بسم الله الرحمن الرحيم
لقد سبق وأن كتبت هذه الخواطر سنة 1988م ،، ولم تكن الظروف ملائمة في ذلك الوقت لنشرها ،، والآن بعد أن تنشقنا نسيم الحرية العليل ،، حان الوقت المناسب لإطلاع جمهور القراء عليها ،، ووجدت من المفيد سردها حتى تكون عبرة لشبابنا ،، وتذكيراً لشيوخنا ،، راجياً من المولى عز وجل ،، أن تتحقق الإستفادة للجميع …
شهر رمضان الكريم
شهر رمضان الكريم
اليوم 1988/4/28م الموافق 12 من شهر رمضان الكريم والساعة 6:15 مساء ومازال على المغرب حوالي ساعة و نصف ،، جلست بالمحل وحيدا حيث زوجتي ذهبت لتحضير وجبة الإفطار ونسيت أن تترك مفتاح السيارة حتى أرجع للبيت ،، وبحثت عنه في كل مكان بالمكتب ،، وأخيراً تذكرت أنه معها ولم تعطه لي ،، وضحكت من الأسى وقلت للنفس إنها "تحشيشة رمضان" !
شهر رمضان يمر مرور الكرام ،، لم أتمتع بلذته وبهجته منذ حوالي العشرة أعوام بالغربة إلا مرة واحدة سنة 1984م عندما قضيته مع العائلة في القاهرة لحضور عرس نسيبي حمدي ،، وأقمت في فندق فخم ماريوت الذي كان أحد القصور الملكية لملوك مصر ،، مطلا على النيل حوالي اربعين يوماً ،، وكنت كل ليلة أفطر مع جميع العائلة فى بيت الأخ والرفيق جاب الله مطر الذي كان مصرا على تناول وجبة الإفطار معه كل ليلة كضيوف ،، وبعد الإفطار والصلاة نقضي سهرات جميلة في زيارات لكثير من إخواننا الليبين ونترك الزوجات والأولاد مع بعض إلى وقت السحور ،، حيث نرجع للفندق وبعد صلاة الفجر ننام إلى الظهر ،، إنها أيام جميلة تمتعت بها ،، لن أنسى ذكراها طالما بي نفس حياة ،،
إن صيام شهر رمضان في أمريكا صعب جدا ،، حيث لا يدينون بدين الإسلام ،، عبارة عن عذاب للصائم وهو يشاهد الطعام الشهي غير قادر على الأكل ،، ولكن له أجر كبيرحاصل من الله عز وجل ،، حيث الجميع يأكلون ويشربون ويدخنون ،، لا يقدرون مشاعر الصائمين لأنهم لا يعرفون عن الصيام إلا النزر البسيط ،، ومعظمهم لا يعلمون ولا يعرفون أي شىء ،، يصابون بالدهشة عندما يعرفون أننا صائمون ،، وينظرون لنا بتعجب وإستغراب ،، كيف نستطيع أن نتحمل الجوع ببساطة وبالرغبة ،،
أصبت بمرض الزكام والرشح ورأسي يكاد ينفجر من الصداع ،، وصائم و غاضب ،، قلبي يكاد يتقطع من الهوان والغضب ففي المدة الأخيرة أصبت بعثرات أليمة وخسرت الكثير من المال ،، ووجدت نفسي حائرا أتخبط لا أعرف ماذا تخبئه لي الأيام القادمة والقدر من مقادير أنا أجهلها ،، صابر محتسب راضيا بما قسمه لي الله عز وجل ،، لأنني أعرف عن يقين إن نهاية المطاف أفراح وسعادة ...
طوال أشهر رمضان السابقة مع كثرة التنقلات والسفريات ،، إضطررت لفك الصيام والفطور بعض الأيام نتيجة الإرهاق ولكن بحمد الله تعالى قمت بترجيعها وصيامها كاملة ،،، وأتذكر أنني قمت بالصيام وعمري لا يتجاوز عشرة سنوات ،، ومنذ ذاك الوقت لم أتوقف عن الصيام مهما تعرضت فيها من تعب ومضايقات ،، والحمد لله عز وجل أعطاني قوة التحمل والصبر ،، وقمت بالصيام على أحسن وجه ،،
شهر رمضان شهر كريم عظيم أحد الأركان الخمسة التي بنى عليها دين الإسلام ،، شهر الغفران ،، المحبة والتوبة ،، التسامح والعطف ،، شهر القرآن وتعاليم الله عز وجل ،، به ليلة القدر التي من عظمتها وقوتها الروحانية وأفضالها أعطاها الله عز وجل ،،، ميزة كبيرة حيث نزل فيها الوحي الأمين سيدنا جبريل بالقرآن العظيم على النبي الرسول سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام ،، عظمها الله تعالى مباهيا بها عباده وجعل أحد لياليها مخبأة في العشرة الأيام الأواخر ،، تعادل في الأجر ألف شهر ،،
شهر رمضان هذه السنة من أصعب الشهور التي مرت علي بالغربة ،، فقد كنت وقتها بالوطن أشعر براحة نفسية وطمأنينه روحية ،، بعكس الآن أعيش شهره في قلق لا أعرف ماذا يخبئه لي القدر من خير أم شر؟؟
أحاول قدر الجهد والإمكان أن لا أغضب ولا أحقد ولا أحسد على أي إنسان وبالأخص على الطاووس العقيد المعقد الشيطان ،، حيث كان هو الأساس في الهجرة والشقاء والضغوط النفسية التي أحاول قدر الإمكان التغلب عليها بالعمل الجاد والصبر،، فشهر رمضان بالنسبة لي شهر مقدس ،، لا أستطيع المساس به ،، وعمل الفواحش مهما كانت المغريات من إخوان السوء وشياطين الأنس والجان حتى أتحصل على الأجر الوفير ،،
شهر رمضان هذه السنة من أصعب الشهور فقد إنتقلت من البيت الكبيرالواسع إلى مكان صغير غير مريح حتى أرتاح من هم الديون والإلتزامات من أن تتراكم على أكتافي وأستطيع العمل براحة حتى أبدع وأتخلص من الأوهام والضغوط التى بدأت في المدة الأخيرة تقلق البال ،، نتيجة الخوف من المجهول الآتي ...
في نفس الوقت فرح وسعيد لم أيأس وأقنط من رحمة الله عز وجل ،، فكل ظرف صعب مررت به ،، كان دروسا رهيبة صقلت الروح والنفس بقوة وجعلتنى أزداد قوة ،، عمقا في الإيمان والصبر ،، طهرت النفس من شوائب الأيام ،، خلقت مني إنسانا آخر يفهم في الكثير من الأمور التي كنت بالسابق غافلا عنها غير مباليا نظير العيش في العز ،، لم أعرف الحاجة ولا الحرمان من قبل ،، والغربة ،، مررت بهذه الأمور الصعبة نظير المغامرة وعدم الحسابات الدقيقة ،، وأنا شاكر للقدر ،، فلولا المصاعب والمصائب لم أتعلم كما أنا الآن ...
إن الصيام له معاني و عبر ودروس كثيرة ،، ليس أي إنسان صائم قادر على الفهم وإستيعابها ،، فهي ليست في الكف والإمتناع عن الأكل والشراب أثناء ساعات النور والضياء بالنهار ،، ولكن تهذيب الروح والنفس الأمارة بالسوء حتى تتوقف عن الشر والشرور ،، ويعرف الغني آلام الجوع حتى يحس بغيره من الفقراء المحتاجين ،، ويلين القلب ويعطف عليهم ،، وأهم شىء هو صحة البدن ،، تذوب السموم الموجودة بالدهن والشحم ،، يتغير الدم الفاسد إلى الأفضل ،، تتجدد الطاقة وتزداد الصحة إلى الأفضل ...
إن شهر رمضان شهر مبارك كثير الخيرات ،، الله الرازق يرزق الصائم بدون حساب ،،، ليس شهر عذاب وحرمان كما يتصور الكثيرون من البشر المسلمون الضعفاء ،، يحاولون الإحتيال ويدعون عشرات الحيل بالمرض أو العمل والتعب حتى يفطرون أيامه ،، ولا يرجعونها بعده ،، في نظري هؤلاء حيوانات ناطقة ،، الآن بهذه الحياة والدنيا الفانية يستطيعون اللعب وإجترار المبررات كما يحلو لهم ،، ولكن وراءهم يوما الموت والآخرة ،، ماذا سيقدمون من أعذار واهية ،، حتى يجتازوا الإمتحان الرهيب ،، إنني لا أعرف ؟؟
كل ليلة مرت بهذا الشهر الكريم ،، أقضي السهرة لوحدي ساهرا على الإذاعة المرئية حتى مللت من المشاهدة لمئات القنوات والمواضيع ،، حيث الزوجة تنام من كثرة التعب والإهتمام بأعمال البيت ،، والأولاد ينامون مبكرا للإستيقاظ بالصباح الباكر والذهاب للمدارس ،، وأنا أظل ساهرا مثل الخفير أو الحارس مع الفكر الذي يعمل طوال الوقت من غير تركيز على المشاهدة ،، أليست بمأساة أن يضيع العمر بهذا الشكل؟؟
ثم أفيق من الأحلام والتخيلات وأقول معزيا النفس ،، إنها إرادة الله عز وجل ومقادير القدر ،، أن أكون بهذا الشكل لحكم ،، أنا بعيد عن فهمه ،، طالبا العفو والعافية وأن أظل صامدا حتى أجتاز الأزمات بسلام ،، والله الموفق ،،،
رجب المبروك زعطوط
1988/4/28م
No comments:
Post a Comment