بسم الله الرحمن الرحيم
شاهد على العصر
38
كل شىء من فوز ونجاح له ثمن غال في كثير من الأحيان ، وأحيانا أخرى "الشطارة" زيادة عن اللزوم والبخل أو التحايل والغش يؤدى بصاحبه إلى الهلاك والخسارة ، وحدثت مطبات كثيرة خلال المسيرة ورحلة الحياة العملية ، ولكن نظير طيبة القلب وعدم الخبث والمتابعة القوية في الصمت بدون أن يشعر الآخرون حتى لا يحتاطون ويصبح الأمر أشد صعوبة وتظهر الألاعيب بسرعة ، ويتم البتر بسرعة حتى لا يعشعش الفساد فهو مثل مرض السرطان إذا إنتشر أودى بصاحبه للموت والهلاك بسرعة .
إحدى الألاعيب من العجوز المهندس بيتنجانه التي وقع فيها بقصد أم بدون قصد، حيث رسا علينا عقد تزويد مستشفى مصحة شحات بأجهزة التبريد والتدفئة ، وتم إرساء العقد لمقاول لبناني ماهر شركته قادرة على التنفيذ الجيد المشرف من الباطن لتنفيذ العقد ، حيث معظم الأعمال تتمثل في إستيراد الأجهزة والربط والتركيب … فقد قمت بفتح إعتماد من المصرف التجاري لإستيراد الكمية على دفعتين:المستعجلة عن طريق الجو حتى لا تتأخر والبقية عن طريق البحر ، وحدثت اللعبة حيث الشركة اللبنانية محتاجة إلى سيولة بإيعاز وموافقة المهندس العجوز السيد إبراهيم بتنجانه حيث يحتاج إلى دفعات في سوريا لتسديد مبالغ مطلوبة منه للمصرف وإلا يتم الحجز ويفقد أملاكه التي رهنها كضمان.
تم الشحن بالطائرة لمواد بسيطة وتم السحب للمبلغ الكبير المفروض سداد بقية المواد والمعدات المفروض شحنها بالبحر والتي لم تكن جاهزة بعد … وتم الإكتشاف في مطار بنينا من قبل الجمارك وكبرت القصة وإن المؤسسة تهرب الأموال من ليبيا ، وزاد القيل والقال والهمس من الحاقدين الحساد الشامتين من الكثيرين وللأسف البعض أقارب ذوي دم وصلات رحم وأصدقاء رفاق بيني وبينهم ماء وملح وطعام.
تم الإستدعاء الرسمي من قبل إدارة الجمارك وفتح باب التحقيق وبعدها التحويل إلى النيابة وممكن السجن على ذمة التحقيق حتى تنتهي القصة ، وسمعت بالخبر المزعج وأنا في بيروت ولم أنام الليل حيث العملية ليست ببسيطة في الظروف الثورية الصعبة التي تحاسب فيها دولة الفساد المواطن على تهريب دولار واحد ورئيسها وأولاده وأعوانه يسرقون عشرات الملايين بدون حساب ولا تحقيق … أليست بمأساة ؟؟؟
رجعت إلى بنغازي وذهبت إلى إدارة الجمارك وكان المراقب المسؤول نزيه نظيف وفي نفس الوقت جبار عنيد وذكي متمرس في العمل كل يوم تمر عليه عشرات القصص والنوادر ويكتشف الحيل والألاعيب ويوقفها عند الحد بالقانون والضرب على اليد المخالفة عن قصد وسابق ترصد بعنف للمجرمين وبالأخص للأجانب الذين يحاولون العبث بأموال الدولة ، نسيت إسمه الآن من طول المدة …
كان يعرف إبن العم صهري ومن أصدقائه ولكن خلال العمل لا يرحم ، وقابلني بإستهزاء وإستياء وقال ، أنت ياحاج رجب الذي نثق فيه ولا نعطل أعماله تصبح في آخر العمر مهرباً للنقد للخارج بحيل وطرق غير شريفة ؟؟؟
مما إستفزني بقصد ورديت عليه بعنف وحماس وقلت له عندما أريد أن أهرب الأموال ليس بهذه الطريقة وليس بمبالغ زهيدة تافهة مثل الذي حدث ، والمسألة حدثت فيها أخطاء والمجموع المالي المواد الآتية بالجو والأخرى القادمة بالبحر تعادل المبلغ حسب الإعتماد وأنا مستعد للتحدي! مما سكت برهة بسيطة وتوقف القلب لحظات في إنتظار الكلام والرد هل لصالحي أم يمرر القضية إلى المرحلة التالية للنيابة حيث سوف تتصعب الأمور وتأخذ منحنيات أخرى ، وقال لا إفراج على البضاعة في المطار حتى تصل المواد الآخرى إلى الميناء ويتم الفرز من قبل لجنة من الجمرك ، وعندها سوف أقرر أنت مخطئ أم لا!
لكن أريد القول لك أنني رحمتك الآن نظير أول مرة تحدث … حيث سجلك نظيف أرجو أن تحافظ عليه وإلا سوف تكون مستهدفاً طوال الوقت ، وطلب من ضابط آخر للذهاب إلى المطار والكشف على المواد وتحرير محضر بذلك ، ونفذت الأمر وزرت المخزن بمطار بنينه وكم هالني الأمر حيث العملية مفضوحة والمواد تساوي مبلغا بسيطا مقارنة مع المستندات …
لم أرتاح حتى وصلت بقية المواد وتم الكشف من اللجنة المشكلة من إدارة الجمارك وتم الفحص الدقيق وطابقت المواد المستوردة جميعها مع الأسعار وتم رفع الحجز ودفعت قيمة الجمرك المطلوبة وقفل الملف إلى الأبد …
لكن بالنسبة لي عشت أوقاتا وأياما صعبة فقد كنت قاب قوسين على الإتهام من قبل النيابة وتدخل اللجان الشعبية والثورية وممكن تتطور إلى مآسي أخرى حيث لايخلو رجل أعمال ناجح من كثير من التهم لقاء العلاقات مع المسؤولين ، الذين البعض منهم تريد الدولة التخلص منهم نظير صراعات على السلطة والجاه والمركز من أوباش آخرين واصلين نتيجة النفاق ، لا يهمهم دمار وخراب الآخرين الأبرياء الذين شاء سوء الحظ أن يقعوا في الشراك نظير أخطاء الآخرين و الثقة العمياء وعدم المحاسبة والمراقبة لمرؤوسيهم كما يجب.
ضغطت على المهندس العجوز والمقاول اللبناني بقوة حيث قلت لهم كنت بالسابق أتعامل معكم برجولة وصدق وثقة وتريدون اللعب ووضعي في مواقف محرجة أو السجن ، وأريد أن أؤكد لكم أن وطننا ليبيا مهما تشاهدون فيها من ألاعيب وفساد ليست سائبة بها رجال وطنيون صادقون مستعدون للكشف والضرب على اليد بقوة مثل هذا المراقب الصعب الشريف! مما خافوا وحافظوا على العمل بأمانة وصدق حتى النهاية وتسليم الأعمال …
واصلت في الأعمال وكل يوم أتقدم للنجاح والمؤسسة تكبر وتتحصل على مشاريع أخرى كبيرة ويزداد العاملين من فنيين وعمال مهرة ومهندسين ومراقبين للأعمال يعرفون العمل المطلوب منهم بسرعة ويتقنونه ضمن المعايير المطلوبة وإستعنت برجال شرفاء ووفقت فيهم مع الوقت حيث كنت أدفع مرتبات مجزية وحوافز شهرية عالية لكل من يعمل ويعرق وبجهد في سبيل نجاح المؤسسة مما مع الوقت أصبح لدينا أطقم جيدة جاهزة للتنفيذ لأي أعمال بالمقاولات وأصبح لدي أسطول كبير من عربات النقل الثقيل وعشرات الآلات من جرافات وبلدوزرات وكاسحات للتربة وكسارات لجرش الحجارة وخلاطات أسفلت إحداها في منتصف السبعينات كانت لأول مرة تدخل قارة أفريقيا حسب قول شركة "ماريني" المصنعة ، حيث إنتاجها يبلغ 180طن في الساعة أسفلت جاهزا للفرش على الطرق ، وركزت في أخر السنوات على أعمال الطرق وأصبحت خبيرا بلا منازع وتعلمت الكثير من الأخطاء التي وقعت فيها.
حدثت قصص كثيرة في التحديات مع الآخرين ، وأذكر إحداها كعبرة حيث كانت شركة القناة المصرية لديها أعمال لصيانة الميناء بدرنة ومنها فرش الإسفلت وكانت الجهة المشرفة المسؤولة شركة إنجليزية إستشارية للمتابعة والإشراف إسمها "هاورد هامفرس" ومدير المشروع المهندس المشرف من مدينة درنة من "آل الحصادي" لا أذكر إسمه الأول الآن نظير طوال المدة ، وكان في صراع كبير في الخفاء من مهندسين الشركة المصرية والمستشارين الذين لأي خطا في التنفيذ يرفضون الإستلام مما الشركة المصرية وقعت في الشراك وإضطرت لتحسين الأعمال والتنفيذ الجيد حسب المواصفات ، والحق يقال بصدق ، لولا وجود الشركة الإنجليزية لتم التنفيذ للمشروع غير جيدة أو بالعامية "أي كلام" … حيث الإعتماد للأسف على الغش والتحايل …
في أحد الأيام جاء للزيارة المدير العام لشركة القناة في مصر في زيارة تعارف إلى البيت بالمساء طالبا مني المساعدة في تنفيذ أعمال فرش الإسفلت بالميناء حيث لا يستطيعون إحضار آلات ومعدات الإسفلت على عمل بسيط ووافقت مقابل دراسة المواصفات والكميات وتقديم العرض بالأسعار ومن جملة حديثه قال أنا موافق من الآن على الأسعار المتعارف عليها من قبل البلدية ومؤسسة الإسكان ، وكان ردي سوف أعمل ما بوسعي ولكن أولا قبل الموافقة من الضروري الدراسة الفعلية لكي أعرف القياسات وما المطلوب بالضبط حيث كل حالة في المواصفات تختلف عن الحالات الأخرى مما وافق وعرف أنه يتعامل مع خبير في أعمال الإسفلت ليس سهل خداعه بالحديث المنمق الحلو …
في اليوم الثاني وصلتنا المواصفات مع أحد المهندسين وتمت الدراسة الأولى لها ووجدنا بها أخطاء كبيرة قاتلة لو تم التنفيذ ، حيث تم الحساب على مواصفات بريطانيا وبرودة الطقس بها ونوعية الأحمال التي تمر وتمشي عليها والتي لا تتلاءم مع وطننا ليبيا.
طلبت اللقاء الأول بحضور جميع الأطراف في مكتب المدير المشرف على المشروع بالميناء ، وجلسنا على الطاولة للحوار ، وكان عدد الموجودين الحضور ستة أفراد ، إثنان من المهندسين الإنجليز ومقابلهم إثنان من المهندسين المصريين وعلى رأس الطاولة مدير المشروع "الحصادي" الذي جلست مقابله ، وبعد الحوار والنقاش لجميع البنود بندا وراء الأخر حتى وصلت للنقطة الرئيسية وقلت بصراحة حيث أنا المقاول من الباطن لن أستطيع التنفيذ لهذا البند الذي ينص على السمك البسيط لأنه لا يأخذ في الحسبان طبيعة ليبيا ، مما أصر المهندسون الإنجليز وسكت المصريون وهم بداخل أنفسهم شامتين حيث أخيرا وجدوا مقاولاً ليبيا يفهم ويعرف كيف يتصدى لهم بالحق ، وشرحت لهم لماذا …
من حسن الحظ كانت توجد سفينة تفرغ حديد الخرسانة الذي يستعمل في البناء وطول الربطة التي تزن الطن يبلغ ستة أمتار وعربات النقل الموجودة بالميناء طولها أربعة أمتار مما عند التحميل جزء من الحديد يخط ويحتك مع الإسفلت مما يتسبب في شقوق ، وأثناء الصيف لا يحس بها أحد حيث الغبار يغطيها ولكن عندما تهطل الأمطار بالشتاء تظهر للعيان وتتسرب مياه الأمواج العالية عبر الحواجز والأمطار مما مع الوقت تجعل الإسفلت ينتفخ ويرتفع لأعلى مثل وضع رغيف الخبز في صحن كبير من الماء.
للأسف لم يقتنعوا وحاول المهندس المشرف وحاولت عدم إحراجه أولاً وتحامل مع المهندسين الإنجليز وقلت له بلهجة ساخطة حتى يفهم أن شركتي لا توافق ، هؤلاء الإنجليز في حالة التنفيذ حسب مواصفاتهم يوما سوف يرحلون إلى بريطانيا والمصريون إلى مصر ويبقى للسخط أنت وأنا حيث يوما سيقال عنا كلام بذيئ وشتائم من نوع ، "أخرب بيت المقاول الذي نفذ ، والمهندس الذي أشرف" وأنا شخصيا لا أحبذ خراب البيت وأتغاضى مقابل إرضاء الأجانب على حساب وطني وسمعتي مما خاف وسكت.
أخيرا طلبت منهم تنفيذ طبقة أخرى بنفس السماكة حيث الأولى الفرش 10 سنم وبعد الضغط من المداحل "الرولات" تصبح حوالي 7.5 سنم ولو نفذ المشروع بطبقتين حيث السمك النهائي بعد الضغط 15 سنم عندها مضمون عدم التشقق مها كان من مرور وخدوش ، ورفض المهندسون الإنجليز وقلت لهم بسيطة إبعثوا طلبي بأمانة بالتلكس إلى مقركم الرئيسي في لندن كتحكيم وننتظر الرد ووافق الجميع على الحل للخروج من المآزق والحوار الهندسي الكثير الذي لا يوصل لحلول مرضية ، حيث ليست لدي شهادات علمية ولكن تعلمت الكثير من خلال التجارب والأخطاء وطوال الوقت الحوار مع أطقم المهندسين لدي بالمؤسسة بحيث مع الوقت أصبحت خبيرا مستعدا لمقارعة أي مهندس في أعمال المقاولات في الطرق من الألف إلى الياء والحمد لله تعالى …
بعد أسبوع وصل الرد من بريطانيا طالبين التنفيذ حسب طلب المقاول المحلي مما سعدت وفرحت من الرد والإعتراف وطلبت شهادة بذلك قبل البدء وتم وصولها بعدها بالبريد وعلقتها بالمكتب كدليل ولكن ضاعت أيام الزحف والتأميم بعدها بسنوات.
طلبت إغلاق الميناء لمدة يومين وخروج جميع الآلات وعربات النقل مما نفذوا الطلب ، واليوم الأول من الفجر دخلت الأطقم للتنظيف وتجهيز الموقع وبعد الظهر الرش بمادة "م س و" للحفاظ على الأرضيات من الغبار وبعدها طبقة "ر س ت" اللاصقة حيث تم الإنتهاء منها منتصف الليل ، واليوم الثاني من الفجر بدأ الفرش للطبقة الأولى والدحل والضغط وبعدها تم الرش للطبقة اللاصقة والفرشة الثانية وإنتهت الأعمال قبل المغرب وغادرت الآلات التابعة لي والعمال والفنيون وسلمت الميناء لمدير المشروع والجميع سعداء من سرعة الإنجاز.
رجب المبروك زعطوط
2012/11/10م
البقية في الحلقات القادمة …
No comments:
Post a Comment