بسم الله الرحمن الرحيم
لقد سبق وأن كتبت هذه الخواطر سنة 1987م ،، ولم تكن الظروف ملائمة في ذلك الوقت لنشرها ،، والآن بعد أن تنشقنا نسيم الحرية العليل ،، حان الوقت المناسب لإطلاع جمهور القراء عليها ،، ووجدت من المفيد سردها حتى تكون عبرة لشبابنا ،، وتذكيراً لشيوخنا ،، راجياً من المولى عز وجل ،، أن تتحقق الإستفادة للجميع ...
خواطر الجمعة
يوم الجمعة 1987/8/7م حوالي الساعة 11 صباحاً جلست وحيداً مهموماً مغموماً قبل الذهاب إلى الجامع لتأدية صلاة الجمعة الذي يبعد عن البيت في ضاحية ثانية حوالي 80 كم ،، أريد أن أتحدث إلى أي إنسان ،، ولم أجد بجانبي غير الأولاد يلعبون ولا يعرفون ماذا يخبئه القدر لنا في المستقبل القريب أو البعيد ،، لا يحسون ولا يشعرون بالأحاسيس والعوامل التي تلتهب بالقلب والعقل عن البعد عن الوطن والأهل بالغربة ...
الغربة لها ثمن غالي وقاسي ،، ولها محاسن وفضائل لا تعد ولا تحصى ،، وحاولت قدر الإمكان الصهر والمزج حتى أذوب وأمشي مع الشعب الذي أعيش وسط ظهره ،، الذي تبناني وإحترمني كإنسان غريب وقدم لي جميع التسهيلات في الإقامة والعيش حرا رافع الرأس بكرامة وقيم مثل الآخرين من أبنائه ،، حاولت قدر الإمكان أن أنسى الحياة السابقة في ليبيا ،، وأتعود على الحياة الجديدة في أمريكا ،، ولم أستطع لأنني أعيش بالجسد في أمريكا ،، والروح والقلب والوجدان بالوطن ليبيا ومدينتي التي أعشقها درنة الحبيبة .
مرت للآن 8 سنوات عجاف بعيداً غريبا عن الوطن كل يوم أحلم بيوم الرجوع ،، لم أهتم بالنفس ولا بالعائلة ،، أعطيت كل الوقت والجهد للقضية السامية النبيلة ،، وساهمت مع الغير بكل الوسائل ،،، وكل مرة أصطدم بجدران صخر وسدود منيعة صعب إجتيازها ،، كنت دائما صابرا متحلياً بالخلق ،، الإيمان والعقيدة والصدر الرحب ،، متحليا بالشجاعة الأدبية وتحمل المصائب والمصاعب والمكاره المتوالية الواحدة وراء الأخرى نظير عدم الخبرة والتجربة سواءا بالغربة أو النضال ،، صابرا لم أقنط من رحمة الله عز وجل ،، وتحملت الكثير من الحسد والأحقاد والكيد من أبناء الجالية بالغربة ورفاق السوء المنافقون ،، ولم أعرهم الإهتمام الكبير وتجاوزتهم ،، لأنني أعرف وأعلم عن يقين أنني على الطريق السوي السليم أسير بخطى ثابتة ،، مردداً المثل ( القافلة تسير ،، و الكلاب تنبح ) ومهما طال الطريق يوماً إذا عشت وكتبت لي الحياة سوف أرجع ...
نحن الليبيون بالغربة نعيش في محنة قاسية ومأساة غريبة لم تمر على الشعوب الثانية في نظري وحسب توقعاتي ،، لأن الكثيرين بدون عمل ،، إعتمدوا على المبالغ الزهيدة بحوزتهم في الصرف والعيش بكرامة فترة بسيطة ولم يخططوا أن الغربة سوف تستمر سنين طويلة ،،، وحتى الآن غير معروف متى النصر والرجوع ؟؟ يعيشون في حلم الرجوع بسرعة وكأنهم في رحلة تستغرق فترة بسيطة ،، يعيشون على الأمل بالرجوع الذي غير معروف متى ؟؟ يحملون همومهم ومشاكلهم بدون التخلص منها ،، وفتح صفحات بيضاء جديدة من الحب والوئام والتعاون مع بعض ،، لم نجد من المجربين من يرشد ويشرح ويقترح حتى نأخذ عبراً ،، لم نجد أية كتب لنقرؤها عن الغربة ومآسيها من المهاجرين السابقين أيام غزو الطليان لوطننا حتى نعلم ونعرف ونحاول من أول يوم العمل حتى نزيد في الرأسمال والقروش الزهيدة التي معنا وبحوزتنا من يوم الوصول ،، بدل من صرفها ،، وعندها صعب البدأ والنهوض ويضطر الكثيرون بعد عز وجاه إلى مد اليد وإراقة ماء الوجه نظير الإحتياج .
أما أفراد معظم الشعوب الثانية خرجوا من أول يوم والنية مبيته للعمل ورفع المستوى المعيشي نظير الفقر والحاجة الماسة للدخل ،، أو لتحصيل العلم ،، الوقت جميعه للعمل أو الدراسة بدون خوف ولا ملاحقة ،، ليست لديهم طموحات سياسية إلا من القلائل ،، ولا فرق موت تطاردهم للإغتيال والقتل ،، وهذا الفرق الكبير المميت ... فقد نجح النظام في بث الخوف في أوساطنا بالغربة ،، لم نرتاح حتى ونحن بالخارج وبعيدين عن سيطرته وأذرعه وفرق لجانه الثورية ،، نعاني الرعب والخوف الزائد عن الحد الذي معظمه من نسيج الخيال حتى لا ننجح ونفوز في الأعمال فنحن شعب ذو ذكاء حاد سهل علينا أن نصبح أثرياء ونستطيع الدعم القوي للمعارضة ... فالمال هو الأساس إذا توفر مع التخطيط السليم لقلع وتدمير الطاووس الشيطان بسرعة من سدة الحكم في وطننا الغالي ...
كل شىء مقدر و مكتوب في اللوح المحفوظ من الرب الخالق ،،، ونحن البشر عبارة عن أدوات لفترات وإمتحانات عن ماذا سوف نعمل وقت الأزمات والكوارث ؟؟ في نظري نحن مؤمنون مسلمون بالسليقة ،، خرجنا للحياة ووجدنا أهلنا مسلمين فتبعناهم طائعين ،، نقرأ القرآن العظيم بسرعة ونمر بآياته مرور الكرام من غير إمعان ولا تدبير ! ديننا الحنيف يحثنا على الجهاد من أجل مواضيع كثيرة عظيمة سامية نبيلة ،، يحثنا على توحيد الصفوف جماعة حتى نستطيع أن نتحدى الظلم ونقاتل من أجل الدين والكرامة للوطن والعرض والمال الذي بالتأميم والزحف سرق في وضح النهار ،، وللأسف نحن ممزقون وشراذم موزعون في أماكن كثيرة بالعالم نظيرالخوف وعدم الثقة والمصداقية ،، والخبث بالنفوس ،، من متسلقين خونة عملاء للنظام يدسون ويزرعون بذور الفتن ،، ونحن كجالية بالخارج نصدق التراهات ،، ونتصرف على أنها حقائق صادقة ،، وهي إختلاقات وإختراعات أدت بنا إلى التمزق والتشرذم ،، نظير عدم الخبرات والنفوس المريضة التي هي جاهزة للتصديق ،،
في الكثير من أوقات الفراغ ،، أجلس مع النفس والذات وأتساءل لماذا نحن في هذا الحال من التردي والعجز والهوان ؟؟ هل جبن وخوف بأنفسنا لا نريد التضحية بالنفس والدم ونحارب الطاووس الشيطان ؟؟ أم عدم تفكير وتخطيط وتلاحم ووحدة مع بعض ؟؟ أم عدم رضاء وتوفيق من الله عز وجل ،، ؟؟ ماهي الأخطاء حتى نستطيع أن نعالجها ونبدأ بالصادق والصواب ؟؟
وأصل إلى حل وحلول ،، العيب فينا ! قرارنا بأيدينا وليس بأيادي الغير ،، لأننا تهنا عن طريق الحق والصواب ،، لم نسمو بالنفوس والعقول من أجل المصلحة العامة ونتنازل عن المغالاة والكبرياء الفارغة ،، ونتحمل المسئوليات الجسيمة ونظهر أمام الجميع بأننا يد واحدة حتى يحترمنا الأصدقاء ويهابنا الأعداء ...
الأزمات والعوائق أشياء طبيعية في طريق أي نضال ،، تحتاج إلى صبر ومثابرة والعمل الجاد ضمن دراسات وتخطيط جيد ،، والمتابعة ،، وإختيار الرفاق بدقة وعمل إمتحانات لهم عن مدى قوة التحمل قبل المغامرة في الأمور الصعبة حتى لا يصدم المناضل في فترات المواجهة التي لا رجعة فيها ،، وأي خطأ يحدث يؤدي إلى الهلاك والموت .
بالغربة نعاني من مشاكل عديدة إجتماعية حيث يوم الجمعة دائما يوم عظيم ومقدس لدي أحاول قدر الإمكان أن لا أسافر فيه إلا إذا كنت مضطراً ،، أقوم بتأدية الصلاة في أقرب جامع مع بقية المسلمين إذا أتيحت الفرص ولا أتقاعس إلا لمرض أو ظرف قاهر ،، والمشكلة بوطن الغربة أن يوم الجمعة ،، ليس بيوم عطلة نهاية الأسبوع ،، يوم عادي مثل بقية الأيام ،، حيث الدراسة للصغار بالمدارس والأعمال مستمرة ،، وبعض المرات يمر ونحن لا نحس نظير خضم الحياة ،، الدراسة جميعها باللغة الإنجليزية ،، والأولاد يتكلمون اللغة العربية ولا يعرفون قراءتها أو كتابتها ،، والدين الإسلامي يحاولون قدر جهدهم المعرفة والفهم وتأدية الصلوات في الجامع معي أيام الجمعة حتى يتعودون عليها مع مرور الوقت ،، ولكن كثيراً من الشعائر لا يعرفونها ... وأعيش في مأساة حقيقية خائفاً من يوم أكون ميتاً بالقبر ،، والأجيال القادمة أبناء أولادي من صلبي بتغيير الدين أو العيش بدون دين ...
مآسي الغربة عديدة أهمها البعد عن الأهل والوطن ،، الوحدة القاتلة بدون معارف وأصدقاء الطفولة ،، دراسة الأولاد وعدم الفهم للشعائر الدينية الصحيحة ... عدم مراعاة التقاليد والعادات العربية والمحلية بأوطاننا ،، والنظر لها بإنها متأخرة بائدة لا تتماشى مع العصر والتقدم ،، وأهم المشاكل وقعوا ضحايا بين نارين ،،ضاعوا بين البينين ،، ليسوا بمسلمين عرب مائة بالمائة ،، وليسوا بأجانب وأمريكان مع أننا نحمل الجنسية الجديدة ،،
وأفضال الغربة عديدة ،، تعلم الصغار في أرقى المدارس والبعض في الجامعات ،، تعلموا وتعودوا على الإعتماد على النفس وإتخاذ القرار ،، وحرية الرأي وإبداء الفكر بدون خوف ولا هيمنة من أحد ،، عاشوا في مجتمع نقي خال من الأحقاد والحسد والعقد العربية وسماع الإذاعات الكاذبة والتمجيد والتهليل للحكام ،، تعودوا على الصدق والصراحة بدون خبث ولا رياء ونفاق ،، تعودوا العيش في الواقع بالمتاح وليس الأحلام والخيال ،،أخاف إذا طال الرجوع عقوداً أخرى أن لا يرجع الأولاد للوطن بالمستقبل ولا يقيمون هناك ،، وإنما يزورون وطنهم زيارات كسواح ... وهذه قمة المأساة !
فكرت في الإقامة بأحد الدول العربية ،، وواجهتني صعوبات عديدة ،، أهمها المناهج الدراسية ،، والأوضاع الأمنية وعدم السلامة ،، وأمورا كثيرة ،، ومع الوقت حمدت الله عز وجل أنني لم أترك أمريكا ،، بلد العز والعلم والتقدم في جميع المجالات ،، وأتقهقر وأرجع للخلف وأعيش تحت نير سياسات الحكام بدون ضمانات ولا قوانين ،، أو أحتاج إلى كفيل حتى يتحكم في مصيري ،، وأنا الحر الكريم !
هذا قدري وقدرهم مكتوب لنا أن نعيش بالغربة في الغرب وأن ندفع ثمن التحولات الجذرية ،، وإرتحت عندما تذكرت الآية الكريمة ( عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم ) وهذ السبب أنني كتبت بالأول أنني مهموم ومغموم من الوحدة ،، من ظلم الأيام وقسوتها ،، وإقتنعت أن أرض الله عز وجل واسعة ،، وأستطيع بالمثابرة أن أربي الأولاد على النهج وطريق الإسلام الصحيح بالمنطق والواقع ،، وأن أناضل بالمتاح حتى النصر والوصول ،،
فالشعب الليبي أصيل طيب حليم وليس جبانا ولا رعديدا كما يدعي الكثيرون فقد قدم الآلاف ضحايا ،، صابرا إلى أن يأتي اليوم وينهض ويثور البركان الهادر وعندها الويل والثبور لكل معتد طاغ ( إتق شر الحليم إذا غضب ) ،، فقد حارب الأجداد بوسائل بدائية عقيمة وقتها ،، وإنتهى غزو الطليان ورحلوا للأبد ،، وسيأتي الأحفاد يوماً ،، يثورون على الظالم وينهون وجود الطاووس الشيطان بإذن الله تعالى !
الحياة والعلاقات الدولية مصالح متبادلة ،، تحتاج إلى عقول نيرة حتى تضع الدراسات والمخطط الجيد السليم لعمل بدون إنحناءات وقفز ،، حتى تتواصل الثقة ،، وعندها كل شىء ممكن الوصول له ،، فلا أصدقاء ولا أعداء طوال الوقت ،، فكل شيء قابل للتغيير ! وطاووسنا الشيطان ،، قوته في الدخل من النفط ،، لو بطريقة ما تعطل ،،،، سوف ينضب المال وتتخلي عنه القوى الخفية لأنه غير قادر على الحفاظ على المصالح ،، وينفض من حوله الكثيرون من الأدعياء المتسلقين ،، ويصبح فريسة سهل إصطيادها !
لنا لوم كبير على أخوتنا المسئولين بمصر ،، فقد إشترى الطاووس ذممهم بعشرات المليارات من الدولارات ،، ولم يصل للشعب الفقير إلا بعض الفتات ،، لم تحضى المعارضة كما يجب من العجوز المتصابي الرئيس حسني مبارك العميل للجميع مقابل السلطة والمال ،، والله يرحم أيام الرئيس الراحل أنور السادات ،، الذي دعم المعارضة الليبية بكل جهد مصر المتاح وقتها للخلاص ،، أما عن الشعب المصرى فنحن إخوة أشقاء لا يمكن للقطيعة أن تفصلنا عن المودة والأخوة وصلات الدم ،، مهما عملت أيادى الشر والقوى الخفية من الخبث والدس وأحياء الفتن للتفرقة والتمزق والقطيعة تحت أي مسميات فالشعبان شعب واحد ،،
أي إنسان أو جهة دولية تحاول تقييم المعارضة الليبية إلى أين سائرة ... لا تستطيع التقييم الصحيح لأنه ليست لها قواعد وأسس ثابتة متعارف عليها ،، بلا برامج ولا مخططات وحسب الأحداث تدار بردود الأفعال ،، ومعظم القيادات هشة وأشباه رجال ،، يتشدقون بالنزاهة وحسن النوايا وصدق الكلام ،، وفي نظري عبارة عن نفاق وورقات سياسية ليست نابعة من صدق ومصداقية ،، وإنما تمرير مصالح ...
الذي أود قوله كان الله عز وجل في عون الجميع بالداخل والخارج من شياطين أنفسنا ،، التي تزمجر بالويل والثبور ،، بدون أية أساسات ولا معايير ومصداقية في النضال ،، فنحن الآن في وقت مشين مخيف ،، هرج ومرج ،، نحتاج لبعض الوقت ،، حتى تهدأ النفوس الضالة ،، وتسقط ورقات المزايدين بالقضية ،، ونتعلم كيف نكون يداً واحدة ،، عندها يكون التحرير والخلاص قد قرب ؟؟ والله الموفق .
رجب المبروك زعطوط
1987/8/7م
No comments:
Post a Comment