وبدأ رئيس عرفاء المركز " الشاويش " في البدأ لكتابة المحضر بالواقعة .

أثناء ذلك  جأء أهلها وجيرانها البادية بسرعة مزمجرين يعربدون وأنني تعديت على شرفهم وخطفت الفتاة غصبا عنها وقصصا كاذبة كثيرة ليس لها أي أساس من الصحة ، وبدلا من الظلم الذي وقع علي والضرب بالحجر والكسر للزجاج الأمامي والرعب والخوف والحمد بالسلامة على النجاة ولم أرتطم بالأشجار الباسقة العالية غليظة الجذوع أو أسقط بالسيارة في المنحدرات حيث الطريق عالية ، تغير البرنامج وأصبحت المتهم وأنني أنا الذي عاكست الفتاة الصغيرة ، ونسوا السرعة العالية ، وإضطرت للدفاع عن نفسها أن تضربني بالحجر ، والعرف وقتها عند البادية الزواج منها حيث المصيبة وكنت وقتها متزوج ولدي زوجة وعائلة  ، وبالكاد بعد أن نصحني رئيس العرفاء بأن أختصر الأمر وأتنازل على القضية والتعويض المادي لإصلاح السيارة ، وقبلت نصيحته وأقفلت القضية وتنازلت عن الدعوى وتم خروجي من المنطقة وأنا سليم معافى من غير إهانات من ذويها الذين يعملون من الحبة قبة .

حوادث أخرى على الطرق في مدينة بنغازي حادثين وآخر بمنطقة القبة وآخر حادث كان على الطريق الساحلي مابين درنة وميناء رأس الهلال ، والحمد لله تعالى لم أصاب بأي شىء خطير في جميعها ، وكنت أيام الشباب مجنونا بالسرعة ، والآن في سن الشيخوخة أخاف من السرعة القوية وبالأخص عندما ألاحظ أن السائق غير ماهر في القيادة ،  ودائما أتشاجر مع أبنائي وهم يقودون بي ، أطلب منهم  القيادة ببطء حتى أتمتع بالمشاهدة من دون شد أعصاب وبالأخص لدي جهاز مزروع بالقلب لينظم دقاته ، ولكن بدون فائدة ، أصل للمشوار وأنا قلق ، وهم يبتسمون في السر على الحالة المزرية التي أنا فيها ، وكنت أطمئن نفسي  بأنني أيام الشباب كنت أعمل مثلهم لوالدي والغير حيث كنت مجنونا بالسرعة ، وأنا الآن أدفع الثمن … والله الموفق .

                                                                 رجب المبروك زعطوط
                                                                     
                                                                        2012/10/3م 


No comments:

Post a Comment