Saturday, August 8, 2015

قصصنا المنسية 36

بسم الله الرحمن الرحيم

 مسيرة حياة 3

                   منذ اليوم الأول في الإقامة في بيت شقيقي الثاني  بقرية كمبوت غرب أمساعد حوالي 60 كم شعرت بالفرق الرهيب في المعاملة ، البعد عن حنان الوالدين ورعايتهم وأنني ضيفا غير مرحباً ولا مرغوبا في بقائه من الزوجة  صاحبة البيت، سامحها الله تعالى ونظير العزة والكرامة وعدم الطأطأة للرأس تحملت الهوان والمعاناة رافضا الرجوع إلى أمساعد للبيت ذليلا أمام شقيقي الكبير الذي يريد أن يكون الآمر في كل شئ ، ولم يكن لدي حلول أخرى تحفظ ماء الوجه أمام الآخرين ، وإضطررت للبقاء فترة 6 شهور أعمل مع أخي بدون أن أشعره أنني مستاءا وبدون رعاية ولا حنان كما يجب حتى يوما أتيحت لي الفرصة لزيارة مدينة درنة وقررت البقاء في البيت الكبير المهجور وعدم الرجوع إلى أي مكان وترك المدينة .

                أصبحت في مهب الرياح بدون عمل ولا دراسة فقد سبقني الرفاق بسنتين دراسيتين وخجلت من المواصلة في المؤخرة ورفضت العودة والإلتحاق بالمدرسة وقررت التحدي ودخول ميدان العمل الحر التجاري الذي تعلمت البسيط في بلدة أمساعد الحدودية مع الوالد وفتح الله عز وجل أبواب الحظ وتم فتح محل تجاري مشاركة مع الوالد وشقيقي الكبير لبيع السلع المصرية من المواد الغذائية بالجملة بمدينة درنة يوم 1961/11/21م  بشرط ان لا يتدخل في الادارة أو العمل .

                   بعد 6 شهور من العمل المضني ليلا نهارا حدثت مشادة عفوية تطورت إلى عراك معه نظير تسلطه وإنتهت القصة بفض الشركة وخروجهم من الشركة والاتفاقية ، وبناءا على نصيحة الوالد الذي لا أستطيع الرفض له دخول أخي الاوسط كشريك جديد حتى يصبح العمل في نطاق الاسرة والعائلة مما وافقت على العرض ، ولم أسلم من الغيرة والدس من الزوجة وإنتهت القصة بعد سنتين بخروجه من المحل ودفعت له جميع نصيبه من الرأسمال والأرباح نقدا بدون تأجيل مما ضعف الرأسمال لدي وإضطررت للإستدانة من البنك باركليز بضمان الوالد حتى أستطيع مواصلة العمل والتحدي للأشقاء أنني قادرا على النجاح بتوفيق الله تعالى والبقاء في السوق بدون شركاء .

               شطبت على العادات القديمة في ساعات العمل كالعادة ، القفل للمحلات وقت الغداء ونوم القيلولة إلى العصر والفتح من جديد إلى صلاة المغرب وغيرت الطريقة العقيمة في نظري في تلك الفترة ووضعت برنامج العمل الجديد من الساعة السابعة صباحا بدون اغلاق وراحة إلى الساعة السابعة مساءا في جميع فصول السنة مما أتحت الفرص والمجال لأصحاب الحوانيت والدكاكين في المدينة وأريافها في القدوم والشراء في أي ساعة ضياء طوال النهار بدل الإنتظار الممل مما قلبت الموازين . وكنا وقتها نستعمل عربات ذات عجلتين يجرها حمار لنقل السلع والمواد ا إلى المحلات والبيوت داخل المدينة تسمى (كروسة) وسائقها الحمال (كرارسي) حيث لا توجد عربات نقل صغيرة مثل الآن لدخول الشوارع الضيقة والأزقة ، ومع الوقت والاستمرارية والمثابرة في العمل المضني ليلا نهارا وبجد وإجتهاد والصدق في العهد والوعد والبيع للسلع الجيدة وبأرخص الأسعار بربح قليل حالفني التوفيق والحظ من الله تعالى وفي خلال سنوات قليلة حققت النجاح والارباح الضخمة وأصبحت أحد أعلام المدينة المشهورين في تجارة المواد الغذائية القادمة من مصر بالجملة.

                ذاك الوقت في بدايات الستينات بالنسبة لي كانت أجمل أيام العمر حيث الهدوء النفسي ولا مشاكل داخلية لدى الشعب. الجميع راضين بما قسمه الله عز وجل لهم من أرزاق ، والبركة عامة والبراءة والطهارة والعفة والبساطة إلى حد السذاجة في بعض الأمور...  ومن النادر سماع فضائح أو تعديات وحسد وأحقاد. كان الناس يعيشون في محبة وأخوة كعائلة واحدة ، والغني يعطف على الفقير ولدينا عادات وتقاليد وروابط إجتماعية حلوة تشملها الأخوة والمحبة وحفلات الزواج والختان (طهور) وشعائر دينية وأعياد لها البهجة والفرحة... وشعائر وأعراف للعزاء جنائزية أيام الفقد والوفاة، مما كنا نعيش في سعادة وهناءة البال بدون أحقاد ولا حسد... رحم الله تعالى تلك الأيام التي مضت بالخير من أعمارنا في الستينات العهد الزاهر للوطن ليبيا.

               لا نعرف الخلاف والتشدد إلا في بعض الأحيان نظير التنافس الشريف الجميل أيام الإقتراع والإنتخابات لنواب المدينة لمجلسي النواب والتشريعي في المملكة الذي يحدث مرة بعد مرور عدة سنوات ، أو خلال دورة المباريات الرياضية ولعب كرة القدم حيث كل فئة تنحاز وتلتهب حماسة في تأييد نادي وفريق ضد الآخر لفترة محدودة ، ثم ترجع المدينة إلى الهدوء مرة أخرى وكأن شيئا لم يحدث بها.

             حتى تم الاكتشاف للنفط وتدفق المال على الدولة بكثرة ووفرة وزاد الطمع من الدول الاجنبية والقوى الخفية على السيطرة وبدل أن كانت المملكة 3 ولايات ضمن اتحاد فيدرالي تغيرت البنية الاساسية نظير ضغوط شركات النفط حتى ترتاح في الإستكشاف والتنقيب ولا تصطدم بقوانين الولايات والحدود... وتوحدت ليبيا في مملكة وعرش يمثلها الملك ومجلس وزراء السلطة التنفيذية ومجلس نواب للتشريع ومجلس شيوخ للمصادقة وهيئة قضائية (المحكمة العليا) للبت في الامور الصعبة ، وكان العدل وسيادة القانون هو الاساس في المملكة، حيث رفضت المحكمة احد المراسيم الملكية وألغته وتقبل القصر القصة بهدوء ولم يرفض...    مع أن الملك إدريس على رأس الهرم وصلاحياته تجيز له التعطيل والتأجيل حتى تتم الدراسة من جديد أو الإلزام بالتنفيذ و لم يفعل، إحتراما للعدل والقانون...  وعاش الملك الزاهد في الحكم في برجه العاجي وحيداً والصراع دائرا في عنف وصمت في الخفاء بين العائلات ( آل الشريف + آل الشلحي ) تساندهم قوى خارجية على من يحكم ليبيا، والشعب في حاله لا يعلم بشيء مما يدور في الخفاء بالقصر و إن علم ببعض الأمور لا يعطيها الأهمية الكبرى ويتغاضى عنها لا يريد الخوض فيها، ويجد الأعذار الكثيرة للمتسببين حتى بدأ السوس ينخر والفساد والإفساد يعم في أوصال المملكة ببطء ينهش .

              وزاد الويل والضغط على المملكة نظير الأبواق الإعلامية من جيراننا المصريون الذين وقتها زادوا عن الحد في التحدي والشتم من راديو صوت العرب ومذيعه أحمد سعيد ذو الصوت الجهوري المؤثر الذي هيج الشعوب في جميع انحاء الوطن العربي من المحيط إلى الخليج ولم ينجى من الاعلام الكاذب جميع ملوك ورؤساء العرب ، والذي عمل من الحبة قبة مما أشتد الحماس الوطني إلى أعلى الحدود والمستويات لدى المواطن العربي الساذج من الخليج إلى المحيط ، وتطلعوا إلى الزعيم المنقذ من الإستعمار الرئيس جمال عبدالناصر وخطبه الحماسية الطويلة بالساعات ، والخطب مستمرة الواحدة وراء الأخرى بدون توقف بمناسبة ومن غير مناسبة، أو إختلاق مناسبة حتى يخطب الزعيم ويعلم الشعب المغلوب على أمره بالقوة والإرهاب وكأنه أستاذا وهم التلاميذ .

            والسماع لأغاني السيدة أم كلثوم التي تردد في الكلمات على أنغام الموسيقى الساحرة عشرات المرات ضمن الصوت والتعبير الجميل والتي الأغانى طوال ساعات مثل الزعيم ... والمتفرجون في الحفلات الكثيرة يطربون والجماهير التي تسمع عبر الراديوهات وفي المقاهي يستمعون وفي الأحلام والأمجاد يعيشون يدخنون في الحشيش مما ضاعت الشعوب العربية ولم تنتج، لإنها تركت الأساس السليم شرع الله تعالى الصحيح وضيعت الوقت الطويل في الإستماع والإستمتاع والملذات ، وكأنهم طلبة يسمعون المحاضرات الطويلة المملة بدون فهم ...  وعند الخروج من الدرس ينسونه من كثرة الحشو الغير معقول.

            والنتيجة النكسة وخراب البيوت وخسارة الحرب في ساعات ، وضياع الشهداء الرجال البواسل الأبرياء...  والدم المراق من الجرحى والمصابين بعاهات والأموال الرهيبة وكميات السلاح المكدسة نظير أخطاء القيادات الضعيفة، والعبادة للرموز والأصنام الزعماء، الذين وقت الأزمات الحقيقية والحرب والنزال لم يصمدوا صمود الجبابرة سقطوا مثل أوراق الشجر في فصل الخريف .

             وتكررت التراهات والمهاترات وقفزت الأقلام المأجورة من ذوي النفاق والمصالح تكتب وتمجد وتضلل الرأي العام وتجد في الحلول الكاذبة للأخطاء القاتلة الأجوبة والتي جميعها إبرا مخدرة، وساعدتهم معظم جميع الحناجر بدون وعي وعن جهل في الهتافات، وهي تردد الأحاديث المضللة وتدعوا الله تعالى بالتوفيق والنصر نفاقا والمجد للزعيم عبدالناصر... والوطني المصري الصادق الذي يتحدث في العلن رافضا الخداع والكذب يتوارى وراء الشمس في غيابة السجون من الإرهاب وزوار الليل والنهار .

            للأسف الشديد لم تتعلم الشعوب العربية الدرس وتبحث بصدق وتتساءل لماذا خسرنا الحرب ؟ وكيف نستطيع أن نأخذ عبراً حتى لا نقع في الشراك والخداع  من جديد ولم تتاح الفرص نظير التضخيم المفتعل وعدم الصدق وتحمل المسؤوليات برجولة، فالأخطاء تحدث في أي مواجهة وحرب ولكن مثل أخطائنا القاتلة ضروري من المحاسبة حتى لا يتمادون في تضييع الأمة نظير التشدد والجهل .

             مرت الأزمات السياسية على المملكة نظير الاحداث ، النكسة وخسارة الحرب عام 1967 م والجراح لم تلتئم بعد. وقام الإنقلاب الأسود في وطننا ليبيا 1969/9/1م، وقفز ملازما صغير السن مجنونا مغرورا بمساندة القوى الخفية وأياد الشر وأصبح بين يوم وليلة صاحب القرار والسيد الآمر الناهي في ليبيا تهتف له الجماهير العطشى للتغيير .

         تصدى بعض الاحرار للحدث والمأساة وضاعوا في خضم هدير الجماهير التي لم تتساءل من الحكام الجدد؟ من هؤلاء اللصوص الذين قفزوا على السلطة  وسرقوها في وضح النهار، في غفلة من الزمن والشعب؟ وضياع المملكة التي ضحى من أجلها الآباء والأجداد بالروح والدم ، فقد عشت تلك الأيام وشاهدتها بأم العين، وشاهد عصر على المأساة ...  والله الموفق .

 رجب المبروك زعطوط

 البقية تتبع...

No comments:

Post a Comment