بسم الله الرحمن الرحيم
في احد الايام في منتصف السبعينات من القرن الماضي صديقي الاستاذ المحامي عبد الحفيظ الدايخ من مدينة البيضاء، عرفني على احد حرفاءه السوريين، الذي كان له سوء تفاهم مع كفيله الليبي حول بعض الامورالخاصة ويريد ان يتركه ويحتاج إلى كفيل آخر للعمل كمقاول من الباطن وبرفقته ابناؤه المهندسين، وإقامة الجميع في مدينة البيضاء مع عائلاتهم. مما أعجبني الامر حيث جاهزين للعمل الفوري ، وأستطيع عن طريق مؤسستي التسجيل الرسمي في إدارة الجوازات والحصول على إقامات تتيح لهم البقاء والعمل في ليبيا والتحويل المالي عن طريق المصارف .
وافقت نظير اشتراط عدم الدخول في متاهات مع الكفيل السابق وتكوين شركة جديدة لإتاحة الفرصة للرجل وأولاده العمل الحر وأن يكون هو شخصيا طرفا فيها شريكا حتى يتابع الامور القانونية وإدارة الشركة في البيضاء حيث والده (الله يرحمه) من اعيانها وله علاقات جمة كثيرة مع المسؤولين وسوف يوليها الاهتمام والمتابعة اليومية ، فلست بقادر على المتابعة والمراجعة وخاصة انني كنت دائم السفر ومهما كان عندي من محاسبين وأعوان ثقات. حيث أؤمن بالعمل الجماعي يدا واحدة.
حاول الاستاذ عبد الحفيظ التملص بحجج واهية وانه لا يرغب بان يكون شريكا في اعمال مقاولات، بل التركيز على المحاماة، ولكن نظير الإصرار من طرفي وافق وكانت الموافقة بداية السعد والنجاح في الاعمال والثراء حيث غيرت مع الوقت مجرى حياته! بعد ايام قام باحضار المقاول وأولاده إلى البيت في درنة يوم جمعة عطلة نهاية الاسبوع بعد العصر، بناءا على اتفاق مسبق بالهاتف، في زيارة تعارف وكانت اول مرة اشاهد الرجل السيد ابراهيم بيتنجانة وأولاده الشباب مارسيل وموريس... وتم الاتفاق على جلسات اخرى للنقاش والحوار عن العمل معا ووضع الخطوط الاخيرة للمشاركة في شركة مقاولات تضم الجميع بحصص ملائمة كل حسب مجهوده والراسمال الذي يودعه في حساب الشركة الجديدة المزمع إنشاؤها .
واعجبنى الرجل حيث قال بصراحة انه ليس لديه الرأسمال الخاص به وبأولاده في الوقت الحاضر ولا بسوريا ولكن لديه العقل والتصميم المعرفة والخبرة وانه متأكد من النجاح في فترة بسيطة وسوف يثبت ذلك في حالة الشراكة ... مما تغاضيت عن الإصرار في دفع حصته طالما كل العقود تحت إشرافنا نحن الليبيين حيث حسب القانون الليبي الأجانب غير مخولين بالتوقيع الا ضمن شروط كثيرة تحتاج لموافقات وإلى وقت طويل وقتها.
والجلسة الثالثة ظهرت للنور شركة الهلال للمقاولات ومقرها الرئيسي مدينة البيضاء ، واللقاء الرابع تم توقيع العقد لدى محرر العقود في درنة ، وكنا محظوظين جداً حيث تحصلنا على عدة مشاريع ضخمة وقتها بمدينة البيضاءً من البلدية التي كان يرأسها وعميدها السيد عبدالله بوسلوم اذا لم تخني الذاكرة فقد مر وقت طويل على ذلك ، نظير علاقات ومعرفة مع الاستاذ عبد الحفيظ.
كان لدي امر تكليف مستعجل من إدارة الأشغال العامة للجيش بتنفيذ اعمال انشاء وتنفيذ معسكر جديد في منطقة البومبه ، وحيث ان الامر مستعجل وسرعة الانجاز فقد وزعت الأشغال العسكرية الاعمال على مجموعة آخرين مقاولين السادة ونيس صوان والصابر مجيد والحاج علي النايض ومؤسستي ... وقررت إسناد حصتي إلى الشركة الجديدة شركة الهلال الجديدة كمقاول من الباطن تشجيعا لها حيث في البدايات ، وكان من احسن الاختيارات حيث شريكنا الجديد السيد ابراهيم بيتنجانه وأولاده المهندسين مارسيل وموريس معا ، اثبت وجوده فعلا وصدق في كلامه وتعهداته فقد كان حازما جازما في قراراته وسريعا في التنفيذ ، وقام بتنفيذ المرحلة الاولى في الوقت المحدد ستة اشهر حسب العقد .
نظير العمل المتقن والسرعة قبل المقاولين الاخرين الذين تأخروا في التنفيذ سنة اخرى، تم التكليف بعمل الأرضيات لساحة الدبابات الكبيرة بالخرسانات المسلحة لضمان عدم التشقق من مرور الأحمال الثقيلة المجنزرة عشرات الأطنان التي تتطلب دراسات خاصة في التصميم.... وعند استلام الخرائط والدراسة الجيدة الهندسية لاحظ المهندس ابراهيم وأولاده ان سمك الخرسانة المسلحة غير كافي وضروري من الإضافة لتحمل مرور الاحمال الثقيلة والتصديق عليها من عدة مكاتب هندسية استشارية حتى اضمن التنفيذ السليم ولا ادخل في مشاكل وبالاخص مع الجيش ، الذي مهما كان للمقاول حقوق ثابته لا يعتد بها الجيش حتى ولو عن طريق القضاء لا يستطيع التنفيذ تحت اي ظرف ، ولا اريد المغامرة، وضياع الوقت والمال والمنع من الحصول على الاعمال المستقبلية .
وكانت اللوائح تنص فى حالة أية أخطاء في التصميم للخرائط ، من الضروري على المقاول ان يقوم بتنبيه إدارة الأشغال العسكرية صاحبة المشروع بخطابات رسمية موقعا عليها بالاستلام قبل التنفيذ او يكون مسؤولا مسؤولية كاملة عن أية خسائر مستقبلية ، في حالة عدم احترام الإجراءات السليمة.
وقدمت الالتماس للضابط المسؤول على المشروع بطبرق بالموافقة على التعديل ، وللأسف كان جاهلا لا يفهم واعتبر الموضوع غير سوى حيث ذاك الوقت الجيش في اوج الزهو والغرور ، كيف لمقاول مدني ان يطعن في مهندسي الجيش الذين صمموا الخرائط؟ ودخلت في حرب خفية معه لاسباب كثيرة لا اريد شرحها اهمها العنصرية وعدم دفع المستحقات في وقتها وتعطل المشروع حتى البت الرسمي.
واتصلت بمدير الأشغال العسكرية الضابط المسؤول عن المنطقة الشرقية في مدينة بنغازي وكان من منطقة قمينيس لا اذكر اسمه الان والله يسامحه فقد كان إنسانا متفهما ومحترما ، ولا يريد تعطيل المشروع ، وطلب مني توثيق الامر رسميا من 2 مكاتب استشارية خاصة بالأعمال الهندسية معتمدة ، للتوقيع والاعتماد مما نفذت الامر.
تحصلت على الموافقة الشفهية ، ومن جهته حتى يخرج من المسؤولية ، وجه الامر رسميا الى طرابلس المكتب الرئيسي للأشغال العسكرية للبت في الامر والاعتماد ،كتسلسل إداري مما زاد جنون الجاهل في مدينة طبرق الضابط المسؤول اننا تجاوزناه ، وحدث صراع خفي وضاعت الموافقة الرسمية في الطريق وسط المتاهات والمراسلات العديدة نظير الادارة الفاسدة .
تم التنفيذ حسب المواصفات والزيادات فى شهرين من العمل المضني طوال الوقت الليل والنهار تحت إشراف المهندسين من الجيش ، وقدمت المستخلص للدفع وافاجا بالخصم والطعن من مسؤول طبرق في زيادة سمك الخرسانة المسلحة مما احدث فارقا تسبب في خسارتنا لمبلغ كبير بمئات الالوف من الدينارات ، وقتها كانت مبلغا كبيرا ولم تستلم الشركة دينارا واحد منذ ذاك الوقت ، الله تعالى يجازي من كان السبب.
الإجراء المتبع في تسليم المشروع يتمثل في إرسال خطاب رسمي للجهة الرسمية للإستلام في حدود 15 يوم، مما وقعت الخطاب بعفوية حيث مازال بعض الوقت لقدوم اللجنة ، وأفاجأ باليوم الثاني وصول اللجنة نظير الصراع الخفي لإفشال شركة الهلال التي كنت على رأسها ، إلى بهو الضباط بمعسكر درنة على ان يتم الاستلام اليوم الثاني الساعة الثامنة صباحا بمقر المشروع! تم استدعائي للحضور حوالي الساعة الثالثة ظهرا إلى المعسكر في درنة للاتفاق مع اللجنة على التسليم مما حضرت وكنت خالي البال وقمت بعزومة المجموعة لمأدبة عشاء بالبيت حسب العادة ، وخرجت من اللقاء ، وأبلغت العائلة بتحضير وليمة العشاء للمجموعة الكبيرة ، ورأسا إلى المشروع الذي يبعد مسافة حوالي الساعة شرق درنة وكم فوجئت ان اللمسات الاخيرة وبالأخص تغطية مخازن الذخيرة تحتاج إلى كميات كبيرة من الردم بالأتربة والتسوية مما جننت واصريت على استكمال العمل طوال الوقت الباقي إلى صباح الغد لإنهاء الاعمال الناقصة قبل وصول اللجنة للمحافظة على الوعد وتحديا لأعداء الخفاء في الصراع! ولسرعة الانجاز ضروري من تشجيع طاقم العمالة بالموقع الذين كان عددهم حوالي 220 فردا من فنيين وسائقين للآلات وسيارات النقل الثقيل والعمال وملاحظين للإشراف على العمل المضني طوال الليل ، وضعت لهم حافزا قويا ومكافئة ضخمة دفع مرتبات وأجور شهر اضافي للجميع كل حسب مستحقاته في حالة العمل الفوري والتسليم اليوم الثاني للجنة مما قبلوا التحدي ووافقوا على العمل.... تم شحن من موقع درنة الرئيسي عدة الآت جرف إضافية (كواشيك) وإرسال العديد من سيارات النقل الثقيل للمساهمة في سرعة الإنجاز للعمل حتى الانتهاء ، ووصلت إلى البيت قبل وصول الضيوف بقليل للإستقبال ، وكانوا مجموعة ثمانية ضباط من رتب متفاوته برئاسة مدير فرع بنغازي ، وتم العشاء الجيد من كل مالذ وطاب والسهرة الجميلة في تناول أكواب الشاي الاخضر والأحمر والمرطبات والفاكهة ، وودعت الجميع امام البيت منتصف الليل.
وغادرت إلى الموقع بدون نوم ولا راحة حيث في صراع وتحدي مع النفس ومع الآخرين سواءا رفاقا ام اعداءا حاقدين وحاسدين في الخفاء ، ووصلت إلى هناك والاضواء تسطع في الموقع من جميع الاتجاهات وكأنه ضوء النهار وحركة العمل في أوجها والجميع ينشدون ويغنون ، وقضيت طوال الليل في المتابعة حتى سطوع شمس اليوم الثاني واللمسات الاخيرة فى التسويات والنظافة للموقع من المخلفات.
حوالي الساعة الثامنة حسب الموعد وصلت اللجنة للموقع مما قدمت لهم وجبة فطور شهية حتى يتعطلوا بعض الوقت وبعدها قمنا بإجراءات التسليم وكان المعسكر كبيرا يحتاج إلى جهد في المشي ومراجعة للمباني العديدة ، وآخر شئ للاستلام كانت مخازن الذخيرة حوالي منتصف النهار.
مما شاهدت الدهشة الشديدة على الوجوه من سرعة الإنجاز في الليلة الماضية ، واحدهم بالمقدمة بدون شعور وهو يسجل الملاحظات ردد كلمات وقال: "هنيئا لك ياحاج على العمل هل معك جنون من العالم الآخر يعملون في الشركة ؟بالأمس حضرنا وتفقدنا المشروع وغير جاهز للاستلام ، ولدينا اوامر باللوم في حالة عدم الاستلام... والآن منتهية وكاملة" ... وكان الرد بفضل الله تعالى وسواعد الرجال وحسن الادارة ، مما تم الاستلام للمشروع مع وضع ملاحظة بسيطة ان الردم للمخازن تمت بالليل وبدون حضور المهندس المشرف من قبل الأشغال العسكرية مما لم تكن ملاحظة مهمة حيث أتربة وردم فقط وليس أعمالا خرسانية تحتاج إلى موافقات بالبدء مثل العادة .
اوفيت بالعهد والوعد ودفعت للجميع مستحقاتهم مع المكافئة ، الذين قاموا طوال الليل بالعمل وبذل الجهد والعرق حتى تم الإنجاز ،مما كلفتنا المغامرة الكثير من المال ، ولكن في سبيل التحدي والفوز والنجاح، كل شئ يهون حيث الانتصار والفوز على الخصوم بشرف ، له ثمن كبيريحتاج إلى شدة وقوة عزم في القرار ، والله الموفق .
رجب المبروك زعطوط
البقية في الحلقات القادمة...
No comments:
Post a Comment