بسم الله الرحمن الرحيم
مهما تحدثت عن مدينة درنة في الحلقات السابقة لن أوفيها حقها… مدينة صغيرة في عدد السكان القاطنيين بها، والضعف مرتين يقيمون خارجها في ليبيا والعديد من دول العالم، إما للعمل كرجال اعمال وتجار وموظفين، أو للدراسة وتحصيل العلم في المعاهد والجامعات في الغرب، امريكا وكندا مرورا بدول عديدة في اوروبا والشرق الاوسط إلى اقصى دول الشرق ماليزيا وروسيا… أينما يذهب الانسان في العالم الفسيح يجد واحدا من أصل عشرة أفراد ليبيين من الجنسين أصله وجذوره من مدينة درنة المجاهدة … الدراونة لهم شهرة كبيرة في الذكاء نظير حب الاستطلاع والمعرفة للغريب القادم لها، سواء بالمرور أو بالإقامة بها حتى سميت المدينة بكناية "قيادة الأحوال" وقيل عنها الكثير من الحكايات والطرائف بدون حساب ولا عدد… والتي كثيرا ما تستعمل هذه الطرائف في الحديث الهاتفي كتعريف سري ورموز يصعب على الآخرين المتابعين من الأجانب معرفة المضمون والشرح له… الا الدراونة الأصليين…
مدينة الفداء والتضحية من اجل البقاء احرارا كراما ذوو شهامة وعطاء بدون حساب… كبيرة في الأحلام والتطلعات للوحدة العربية الشاملة والعطاء وبذل الدم في سبيل رفع راية الاسلام خفاقة إلى أعلى مهما كلف الأمر والثمن من التضحيات بالروح والدم… لو أتيحت لها الفرص العادلة وعدم التهميش والقضاء على فقاقيع وظواهر التشدد الخاطئ بإسم الدين، بالعقل والحكمة، بإمكان أهاليها الإبداع في جميع المجالات…
مدينة مشهورة بمقام صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم الذي ضم ترابها أجسادهم الطاهرة عندما سقطوا قتلى شهداء في المعركة الخالدة (معركة الصحابة) ضد فلول البيزنطيين الغزاة القادمين من البحر في المراكب، دفاعا عن العرض والكرامة للمسلمين سكان البلدة الحديثة في إعتناق دين الاسلام في ذاك الوقت العصيب ووقف المجزرة والنهب وسبي النساء والشباب صغار السن لبيعهم في اسواق النخاسة في العالم القديم كعبيد وجواري لمن يرغب في الشراء، منذ حوالي ثلاثة عشرة قرنا مضت… (القصة معروفة وسبق ان سردتها فى احد المواضيع السابقة)…
روح التضحية والفداء تجري في الشرايين والعروق مجرى الدم بدون توقف طوال الوقت… مهما طال ومر الزمن عليها دائماً مجاهدة صابرة تزداد نشاطا وعنفوانا في التحدي للأعداء وتقاتل بالمتاح بدون ملل ولا كلل مهما جار عليها الزمن صابرة تنتظر الفرص حتى تقوم مرة اخرى في وجه اي طاغية، مهما كانت رمادا خامدا يخيل ويعتقد العدو انها منتهية، مهما حاول القضاء عليها بجميع الطرق دائماً بها جذوة نار بسيطة هامدة يتخيل الحاكم الطاغية انها خامدة، عندما يحين الوقت تبدأ في الاشتعال وتعلنها نارا حامية صعب إخمادها مهما فعل… رجالها وشبابها مغاوير مجاهدين من قديم الزمن وحتى الآن تجرى بعروقهم دماء الحياة الساخنة وبالأخص في الذود عن الارض والعرض والكرامة، والدلائل موجودة بلا عدد لو تتبع الانسان الباحث لماذا الدراونة وصلوا لهذا المدى وتحصلوا على هذه الشهرة الكبيرة ؟؟ نظير العمل الفعلي والجهاد والتضحيات والصبر والفداء بالغالي والنفيس، لوجد الكثير من الوجوه المتعددة والتي تنتهي في قالب واحد مهما تعددت الطرق.
ان جدودهم الأوائل مغامرون من الجزيرة العربية في بدايات الفتح لشمال افريقيا وبعدها بسنوات عديدة تم زحف قبائل بني هلال وبني سليم الأصيلة التي مدت نفوذها في جميع شمال افريقيا عندما تمردت قبائل البربر السكان الاصليين في الغرب على الحكام الجدد… هؤلاء الجدود الأوائل بداياتهم من الجزيرة العربية ضمن الدولة الاسلامية وعاصمتها آنذاك المدينة المنورة … ذوو شجاعة وكرم يعشقون قرض الشعر المحمول من الذاكرة بمقاييس العالم القديم، المتداول أبا عن جد حتى وقتنا الحاضر… لهم طابع خاص في النخوة وركوب الخطر والمناصرة للمظلومين والمستجيرين بالروح والدم دفاعا عن العقيدة، الدين والقيم، ولهم الفضل الكبير في نشر الاسلام في شمال افريقيا.
لبوا نداء الواجب الجهاد، خرج معظمهم مجاهدين من الجزيرة العربية عبر شمال أفريقيا حتى حدود فرنسا واستقر المقام بهم في أسبانيا مئات السنين، حيث نشروا الحضارة والعلم والدلائل واضحة في عظمة البناء والتشييد في الاندلس قصور غرناطة وإشبيلية، والكثير من المعالم والعلوم التي طمست وحرفت مع الوقت… لا تريد القوى الخفية العالمية الاعتراف بالفضل ولا إعطاء العرب الجميل في نهضة اوروبا… وإخراجها من ظلمات الجهل والتأخر ايام وسنين الظلام، القرون الوسطى….
اصول عائلتي بدأت من المدينة المنورة (ترجع أصول عائلتنا تاريخيا إلى قبيلة او عشيرة البلوي حسب ما علمت من كبار السن في العائلة رحمهم الله تعالى) رحل الجد الكبير في البدايات كمتطوع مجاهدا محاربا ضمن جيش المسلمين حتى وصل إلى الاندلس في اسبانيا، واقامت ذريته مئات السنيين هناك تعيش حتى حلت المصائب وتفكك وتفسخ العرب نظير الصراعات على الحكم واللهو والمجون وسقطت آخر معاقلهم في غرناطة وتراجع الجدود الأوائل إلى شمال افريقيا بسرعة مهزومين حتى لا يبادوا ثأرا وقتلا لأنهم مسلمون خسروا الحرب….
بعد إقامة مئات السنين في الحكم،
رفضوا الخنوع والتنازل عن العقيدة المحمدية وترك الدين الإسلامي وتغييره بالتنصير بالإكراه بدون رغبة ليصبحوا نصارى مسيحيين كاثوليك، إذا أرادوا العيش والإقامة في اسبانيا مواطنين، والحياة أذلة بعد ان كانوا يوما سادة كرام، لهم شأن ومكان (محاكم التفتيش المشهورة بالتعذيب والإبادة للبشر الغير مسيحيين) .
هربت العائلة عبر مضيق جبل طارق إلى المغرب بسرعة لقاء النجاة والحياة تنشد الأمن والأمان تاركة كل مالها من أموال وعقارات، واستقرت فترة من الزمن تاركة البعض مقيمين، ثم الرحيل للعائلة من مكان إلى مكان بمرور السنين وكل مرة جزء من العائلة يستهوى الإقامة ويستقر في احد المناطق ومدن المغرب العربي الكبير إبتداءا من المغرب والجزائر وتونس وليبيا حيث وقتها لا توجد حدود مثل الآن….حتى وصلت قلة إلى بلدة تاجوراء الملاصقة لمدينة طرابلس الغرب… وواصل الآخرون الرحلة وتوزعوا في مصر والعراق وبلاد الشام وتغيرت الكنيات واسماء العائلات بمرور الزمن، لكن الجذور مازالت باقية تحتاج إلى بحث وتحقيق طويل يحتاج إلى جهد كبير ووقت في المتابعة…
جدنا الكبير أقام في مدينة تاجوراء فترة من الزمن، وعندما سمح بابا الفاتيكان وتنازل عن منطقة طرابلس لفرسان القديس يوحنا بالاقامة وحماية طرابلس، وكان يعرف من اجداده مدى الظلم والعسف والتشدد ضد الدين الاسلامي رحل جزء من العائلة واستقرت بمدينة درنة أيام هيمنة قبائل اولاد علي .
أحد الجدود الريس محمد (قبطان) الذي تتفرع منه أسرتنا، مغامر قرصان لديه مركب حربي شراعي ومئات البحارة يعملون لديه تحت إمرته ضمن البحرية الليبية تحت لواء الباشا القرمانلي دافعا لخزينته والإتاوات عن كل رحلة غزو للباشا مقابل الرسو في ميناء طرابلس والحماية وعدم الإزعاج… مما مع الوقت والشهرة والخدمات الجليلة في مناصرته للباشا سمى احد الأزقة في مدينة طرابلس القديمة باسم ( زقاق زعطوط حتى الآن) تكريما له وعرفانا بالجميل… كان مشهورا في جبروته وغلظته وطاف غازيا مدنا كثيرة ساحلية في اوروبا وجزر صقلية ومالطة سابيا بالقوة والإكراه الفتيات الجميلات والشباب القادر على العمل والبيع لهم في سوق النخاسة في طرابلس لقاء المال، وتوقف عن المغامرات عندما توقف بيع الرقيق (العبيد ) وتوقفت التجارة وتقاعد في مدينة درنة التي أعجبته فقد كان يتردد عليها كثيرا، وكان مشهورا غنيا ذو مال مما اشترى اراض كثيرة في المدينة ومنطقة الفتائح الزراعية البعض منها موجودة حتى الآن لم يفرط فيها الأحفاد بالتنازل أو البيع…
سردت جزءا من تاريخ العائلة حتى يفهم القارئ ان روح المغامرات والإقدام والذود عن العرض والدين يجري في جميع عروق أبناء المدينة الذين جدودهم مغامرون اتوا من الغرب في الحملة القرمانلية لتأديب قبائل "أولاد علي" على التمرد ومحاولة تقسيم الشرق…..سميت الحملة شعبيا(تجريدة حبيب) لنصرة إخوة الجد من قبيلة العبيدات والمرابطين الذين طلبوا النجدة والغوث، حيت لم يسعفهم جيرانهم من قبائل الحرابي نظير الحروب والثأر ….
في القرون الماضية كان لا يستطيع مقاومة الامراض والجوع ومصائب الحياة الا الاقوياء الأصحاء ذوي البنية القوية حتى تتاح لهم الحياة، لا رعاية صحية جيدة مثل الآن للأطفال، ولا دواء غير استعمال المتاح من الأعشاب والتطبيب القديم الذي يعتمد كثيرا على الخرافات من العزائم والرقيات من الحجابات والتجريب في المريض عسى ان ينجح ويشفى… والدليل نسبة ولادة الاطفال عالية ووفاتهم اعلى نظير الظروف الصحية فوالدتي، رحمها الله، أنجبت خلال حياتها 12 طفلا من الأولاد والبنات وعاش منهم 6 فقط، أنا شخصيا أصغرهم والباقي الوحيد على قيد الحياة الآن حيث الاخوة والاخوات توفوا إلى رحمة الله تعالى وآخرهما اثنتان من الاخوات توفين في العام الماضي 2013م
في ذاك الوقت منذ أواخر القرن التاسع عشرة وبدايات القرن العشرين، الامراض كثيرة والجهل مخيم نظير فساد وتهميش الادارة العثمانية والولاة، وبعدها بلانا الله عز وجل بقدوم المحتلين الطليان (1911-1945) وداست أقدامهم تراب الوطن، عندها هب الجميع للدفاع عن الوطن بالروح والدم، وبدأت مسيرة الأحزان الطويلة تتوالى في فقد الشهداء الأحباء الأعزاء من الإحتلال الغاشم من الغزاة ومن ويلات الحربين العالمية الأولى والثانية والمجاعات نظير المصائب والمصاعب والكر والفر بين الجيوش المتحاربة حيث لا سهر ولا إذاعات مرئية ولا حواسيب تجعل الانسان ساهرا طوال الليل… بل النوم بعد تناول طعام العشاء بعد صلاة المغرب مباشرة والقليل من السهر على اضواء الشموع والفنارات إلى صلاة العشاء، والتسلية الوحيدة هي معاشرة الزوجات بالحلال والنوم إلى الفجر للصلاة … كانت حياة بسيطة لها قيم وأصول عالية فى المفاهيم، لا إعتداءات ولا قتل وإغتيالات للغير في الخفاء غيلة من قبل المتشددين…..كما يحدث الآن يوميا نظير الصراع على السلطة… ولا تراهات ولا مهاترات تدور في البلدة، الجميع يعيشون في وئام ضمن التقدير والاحترام يعرفون بعضهم البعض متعاونين يدا واحدة في السراء والضراء حامدين شاكرين الرب الكريم على حسن عطاياه… والله الموفق.
رجب المبروك زعطوط
البقية في الحلقة القادمة….