Friday, August 7, 2015

قصصنا المنسية 35

بسم الله الرحمن الرحيم

 مسيرة حياة 2

                 بالصباح الباكر ،أمام المستودع الفارغ، تجد    كميات من صناديق الخشب والكرتون الفاضية لرميها إلى القمامة، حيث كان المهربين الزبائن المشترين بالليل يكسرون الصناديق ويضعون المواد من الشاي والقماش الثمين وقتها وجميع المواد الأخرى في عدة أكياس قوية من القماش لتسهيل تحميلها على ظهور الدواب، الحمير،  التي كانت مدربة تدريبا جيدا على السير لوحدها بدون رعاة حتى تصل إلى مكانها المحدد عبر الحدود وموضوع بعض الشحم  في مؤخرتها حتى لا تصدر أصواتا ولا تنهق أثناء السير وهي محملة. عندما يكون الظلام دامسا ولا يظهر ضياء القمر تكون الليلة سعيدة لدى المهربين التي تجعلهم سعداء مسرورين  بحيث تمر الحمير السوداء محملة في طريقها إلى وجهتها بسهولة .

                     وبعض الأحيان تمر بالقرب من الدوريات الهجانة السودانيين فرق الإبل الراكبة حراس الحدود وقتها، ولا  يشعرون بها ، وعند القبض عليها بالصدفة وحجزها يتم تقيد أرجلها حتى لا تمشي وتتحرك وتواصل السير للوجهة المطلوبة ووقتها يظهر المهربون أصحابها من خلال الظلام فجأة ويتم التفاوض مع الدورية لإخلاء سبيلها وسراحها ويدفعون مبلغا معينا أتاوة رشوة نقدا، والمرتشين الجنود الهجانة يدفعوا جزءا من الرشاوي للضباط والمسؤولين بالسلوم حتى يغمضوا العيون عن المساءلة والجميع مستفيدون، وكانت وقتها مبلغ الأتاوة عن الدابة لقاء المرور بدون عوائق ولا حجز مبلغا معلوما معينا ، ولا يهم أن كانت محملة بحمل زهيد الثمن أو غالى وذهب .

                    وسعيد الحظ من المسؤولين الذين يتم نقلهم إلى الحدود من مدنيين وعسكريين في فترة بسيطة يصبحون من الأثرياء، من الجهتين فقد تعلم الليبيون من المصريون، وبالأخص أيام عهد الجماهيرية الفوضوية ولا يرضون بالقليل ، فالنقل بالشاحنات الكبيرة وبدل دفع المبالغ الكبيرة للرسوم الجمركية لخزينة الدولة ، تتغير المستندات بقدرة قادر ويتم الدفع لجزء بسيط في المعاملات الرسمية الورقية لخزينة المجتمع والباقي جزءا كبيرا للجيوب مستغلين قوة القانون والويل لمن يرفض ويتأبى عن الدفع المطلوب ، عندها تقفل الأبواب أمامه ولا يستطيع ممارسة التجارة والعمل بين الحدود بسهولة وسلاسة كما يجب ، حيث الجميع شبكة واحدة شركاء فى السر والصمت .

                    تغير العصر الآن والمرور ليس بالدواب كالسابق بل بالشاحنات وعربات النقل الثقيلة وكل شىء وله سعر يختلف على الآخر وترتفع النسب عالية حسب المستورد او الصادر ، الا من بعض الشرفاء الكرماء من الدولتين الذين يطبقون القانون أو يغضون النظر عن بعض الأمور بدون دفع للضعفاء بعزة نفس وأباء، لا يتاقضون أي نوع من الرشاوي مهما كانت عالية وكبيرة مع أن النفس البشرية أمارة بالسوء وبريق مال الحرام يضعف النفوس . وكان التنافس شديدا بين المهربين وحراس الحدود من الطرفين على المرور بسلامة بدهاء ومكر من غير قبض وحجز ودفع الأتاوات المجحفة، لجيوب المرتشين المسؤولين .

               أياما جميلة قضيتها في العمل ليلا إلى قرب الفجر مع الوالد وشقيقي في المحل وبالنهار بعد الظهر والغداء مشرفا على تفريغ سيارات النقل التي تأتي من درنة وبنغازي محملة بالبضائع فى المخزن الملحق بالمحل والذى يتم منه التسليم، وقد حدثت طرائف حتى أتعلم بالتجربة، فأول يوم بالعمل أعطاني الوالد الله يرحمه مكنسة وقال لي أكنس المحل وأعتبرتها أهانة، ولم أستطيع التفسير لماذا أنا ؟؟ وأنا أبنه الصغير العزيز عليه المدلل ويوجد عمال آخرون عملهم الكنس والرفع والتنزيل، ولم أستطيع الرفض للوالد فقد كان كلامه مقدسا ومن الغيظ والغضب في نظري بالإهانة ، بدأت أكنس بقوة وسرعة مما إشتد الغبار ووقع علي معظم البضائع المكدسة والمصفوفة بإنتظام ولم يمنعي بل جلس بعيدا على كرسي ممسكا بالسبحة فى يده ويتمتم ويسبح بالحبات كالعادة.

                 وبعد أن أكملت الكنس والعرق يتصبب من جسمي من الغيظ والعمل إلذي إعتبرته مخزيا لي وليس من مقامي قام من كرسيه وقال لقد أخطأت بالكنس بهذه الطريقة والغبار الذي سببته شوه المحل وتراكم على البضائع، وعليك الآن أن تمسحه  وتنظفه من الغبار حتى تتعلم مستقبلا أولاً كيف تروض نفسك وبدون غيظ وإباء وكبر نفس ، فالعمل الشريف والرزق الحلال يأتي بالعرق والمجهود وبالمهارة... وأوضح لي طريقة الكنس السليم والتي يعتبرها أي أنسان من أبسط الأمور التافهة ولكنها بالنسبة لي كانت قاسية فقد قضيت حوالي 3 أيام في المسح والتنظيف حتى رجع المحل إلى رونقه ، وتعلمت الكنس ببطء ورش الماء القليل على الأرضية قبل البدأ وبمهارة الكنس بهدوء حتى لايخرج ويتصاعد الغبار، ولا أضيع الوقت بعدها في المسح... وكانت التجربة الأولى في العمل الفعلي بمهارة .

             بدأ الوالد في أوقات الفراغ وأيام العطل وأثناء السهر والسمر، يعطيني دروسا عملية عن طريقة العمل الفعلي بالمجهود والعرق ، وإحترام الزبون مهما كان ولو كان على خطأ ، ولا أتشدد بغضب وغيظ مهما بدر منه من إزعاج في بعض الأحيان في النقاش لتخفيض السعر ، وكنت أرد عليه في كثير من الأحيان متسائلا عن بعض الامور التي من وجهة نظري خطأ ، وكان يرد على تساؤلاتي بإبتسام ويشرح لي الأسباب ...

              حيث نحن نتعامل مع طبقة زبائن حدود مهربين همهم الربح وجنى المال وقليل منهم المحترمين ذوي الأصل الذين يخجلون، تعودوا على الفوضى والقسوة شدادا لا يخافون مخاطرين في العبور من دولة لأخرى بدون تأشيرات بكل مايملكون وممكن القبض عليهم متلبسين والسجن والحبس لمدد قد تطول مع ضياع الرأسمال، لا يعرفون الا لغة واحدة هي قوة الشخصية والضبط من أول يوم وإشعارهم بالحزم وفرض الوجود بالحق حتى يهابون ويحترمون ويذيع اسم التاجر في أوساطهم بالحزم وأنه لا مجال للنقاش في الأسعار والخصومات حسب العادة وقتها المتبعة الفصال المزعج وبالأخص المعاملة اليومية مع العشرات من الزبائن من مختلف الأشكال .

            أهم شىء في التجارة والبيع والشراء جودة السلعة ورخص  الأسعار وعدم الطمع والغش وكلام ونصائح كثيرة يستطيع الإنسان كتابة الكثير من الكتب والمدونات عنها ، وفي كثير من الأوقات يدعم الوالد كلامه ونصائحه بالأمثال القوية التي هي أساسات العمل التجاري في ذاك الوقت وحتى الآن ولها أبعاد كبيرة وممكن تشرح في شروح كثيرة كبيرة والوالد أختصرها في جمل بسيطة وأحدها، لماذا أطلق أسم التاجر على الشخص الذي يبيع ويشتري ؟ وعندما عجزت عن الأجابة والرد...  إبتسم وقال لي الشرح المبسط لكلمة ( تاجر )، أن الحرف الأول من الصفة ( التاء) معناها التقوى والإخلاص، (والألف ) الأمانة والعهد والصدق في المعاملة، والثقة التي هي أساس المعاملة، (الجيم) الجرأة وقوة القلب في الشراء للسلع الجيدة وعدم الخوف من الكساد وحرف ( الراء ) الرأفة وعدم الطمع والاحتكار + الرأسمال للبداية حتى تتحرك الدواليب العجلات وتمشى على الطريق ولا تتوقف . فالحروف الأربعة مجتمعة مع بعض ، عبارة عن صفة التاجر الناجح في السوق.

                  وحسب تعبيره أن السوق يمرض حتى يشارف على الموت، ولكن لايموت بحيث تمر به حالات صعبة وفترات كساد رهيبة تأخذ بعض الوقت ولكن بالصبر يتعافى ويرجع إلى قوته وبهجته مهما طال الوقت وكنت مسرورا في ذاك الوقت في الستينات من القرن الماضى في الإستماع للحكم  والأمثال وكأنها قصص وخرافات وأحاجي، حيث لا يوجد أذاعات مرئية للمشاهدة ولا دور عرض للأفلام في بلدة أمساعد الحدودية، وأنما عمل بدني وذهني متواصل وتغذية جيدة ليس فيها أي نوع من المعلبات أو المواد الكيماوية وليس مثل الآن بعد مرور حوالي خمسة عقود ونيف في عصر العولمة الإنسان عبارة عن رقم في الحاسوب ليس له كيان محسوس مع الآخرين البشر .

             كأنه آلة يعمل طوال الوقت ضمن مواعيد محددة بدون توقف ، وأن توقف مدة طويلة لأية أسباب قاهرة يصبح عالة ويفقد الكثير من سعادته، فالعالم الآن وحشا كبيرا مفترسا أن لم يتم تقيده بالعمل والدخل المناسب لمصاريف الحياة التى تزداد كل يوم ، وكبح جماحه والقبض بقوة على القيد حتى يتم الترويض والإستئناس ويصبح وديعا وتظهر محاسنه وجماله مع الوقت بالدخل المناسب ، والا ينقض ويلتهم ولا يلوم الإنسان إلا نفسه وبالأخص عندما يفقد وظيفته وعمله أو ماله ويصبح عالة على عائلته أو المجتمع، وعندها المأساة والضياع، ومن الصعب النهوض بسرعة وبسهولة الا إذا صادفه الحظ الكبير والذي لا يحدث كل يوم الا للقلة من المحظوظين البشر .

                 قضيت سنة ونصف من العمر في تعلم دروس كثيرة وكبيرة والتي كانت لها الأثر الكبير في حياتي العملية بعدها ، وأصبح الوالد يعتمد علي شيئا فشيئا من خلال التجربة وزرعه للقيم والكرامة والنصح الدائم المتواصل من خلال الأمثال عن الأمانة والصدق في القول، وعدم التعفف والتكبر على الآخرين، والحب والرأفة للضعفاء والمساكين والسعي الحثيث في الأخذ بيدهم في حدود الإمكانيات والإستطاعة ، وعدم الإنفاق والتبذير الغير المعقول الذي لا يتناسب مع الدخل، مما خرجت بحصيلة قوية في الخبرة والتجربة الفعلية خلال الفترة البسيطة التي قضيتها معه في بلدة إمساعد .

              نتيجة ظروف وبعض المشاكل العائلية مع شقيقي الحاج صالح تركت البلدة وإنتقلت للأقامة مع شقيقي الثاني الحاج حسن في بلدة كمبوت والذي كان شريكا في مطحن غلال مع الحاج عبدالله بويوسف العربي الله يرحمه ويحسن له فقد كان إنسانا خلوقا، طيبا متدينا يعرف طريق الله عزوجل ، والله الموفق .

 رجب المبروك زعطوط 

 البقية تتبع ....

No comments:

Post a Comment