Wednesday, March 14, 2012

قصصنا المنسية - يوميات معارض ليبي مهاجر خلال سنة 1987-1988 -23

                                           بسم الله الرحمن الرحيم

لقد سبق وأن كتبت هذه الخواطر سنة 1988م ،، ولم تكن الظروف ملائمة في ذلك الوقت لنشرها ،، والآن بعد أن تنشقنا نسيم الحرية العليل ،، حان الوقت المناسب لإطلاع جمهور القراء عليها ،، ووجدت من المفيد سردها حتى تكون عبرة لشبابنا ،، وتذكيراً لشيوخنا ،، راجياً من المولى عز وجل ،، أن تتحقق الإستفادة للجميع …

                                               المكالمة الهاتفية

              قضيت ليلة بائسة في قلق ولم أستطع النوم كالعادة ،، حيث لازمني الأرق ،، تقلبت في الفراش عشرات المرات محاولا النوم،، قضيت طوال الليل ساهماً حائراً ،، لا أعرف ماذا يخبئه القدر من أحداث قادمة … أحاول تجميع الأفكار حتى أصل إلى رؤية واضحة أعمل بها ،، فأنا نظير الأحداث الصعبة والمصائب العديدة ،، والحلقات التي بدأت تضيق كل يوم أكثر وأكثر ،،، شعرت بأنني على حافة الغرق ،، أريد الوصول إلى حل أو حلول حتى أنقذ النفس من بحور الأوهام  والأحلام المزعجة ،،
وأنا في عز النوم رن جرس الهاتف عدة مرات مما أزعجني الإصرار وكثرة الرنين ،، ورفعت السماعة متثاقلاً من النوم وأنا أسب وألعن من هذا المزعج ؟؟ وتطلعت للساعة وكانت تشير للسادسة صباحا ،، وقلت نعم ،، وكان على الطرف الآخر أخ عزيز يتكلم من إيطاليا ،،لا يعرف فروق الوقت ،، وصل اليوم من أرض الوطن ،، أراد أن يطمئن على الحال ،،  وتحيات حارة مما نهضت وإتكأت على مسند السرير واضعا عدة مخدات لأرتاح في الوضع ،، وقلبي يقفز من الدهشة وعدم النوم ،،
تحدث كثيرا عن مواضيع شتى ،، عرفت من خلالها أنه حضر إلى إيطاليا لمراجعة الطبيب على ظهره الذي مازال يؤلمه منذ  زمن ،، وخلال الحديث الطويل ،، سألته أسئلة كثيرة عن الإنفتاح والأحداث الأخيرة بالوطن ،، ورد علي بردود متشائمة حيث العقيد الشيطان لا يؤتمن جانبه ،، ممكن يكون صادق ،، أو كاذب وهذه قمة المأساة ! وزيادة في الإيضاح قال أن كل شىء مثل السابق ،، نفس التطبيل والتدجيل ،، النظام اللجان والتهريج الفارغ نفس السابق لا تغيير ،، وحسب الكلام أن الإنفتاح عبارة عن مهرجان ساخر  ،، وقال لي آخر نكتة ،، أن العقيد قام بقيادة البلدوزر لهدم البوابة وحائط السجن ،، وخرج المساجين في فرحة غير مصدقين الأمر ،، وإعتقدوا أن النظام تغير وأن ثورة قامت والثوار لم يقتلوه ولم يسجنونه وفرض عليه العمل كسائق ضمن البلدية وقيادة البلدوزر وهدم السجن زيادة في الإذلال ،،
إن جماهير الشعب الليبي تعيش في حلم وعرس زائف ،، عبارة عن طلاء من الخارج ،، أما الواقع المؤلم المرير ،، نفس الجبروت للنظام والإرهاب والظلم والفساد لا زال قائما ،، وهذه الأفراح والأعراس عبارة عن هروب من الواقع المرير ،، فقد وصل الشعب إلى مرحلة اليأس والقنوط والتبلد ،، بحيث الكثيرون يمشون في الطريق بدون عقول يتحدثون لأنفسهم بأصوات مسموعة من غير أن يدروا ،، أليست بمأساة ؟؟
الفساد الإداري ،، الرشوة والعهر ضرب أطنابه في جميع الأجهزة والمستويات ،، وتغيرت ليبيا وطننا الجميل منذ خروجنا ،، للأسوء عشرات المرات ،،، ضاعت الأخلاق الحميدة ،، تلاشت النخوة والكرم السابق من كثيرين نتيجة الإذلال والإفلاس ،، وظهر على السطح الأوباش والأراذل من العوام الجاهلون ذوي النيات والأحقاد على كل شيء نظيف لم يتلوث بعد ،، فقد أتاح المعقد بأطروحاته الهزيلة جميع السبل للفوضى ،، ضد أي إنسان شريف يتحلى بالأخلاق والقيم ،،،وبالتالي تقهقر الوطن للوراء سنوات عديدة ،، بدلا من النهوض والتقدم للأمام … 
يوما من الأيام مهما طال الوقت والزمن سوف ينتهي النظام من خريطة الوطن ،، ولكن سوف يخلف ذكرى أليمة وكوارث جسيمة رهيبة ،،، حيث سنوات حكم الطاغية المريض وعهده الأسود ستظل وصمة عار في جبين رجال ليبيا الأحرار مستقبلا ،، لأنهم لم يقضوا عليه بسرعة قبل أن يشتد عوده ويستفحل داءه ،، وبالتالي أضر بالجميع هذا المخبول !
اليوم من أيام شهر رمضان الكريم ،، والله سبحانه وتعالى ،، أمرنا بالتسامح والعفو والمغفرة وعدم الحقد وتصفية النفوس ،، وأنا إنسان مسلم حتى النخاع ،،، من أعماق القلب والضمير ،، مؤمن بالتعاليم الإلاهية ،، ولكن أجد صعوبة في أن أغفر أو أسامح المعقد المريض ،، حيث بسببه إلى الآن قضيت حوالي تسعة أعوام ونيف من العمر مهاجرا مشردا ،،أنام كل ليلة في رعب وخوف من الغدر ،،، سلاحي تحت المخدة جاهز للدفاع عن العائلة والأولاد ،، تحسبا لأي طارىء من لجانه الغوغائية وفرق الموت التي تبحث عنا طوال الوقت ليل نهار ،، والآن بعد الأحداث الأخيرة شعرنا ببعض الإطمئنان  ،، فالكثيرون من المهاجرين يعانون مشاكل عديدة ،، ضيق شديد وعسر مالي والحل الوحيد الرجوع للوطن ،، ولكن هل توجد ضمانات كافية صادقة من أن لا تعضهم كلاب النظام الشرسة بأية مسميات وأعذار ،، إنني لا أعرف ،، وربك يسترها على الجميع ...
إنني أؤيد حديث الصديق على الهاتف ،، حيث الحقير وجد نفسه في عنق الزجاجة ،، قلب الطاولة وسحب البساط من تحت أرجل الجميع ،، ولعب على الذقون وإمتص الغضب وشرارة الثورة التي آن لها أن تنطلق وهدير البركان تأجل إلى أجل غير مسمى ...
أن العقيد محظوظ جدا ،، حكم شعبا طيبا  ساذجا سياسيا بمعنى الحرية الشخصية ،، حرية التعبير والنشر ،، حرية الرفض والتظاهر من غير تصدى رجال الأمن والضرب بالرصاص ،، والسجن والتعذيب لقاء إبداء الرأي ،،،  لأن الشعب لم تتاح له الفرص وتعلمها من يوم  الإستقلال للوطن حتى قيام الإنقلاب الأسود وإستمرار نظام الجهل والتخلف ،، لم يتعلم أبناء الشعب من مآسى وثورات الشعوب الثانية التي ضحت ووصلت ،، بل جميع الأماني العيش في بحبوحة وسعادة وفرح مصطنع بدون أساسات وجذور ،،،لا يهمهم من يحكم ومن على رأس الهرم ! أليست بمأساة ؟؟
أن مأساة ليبيا كبيرة ،، عقيدنا مريض جاهل معقد يحب التسلط ،، لديه شراهة للدم وإذلال وتعذيب البشر نظير النقص والعقد الشخصية منذ أيام الصغر لأنه لقيط وتافه ،، يلعب بمصائر المواطنين ،، وأبناء الشعب  الأحرار في واد آخر ، صابرون !  والنفايات والحثالات من عوام وأراذل الشعب ملتفون عليه مثل السوار على المعصم ،، يأتمرون بأمره عندما يشاور ،، لا يميزون بين الحلال والحرام ،، فيا أسفاه !
إنني أعاني من مشاكل عديدة ،، وبالقلب أحقاد على المعقد ونظام الجهل الذي بسببه تغربت وهاجرت غصبا عني حتى أضمن الحرية والحياة ضمن الكرامة والقيم ،، سلب رزقي أمام عيني ولم أستطع الدفاع عنه ،، إستعملت العقل والحكمة حتى لا أداس من أراذل ،، هربت من الوطن وهاجرت غصبا عني بدون رغبة ،،  الدموع بعيوني تنهمرمن الغيظ والمأساة ،،،  طاردوني بالخارج وكأنني فريسة ،، قدمت الثمن الرهيب بلا حدود من الصحة والعافية نظير الكفاح والجهاد ،، قاومت بالمتاح ولم أرضخ مؤمنا أن الحياة واحدة ،، ضمن القيم والكرامة وما علي إلا الصبر حتى يأتي الفرج يوما من الأيام بإذن الله عز وجل ...
كما نحن بالغربة نعاني فعقيدنا يعاني مهما فعل ،، مهما تظاهر في خيلاء كالطاووس الشيطان ... مهما قبض أو صرف من أموال على الفساد والإفساد والإرهاب ،، مهما تحصن وراء الأسوار ووضع أطواق حمايات من رجال أمن وعسكر ،، يعرف داخل نفسه أنه مهدد ،، خطأ بسيط واحد في رمشة عين يقتل ويسحل مثل الحيوان ،، فالمعاملة بالمثل ،،هو الذي وضع الأسس وقواعد اللعبة ،،،  كما يدين يدان !
طالما الجماهير لم تتنظم وترفع راية العصيان والتمرد وتتقدم وتزحف لإجتثاثه من السلطة بالروح والدم مضحية بالعزيز والغالي ،، لن تنجح ! لأن جميع الأعمال والبطولات فردية إلى الآن يقضى عليها الواحد وراء الآخر بسهولة ،،
الحرية والديمقراطية في أذهان الكثيرين من أبناء الشعب السذج البسطاء ،، عبارة عن عيش وإسترزاق ،، حرية السفر وتوفر الأشياء الضرورية وقبض الأجور والرواتب في الميعاد ،، ولا يهمهم من يكون على رأس الهرم والسلطة ... وعقيدنا عرف المطلوب ،، أمسك العصا مع المنتصف ،، يتلذذ حسب الوقت ،، ساعات يرغب ويمني ويتغاضى عن كثير ويغمض العيون عن السرقات والفساد ،، وساعات ينهض ويتشدد بحيث يخاف الجميع من فورة الغضب وكل شىء ضمن مخطط مدروس بعناية من أساطين الشر والشرور القوى الخفية حتى يركع المواطن ولا يطالب بالحقوق ،، ويتساءل أين ضاعت الثروات الرهيبة ؟؟
إن الأحداث الأخيرة والإنفتاح في نظري عبارة عن حيلة من الحيل ولعبة كبيرة يوما ما سوف تظهر نتائجها ،، ونحن كشعب أدوات كأحجار الشطرنج يحرك فينا كما يشاء ويرغب ،، قرارنا ،، قيادنا ليس بأيدينا ،، نعمل ونأكل في صمت ،، وأي مواطن يرفض الظلم ويتمرد ،، في وقت بسيط يرحل ويغيب وراء الشمس لأجل غير معروف ،، مما الجميع آثروا الصمت من الخوف والرعب من أن تطالهم أياد وأذرعة النظام الغاشم زوارالليل والنهار ،،
 القلب يدمى وأنا شاهد عيان بالغربة على السنوات التي ضاعت ،، ونحن نهوج ونموج بدون إتحاد ووحدة ،، نتباكى على الوطن السليب في جميع اللقاءات والإجتماعات والندوات بدون الوصول لحلول تشرف وترفع الرأس أمام الجميع ..
 القلب يدمى وأنا أشاهد بعض أدعياء قادة  المعارضة وحواريوهم يعيشون في رغد العيش ،، بأموال دفعت للنهوض بالقضية العادلة وللمصلحة العامة ،، وليست لأغراض شخصية بحته حبا في الظهور ،،،
القلب يدمى ،، عندما أشاهد أشباه الرجال المنافقون المتسلقون يتنقلون من تنظيم وفصيل لآخر ،، نظير الدفع والعطاء الجزيل ،، نظير الإمتيازات والحصول على الإقامات وجوازات السفر ،، يدسون سموم الفرقة والتشرذم بين الأوساط الحائرة التي تلعب بها الأمواج ،، بدون حياء ولا حشمة ،، أليس بشىء مؤسف ؟؟
القلب يدمى عندما أسمع أن الوطن كل يوم من حكم العقيد يتراجع ويتقهقر للوراء خطوات عديدة ،، موصوم بوصمة القتل والإرهاب ،، إنه بؤرة الفساد والإجرام ،، سمعته بالحضيض ممرغة بالتراب ،، ولا حول ولا قوة باليد ،، العين بصيرة واليد قصيرة ،،
القلب يدمى عندما نقص الدعم والزاد على الرجال الأحرار الشرفاء ،، وهم في منتصف المعركة ،، ليس لديهم الإختيار ،،،  إلا الإستسلام للواقع ،،والتسليم ،، أو المضي في الطريق للنهاية والإنتحار ،، أليس بمأساة ،،؟؟
القلب يدمى من أشياء وعوامل كثيرة ،، التي لو عددتها وكتبتها على الورق ،، أحتاج إلى وقت وعشرات الصفحات لكتابتها ،، عوامل تداخلت مع بعض ،، أخطاء عديدة حدثت ،، ومآسي كبيرة كثيرة حلت على الأكتاف ،، معظمها حدثت من النظام والبعض منا نحن المعارضة ،، نظير المغالاة والغرور …
مكالمة الصديق في الفجر ،، أيقظتني من النوم والأحلام وضيق النفس والكآبة التي كانت ضيفا ثقيلا على بعض الوقت ،، أحيت الأمل ،، إن الحق سوف يرجع يوما ، مهما طال الوقت والزمن ،، وماعلينا إلا الصبر ،، والإستمرارية في الجهاد ،، وإستعمال العقل في كل الخطوات ،، فمابعد الضيق إلا الفرج ،،، فإلى الصديق العزيز ،، بعد العلاج سوف يرجع للوطن ،،كان الله عزوجل في عونه حيث حبيس الداخل ،، سوف يعيش في المهرجانات طوال الوقت ضمن دوائر الضحك على الذقون لكسب الوقت ،، وكان الله تعالى في عون المهاجرين  الصامدين بالغربة ،، ينتظرون  يوم الثورة والخلاص على أحر من الجمر ،، إنني ياصديقي شاكر لك الإتصال الهاتفي ،، بعد أن تركني معظم الجميع ،، نتيجة صراحتي الزائدة  عن اللزوم في بعض الأحيان  ،، وأفكاري المتحررة بدون مجاملات ،، فمعظم البشر يحبون الشكروالثناء الشخصي ،، وأنا شخصيا لا أحب المزايدة ولا النفاق ،، لأي إنسان بشر ،، وبالأخص للأدعياء أشباه الرجال ،،، والله الموفق ،،

                                                     رجب المبروك زعطوط

                                                           1988/4/24م    

No comments:

Post a Comment