Saturday, July 5, 2014

رحلة العمر 10

بسم الله الرحمن الرحيم



            أثناء الجولة في الميدان الواسع متطلعا فإحصا بلهفة عن حافلتنا، والعديد من الحافلات واقفة في الإنتظار، والبعض يصل تباعا بالزوار القادمين لمشاهدة المنطقة والمقامات المقدسة لجميع الأديان الثلاثة اليهود والنصارى والمسلمين (المساجد والمقام الإبراهيمي خاص بالزوار المسلمين )، والبعض يغادر وأنا أدور من مكان إلى آخر في حيرة على غير هدى تائه أتطلع عسى ان أجد الحافلة أو أحد الجماعة الرفاق حتى أعرف أين الآخرين حتى الاقيهم...  بعد برهة شاهدت من بعيد  حافلة واقفة فى ركن ظليل من عدة أشجار باسقة لأعلى، ووصلت لها لأتأكد منها ولدى بصيص من الأمل أن تكون هي، وتحققت الأمنية وكانت هي حافلتنا، وكانت فرحة وسعادة غير متوقعة، فقد شاهدت على الزجاج الأمامي للسائق ملصقا مستطيلا صغير تصعب رؤيته من بعيد  لشركة دار السلام التى نحن معها في رحلة العمر، مما إرتحت نفسيا وأطمأننت ان المجموعة لم تغادر بعد المكان ولا يزالون في زيارة  المسجد والمقامات...

          كان تحت ظلال الأشجار، عدة أفراد محليين جالسين في حلقة يتسامرون، وسألتهم وكان أحدهم السائق لحافلتنا ينتظر مع الآخرين وصول الدليل والشيخ عبدالحكيم محمد والمجموعة حتى يغادرون، وقررت الصعود والرجوع للبحث عن المجموعة والمشي فى الطريق والدرج الصاعد من جديد إلى المسجد والمقامات للزيارة مرة أخرى إذا أمكن ، أو لملاقاتهم في حالة رجوعهم، حيث هي الطريق الوحيدة التي سوف يسلكونها في العودة....

           عندما وصلت إلى حوالي ربع المسافة، شعرت بالتعب فجأة ينتابني وأننى لا أستطيع المواصلة في السير  إلى أعلى وخفت من السقوط إعياءا من بذل الجهد وحرارة الطقس ، وتطلعت وشاهدت ساحة عامة مغطاة بالعشب الأخضر وفيها عدة أشجار باسقة ظليلة، وبها بعض المقاعد الخشبية للجلوس ولا أحد بها، مما دخلت بحثا عن الظل حيث أحد المقاعد الطويلة موجود تحت شجرة ظليلة له في الطقس الربيعي المشمس المشع بالحرارة في الظهر القائظ، مما جلست لأرتاح بعض الوقت، وأستجمع الأنفاس مراقبا الطريق والمارة الآتين من أعلى...  


           بعد إستراحة قصيرة قررت المسير وخرجت من الساحة الخضراء وبدأت السير على الطريق، وشاهدت صدفة الحاجة وهي تسير مع إبنتي هدى راجعتين من بعيد، حيث زوجها المبروك مع الرجال يسير ولم يصلون بعد مما ارتحت نفسيا حيث بدأ الشمل يلتئم، وتلاقينا في المنتصف وهي تقول عندما شاهدتني بلهفة وإستغراب، أين كنت ياحاج؟ لقد شغلتنا ونحن نبحث عنك والبال لم يرتاح طوال الساعتين التي مضت، حيث كنا خائفين على سلامتك من أي تعب أو مرض نظير الزحام الشديد والضغط ، من كثرة الزوار في هذا اليوم المبارك لمقامات الرسل والأنبياء رجال الله عز وجل؟؟ وكان الرد الحمد لله تعالى على الوصول واللقاء صدفة من غير ترتيب مسبق، عبارة عن تأخير بسيط في الحمام لأتوضأ، وعندما خرجت لم أجد المجموعة ولا الدليل في إنتظاري حسب ما وعد.... مما بدأت البحث وتهت عن الجماعة والرفاق... ورجعنا معا الى الساحة الظليلة لنرتاح وننتظر البقية من المجموعة حتى يصلون وننضم معهم في السير المسافة القليلة على الأقدام لركوب الحافلة والرجوع إلى الفندق مع الجميع ... أخيرا وصلت المجموعة تتهادى في السير تجر أقدامها بصعوبة من التعب والمعاناة والجهد الذي بذلوه طوال الوقت وبالأخص معظمهم كبارا بالسن في الستينات من العمر، ونحن جالسين في الظلال ننتظر...  وسرنا معا حتى الحافلة والجميع مبهورين من الزيارة الحسنة المثيرة بالأحاسيس والشعور الإيماني الديني يتحدثون مع بعضهم باللغة الأوردية ( الباكستانية) لغتهم الأصلية، التي لا نعرفها، عن مشاهدة المقامات الدينية الشريفة بالمسجد والمنطقة ، حيث كان البعض قد قرأ عليها في الصحف  أو المجلات أو الكتب، والبعض الاخر شاهدها في الأذاعة المرئية   ضمن القنوات العديدة عن الرحلات أو سمعوا عنها بالسابق سماعا يمر مر الكرام بلا أحاسيس روحية روحانية تغمرالنفس عندما تكون الزيارة والمشاهدة على الطبيعة شخصيا، يتحدثون عنها برهبة وشوق، حب وولاء حيث لها جو روحاني غريب على الزائر المؤمن وبالأخص الغريب ولأول مرة، تتولده أحاسيس وقشعريرة غريبة روحية نابعة من الأعماق عندما يتطلع في وجوه مئات وآلاف البشر الزوار وهم يتزاحمون بإندفاع وشوق على المقامات للأنبياء والرسل ورجال الله تعالى المباركين... محاولين الحصول على الأجر  والثواب والبركات من الله عز وجل .

          أرض فلسطين أرض الرسالات ومهبط الكثيرين من الرسل والإنبياء، مقدسة باركها الرب الخالق من البدايات عامرة بالأنبياء والرسل ورجال الله تعالى المعروفين الذين تم ذكرهم في القرآن الكريم، والكثيرون الغير معروفين، يعلمهم العليم الله تعالى، الذين عاشوا في الخفاء بدون إشهار في صمت، عاشوا بالمنطقة سنين وأعواما طويلة بدون ذكر ولا صيت، حياتهم مرت مرور الكرام أيام عصرهم بدون عناوين ولا بهرجة وذكر، مثل الدراويش . توفاهم الله عز وجل ودفنوا بالأرض المقدسة وضم ترابها أجسادهم الطاهرة، مما أصبحوا دروعا صامدة مخفية ضد شياطين الإنس والجان، كل من ينوي أو يريد إيتان الشر والشرور والفساد في الأرض المقدسة بدون وجه حق، بطريقة أو أخرى تتولاه اللعنات وتحل على أكتافه المصائب . كل من أتى الله تعالى بقلب سليم ونوايا صافية بدون خبث، الله سبحانه وتعالى يعطيه ويهبه أضعاف الأجر والثواب فالخالق كريم جواد، ذو الجود والإحسان، وبالأخص لنا نحن الزوار القادمين من أمريكا عابرين القارات، راغبين الحصول على العفو والغفران في ذكرى اليوم المبارك المقدس يوم الإسراء والمعراج، المعجزة التي حدثت منذ حوالي اربعة عشرة قرنا مضت...

           ركبنا الحافلة في الصف الأخير وجلست في المنتصف كلعادة وكان هذا إختياري  منذ أول مرة وطوال الرحلة حتى يصبح الجميع أمامي وأشاهد الطريق من ثلاثة جوانب حيث الممر للركاب خاليا وأستطيع المشاهدة الأمامية بسهولة وكأنني أنا السائق، مع أنني الراكب في الصف الأخير!  مما الجميع من رفاق الرحلة عرفوا بديهيا ان الكرسي الأخير الذي يتسع لخمسة ركاب محجوز لنا كعائلة في جميع الحافلات التي ركبناها، لم يزاحمنا عليه أي أحد طوال المشاوير في أي مكان زرناه من بدايات الرحلة المباركة في التجوال في السعودية والأردن وفلسطين المحتلة والزيارات إلى المزارات المباركة والتي ركبنا فيها العديد من الحافلات...

         
بدأت الحافلة السير في الطرق الملتوية في التلال والجبال ونحن نشاهد العديد من المستوطنات على قممها، الواحدة وراء الأخرى في أشكال هندسية جميلة من بناء وتشييد ومررنا على إحداها وقمنا بجولة بالحافلة فيها ضمن دورة ملتوية في طرقها، حتى خرجنا من الناحية الثانية وواصلنا الرحلة على الطريق ونحن فرحى سعداء حتى مدينة أريحا في الضفة التي يقولون عنها، أنها من أقدم المدن تاريخيا في الإنشاء!  الميزة في فلسطين المحتلة أنها صغيرة الحجم في المساحة، شريط بسيط من الأرض، المدن فيها والقرى متقاربة والمسافات بينهما بسيطة جيران تخرج من واحدة وتجد النفس على أبواب الثانية من القرب، مما بعد فترة بسيطة وصلنا (لأريحا) وتوقفنا أمام أحد المحلات الكبيرة لبيع التحف والصناعات اليدوية العديدة من الفخار والأشياء الكثيرة المتنوعة التي يرغب شراؤها السواح للذكرى عن ، وقمنا بشراء البعض من الأكياس الصغيرة المملوءة من طمى البحر الميت لإستعمالات العلاج لتنظيف جلد الوجه من البثور حيث مركزة بالأملاح والمعادن، والبعض من الأطباق الجميلة التي منقوش عليها بعض آيات القرآن الكريم (سور المعوذات) لتعليقها في البيت بأمريكا حتى تبعد عيون الحساد من الحقد، وبدلا من نقلها معنا طوال الترحال من مكان الى آخر حيث ممكن ان تتكسر ،، تم شحنها إلى امريكا جوا مما وصلت سليمة بعد وصولنا بأسبوع .


          غادرنا المحل إلى أحد المطاعم لتناول وجبة الغداء المتأخرة حيث كنا جوعى من كثرة الجهد والمشي، وكان الطعام جيدا على طريقة (البوفيه اخدم نفسك وإختار الطعام الذي يعجب الشخص تناوله)...  وبعد الغداء الجيد وشرب عدة أكواب من الشاي والقهوة ، بدأت المسيرة حيث شاهدنا العديد من المشاهد بالنظر عن بعد وبالأخص الكنيسة في منتصف وسفح الجبل الشاهق كحماية لرهبانها وسكانها في العصور الماضية من أي إعتداء وغارة فجأة، والتي وقتها يعد الوصول لها صعبا خوفا من السقوط في الوادي السحيق والذي الآن سهلا جداً الوصول جوا عن طريق عربات (التليفريك) العالية التي تجري على الأسلاك فى التوصيل .

             في طريق الرجوع إلى القدس، اتيحت لنا الفرصة بزيارة مقام سيدنا موسى عليه السلام. وهناك قمنا بصلاة العصر وقرأنا الفاتحة على روحه الطاهرة... بعد ذلك ركبنا الحافلة وكان الجميع مرهقين من عدم النوم الكافي والتعب في المشي والمشاهدة، والدليل طوال الوقت على الهاتف يخابر ليرتب برنامج الزيارات وهل نرجع للفندق أم نذهب للحرم القدسي رأسا، ليتأكد هل قداسة البابا مازال فى كنيسة القيامة ضمن الزيارة والمهرجان الكنسي الكبير، إحتفاءا بقدومه والإحتفال بوصوله حاجا لها، أم غادر حتى ينتهي الزحام وتهدأ الطرق من كثرة مرور السيارات ونستطيع الدخول إلى المسجد الأقصى للزيارة بالمساء بدون عوائق ؟؟ ؟ ولكن حتى وصولنا الى باحة الفندق في مدينة القدس قبل رفع آذان صلاة المغرب بحوالي نصف ساعة، مازال الحرم مغلقا وقداسة البابا لم يغادر بعد، حسب ما سمعنا من الدليل، مما خيرنا اذا اي أحد منا يريد ويرغب ان يذهب في الحافلة إلى أحد الأبواب الرئيسية القريبة من الحرم القدسي، قبل أن تغادر، حيث لا يستطيع السائق الانتظار الطويل للمجموعة حتى تزور ويرجع بهم إلى الفندق في وقت متأخر، نظير المسافة القريبة التي لا تتعدى عشرة دقائق راكبين إلى أقرب الأبواب للمدينة القديمة، ومنها للحرم القدسي . على الزوار الرجوع سيرا على الأقدام أو عن طريق سيارات أجرة، التي لا تكلف الكثير من المال، مما مجموعتنا الأربعة وصديقنا المصري الدكتور أمين الذي تعرفنا عليه خلال الرحلة الميمونة وأصبح رفيقا لنا معظم الوقت من ضمن مجموعة العائلة، نظير التعب والإرهاق، والحاجة الماسة للراحة والنوم قررنا البقاء في الفندق للراحة، وبالغد بإذن الله تعالى نكون مرتاحين ولدينا الوقت الكافي واليوم بكامله للزيارة والمشاهدة عن قرب للمعالم، وحسب الذي سمعته اليوم الثاني من أحد الرفاق الشاب ( ريحان ) والأخت ( بشرى ) ان معظم المجموعة من إخوتنا الباكستانيين قاموا بالزيارة بعد أن دخلنا إلى عرفنا بالفندق للراحة، حيث قداسة البابا غادر بسلامة، وأطواق الأمن العديدة غادرت مواقعها والحواجز أزيلت وأصبح الأمر في منطقة الحرم القدسي والمدينة القديمة عاديا مثل السابق، أي أحدا من الزوار الغرباء يستطيع الزيارة والتجوال  والصلاة بالحرم القدسي كما يشاء...

           اليوم الثاني بعد الإفطار اللذيذ من الطعام الشهي في المطعم الفخم وتجهيز أنفسنا لبرنامج الزيارات ونحن مشتاقين لرؤية الأماكن المقدسة، تغمر أنفسنا رغبة وشوق وحنين روحاني لمعالم الحرم القدسى القريب من الفندق، المقام على مساحة حوالى 144 دونم (الدونم 1000 م مربع) من الارض المقدسة التي بنيت عليها المساجد العديدة والزوايا والمعالم الدينية المقدسة عبر العصور والزمن، ابتداءا من المسجد الأقصى و مسجد قبة الصخرة والمسجد المرواني و مسجد عمر بن الخطاب وبعض القباب والزوايا، وكنيسة القيامة التي زارها سيدنا عمر بن الخطاب عندما رفض الحاكم البطرياك لدولة الروم تسليم القدس بعد الحصار الشديد عليها الى قائد الجيش الإسلامي خوفا من الإجتياح والقتل الغير مبرر نتيجة الإنتقام على الصمود وعدم الإستسلام بسرعة كما كان يعتقد ويحدث في ذاك العصر من مذابح ومجازر، نهب وإغتصاب وقتل الابرياء العزل بدون أسباب أثناء فرحة النصر لدى المنتصرين، رفض التسليم السلمي أثناء المداولات على شروط الهدنة، إلا بالحضور الشخصي لأمير المؤمنين سيدنا عمر بن الخطاب الذي سمع عنه الكثير من الروايات، الشدة في إحقاق العدل والمساواة بين الجميع من البشر مهما كانت الاديان والعقائد، ولا يظلم لديه أي أحد مهما كان الإتهام الا بالحق...

           وحضر أمير المؤمنين من المدينة المنورة تلبية للطلب وحقن الدماء للطرفين، راكبا على بعير ومعه احد الأدلاء فقط كرفيق بدون حراسات ولا موكب ومهرجان ودق طبول ومزامير ولا تميز على البشر مثل الآخرين من الحكام، بل إنسان عادي وهو الآمر للدولة الإسلامية، الجميع يدينون له بالسمع والطاعة، مما إستغرب البطرياك من الأمر، وسلم مفاتيح أبواب مدينة القدس إلى سيدنا عمر بن الخطاب عن رضاء، وهو يقول عن قناعة أن هؤلاء البشر العرب الفاتحين غير مهتمين بالدنيا وزخرفها، كل الهم فتح الأمصار ونشر الدعوة الإسلامية للدين الجديد لإعلاء كلمة الله تعالى بان تصبح الأعلى...  وعرض البطرياك على سيدنا عمر الصلاة في كنيسة القيامة عندما حان الوقت لإحداها، ولكن أمير المؤمنين رفض الصلاة داخلها، ليس كرها لها، ولكن خوفا من أن تكون عادة مستحبة، يستبيحها المسلمون مع مرور الوقت والزمن وتستغل بعده لأى ظرف كان، إقتداءا به، بل إحترم قدسية الكنيسة أنها بيت من بيوت العبادة لله تعالى، وصلى خارجها ومع الوقت بنى المسلمون مسجدا مكان صلاته بالساحة جنبا لها ملاصقا موجودا حتى اليوم الحاضر بإسمه، حيث أمير المؤمنين كان من أوائل المسلمين الذين زاروها ودخلوها مما دلت دلالة واضحة على تسامح المسلمين والتعاطف مع الأديان الأخرى وبالأخص المؤمنين بالتوراة والإنجيل...   والله الموفق...
                                                                                           رجب المبروك زعطوط

 البقية في الحلقات القادمة...

No comments:

Post a Comment