بسم الله الرحمن الرحيم
لإعطاء فكرة للقارئ الكريم عن معايير الحياة والعيش وقتها في ليبيا خلال الخمسينات، حيث عشت أيامها شخصيا فأنا من مواليد 1943م كنت صغير السن ولكن صافي الذهن مثل الجميع في ذاك الوقت نظير عدم الهموم والغم وظروف الحياة المتشعبة مثل الآن، الخوف من المجهول والجري وراء المادة…
مرتب العامل العادي 3 جنيهات والموظف او المدرس من 8 إلى 10 جنيهات بالشهر يعول عائلة متعددة الأبناء… يعيشون به مرتاحين حامدين الرب الكريم على النعم… ثمن كيلو لحم الخروف في منتصف الخمسينات ربع جنيه فقط ويعتبر السعر غاليا وقتها، وليس مثل الآن اكثر من عشرين دينارا!
الحياة بسيطة ورخيصة جداً ومعظم أبناء الشعب يعيشون على العمل المضني بالجهد والعرق… لا نعرف العمالة الاجنبية مهما كانت بإستثناء البعض من المستشارين المميزين في قطاعات الدولة الرئيسية للتشريع وادارة الحكم حسب نصوص الدستور والقانون المعتمد…
العديد من بعثات المدرسين من دولة مصر في المنطقة الشرقية والقلائل من تونس في المنطقة الغربية في قطاع التعليم وبعض الاطباء الأجانب، والأخوات الراهبات الإيطاليات (سوريللا) في قطاع الصحة والتمريض بالمستشفيات والعيادات الحكومية… لم نكن نعرف الخاصة بعد في ذلك الوقت…
جميع الحرفيين ليبيون من بناء وتشييد وطلاء، من صناع مهرة في الاردية والملابس الشعبية الليبية من الصوف والاحذية المحلية من الجلود (البلغة ) والزراعة بجميع انواعها وبالأخص القمح والشعير الموسمي عندما تسقط الأمطار ( والموالة ) تربية الحيوانات الأليفة بجميع أنواعها للأكل، أو للحراسة…
لا نعرف الاستيراد من الخارج لأية مواد غذائية ماعدى الشاي والسكر وبعض المنتوجات التي لا تزرع في ليبيا… حيث جميع الباقي محلي من انتاج الوطن… وكان اليهود الليبيون متخصيين في التجارة وصياغة الذهب والفضة، والجالية الايطالية في أعمال الميكانيكا والحدادة وتصليح سيارات النقل الكبيرة التي معظمها موديلات صناعة إيطالية…
الجميع متجانسون، مع اختلاف الاديان لا تعصب ولا تطرف، كأنهم أخوة في المواطنة والوطن، ذوي مهارة وضمير، لا يعرفون الغش ولا التحايل ولا أي نوع من أنواع المكر والسرقات والحصول على أشياء وأموال الغير بالنصب والإحتيال…
نعيش في طهارة تامة ضمن الصدق في القول والإخلاص في العمل… لا امراض مستعصية لدينا… لا نعرف السهر الطويل… ولا نأكل الطعام المحفوظ في العلب… ولا نعرف إضافة الأسمدة الكيميائية في الزراعة حتى يزيد الانتاج… كنا نستخدم فقط الأسمدة العضوية الصحية، من فضلات ومخلفات الحيوانات ( الزبل )، مما كان الطعام صحيا من غير اي نوع من انواع التلوث مثل الآن…
لا نعرف ماذا يدور في العالم بسرعة من احداث وأحاديث الا من القلائل المهتمين بالأخبار من خلال سماع الاخبار المسموعة من الراديوات، لا نعرف القنوات المرئية حيث لم تخترع ولم تظهر بعد في الاسواق التجارية…
نذهب في بعض الأحيان إلى دور الخيالة لمشاهدة بعض الأفلام الامريكية المثيرة لرعاة البقر أو الحربية والتاريخية التي كانت تملأنا حماسا وحمية… نعيش اوقات العرض في دهشة ونحن نتخيل القصص العديدة لكل فيلم على حدة، وكفاح الأبطال الممثلين من اجل إحقاق الحق والعدالة للضعفاء والمحتاجين للعون والغوث والنجدة مما كانت لها الدور الكبير في بناء شخصياتنا مع الوقت…
تركيزنا كشباب على الدراسة والقراءة بشغف لجميع انواع الكتب، وكانت أحد فروع وادارات منظمة الامم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم مهتمة بالتثقيف والتعليم… فكانت تبعث بسيارات مكتبات متنقلة إلى جميع المدن والمناطق النائية تمر شهريا للتشجيع على القراءة وإستعارة الكتب والقصص من الصغار والكبار المهتمين بالعلم والقراءة حيث لا توجد مكتبات لبيع الكتب الا في المدن… وان وجدت معظم الجميع من الطلبة غير قادرين على الشراء ودفع القروش الزهيدة لان أولياء الامور فقراء بالكاد قادرين على العيش الشريف بكرامة عاجزين عن الدفع لفلذات الكبد…
ممارسة الرياضة في النوادى الناشئة، من جميع أنواع الالعاب الرياضية كرة القدم المشهورة المحبوبة لدى الجماهير الغفيرة التي كانت تتابع المباريات بشغف وحماس… كرة السلة والطائرة والجرى والوثب والسباحة والعاب القوى مثل المصارعة والملاكمة ورمى القرص وغيرها من الالعاب العديدة…
وكانت تقام المباريات وتتنافس الفرق وتعطى الجوائز للفرق الفائزة تشجيعا لها… مما خلقت وجعلت منا أجيالا مميزة تختلف كل الاختلاف عن أجيال اليوم "المائعة" التي تجمد العقل لديها واستهلكت… لا يعرفون كيف تحسب وتضرب الأرقام مع بعض في الذهن بسرعة كما كنا في ذاك الوقت الا باستخدام الآلة الحاسبة…
إننى مهما تحدثت عن تلك الايام في العهد الباهي الزاهر عهد المملكة لن استطيع ان أوفيها حقها مهما تحدثت وشكرت وقدرت رجالها الأوفياء المسؤولين الصادقين ذوي الشهامة والكرم الذين معظمهم في البدايات لم يكونوا يحملون أية أنواع من الشهادات العلمية باستثناء القلائل الذين درسوا بالخارج ايام الغربة عندما هاجر أهليهم من عسف المستعمر الايطالي وتحصلون على شهادات عالية حسب ذاك الوقت… أو البعض الذين أكملوا تعليمهم في الخارج بعد فترة الحرب العالمية الثانية حتى الاستقلال 1945-1951 م
لأنني عشتها شخصيا من البدايات من ايام الاستقلال في الخمسينات، عشت احداثا الكثير منها على الطبيعة شاهدا على العصر وانا في عز الشباب والرجولة في الستينات، وليست سماعا من أفواه الآخرين او قراءة كتب وقصص عنها…
مصيبتنا الطمع في ثروة النفط والغاز التي أتت هبة وعطاءا فجأة من السماء رحمة من الخالق الله تعالى، لإنصاف الشعب الليبي الطيب البسيط عن ما حصل له في العقود الماضية، من تهجير وشنق وقتل ومعارك وتمرد وثورات طوال الاحتلال الايطالي الغاشم الذي حاول إبادة الشعب… وفشل !!!
والحرب العالمية الثانية والصدام والقتال بين الجيوش المتناحرة، قوات الحلفاء وقوات المحور، بشراسة وعنف وكل طرف يحاول كسب الحرب والنصر ونحن كشعب ليبي تضررنا ضررا فادحا، لا ناقة لنا فيها ولا جمل غير المعاناة والقتل والخراب والدمار للوطن…
وجاء الخبيث إبليس الشيطان الرجيم القذافي ووصل للحكم بطرق شيطانية من تخطيط اسياده القوى الخفية نظير التحكم في النفط والغاز وتوجيهه إلى مسارات أخرى للتخلف ونحن نصفق ونهتف نظير الجهل بالمؤامرة، وكان يصرف بناءا على توجيهات الأسياد الكبار ضمن المخططات واللعبة الدولية…
الشيطان الرجيم تحكم في الدولة وبدلا من مملكة لها دستور وقوانين في، فترة ساعات بسيطة، ضاعت المجهودات السابقة والنضال طوال سنين عديدة… والدماء الزكية للشهداء الذين ضحوا من اجل المملكة، أصبحت جمهورية وبعدها جماهيرية دستورها الكتاب الاخضر والنفاق في أبشع معانيه!!!
الضيق والمعاناة غيرت النفوس لدى الكثيرين من اجل الحياة ولقمة العيش وظهرت على السطح شريحة كبيرة من أراذل الشعب المهمشين السابقين الذين لم يكن لهم وجود… نظير الكره وحب الانتقام من الآخرين الشرفاء… تسلقوا الصفوف بسرعة وأصبحوا بالمقدمة ينفذون الأوامر من السيد الجديد القذافي المجنون، بشغف وحب بشع…
ويزيدون عليها أضعافا مضاعفة من الضغوط النفسية والتحقيقات الأمنية والتعذيب بالسياط حتى الموت بحجج واهية (حماية الثورة) من عندهم بدون أية اوامر وتوجيهات تشفيا في المتهمين الابرياء الذين شاء سوء الحظ ووقعوا بين أياديهم… مما خاف معظم الجميع من الرجال الشرفاء الابرياء وطأطؤوا الرؤوس وأطاعوا تعاليم وأوامر النظام الجديد غصبا عنهم لقاء النجاة من الاشتباه والإتهام والقبض لأتفه الأسباب…
السبب لجميع هذه المآسي والأحزان كان وراءها الثروات الخيالية في باطن الارض من النفط والغاز في ارض ليبيا، الذي تدفق بدون حساب بوفرة، استفاد الغير من الثروة الخيالية والمال الجم بدون حساب، طوال عقود عديدة… ونحن أبناء الوطن الأصيلين الأصليين لم نتحصل حتى على الفتات لنفرح ونسعد بخيرات وطننا ليبيا!
السرقات على قدم وساق طوال السنوات العجاف من الشركات الاجنبية مهما عمل الليبيون من شروط وعقود لأن الكثيرين من اصحاب القرار الليبيين أشباه رجال متورطين إلى الذقون في السرقات والعمولات الضخمة بطرق واساليب شيطانية يعجز اي متابع من ديوان المراجعة والمحاسبة على اكتشاشفها… مهما حاول ان يفك الشفرات المستعصية ويصل الى الحل والحلول واكشاف الفروقات بسهولة… ويتفطن للتلاعب الكبير في الأرقام، كمن يدور في حلقة كبيرة طوال الوقت بلا مخارج ولا باب نجاة حتى يهرب من الطوق ويفضح الألاعيب لعامة الشعب…
من وجهة نظري الخاصة ان النفط والغاز له الدور الكبير في خراب ودمار ليبيا… لعنة ونقمة وليس نعمة حتى الآن بعد الثورة المجيدة… لأنه جلب لنا العيون الطامعة ونحن معظمنا لا نعرف كيف نتصرف بالعقل والحكمة ضمن الأصول ونعرف كيف نستفيد من ثروتنا على الوجه الأكمل بالخير والنهضة للوطن…
بل عم الخراب ودب الفساد والإفساد في معظم مفاصل وأوصال الوطن وغطسنا في الحرام إلى الذقون بحجج التقدم والنهضة المزيفة… وبدأنا ننسى الكثير من أخلاقياتنا الحميدة لقاء التغول وحب المال والسلطة… والله الموفق…
رجب المبروك زعطوط
البقية في الحلقة القادمة…
No comments:
Post a Comment