بسم الله الرحمن الرحيم
شاهد على العصر
31
المرحوم الحاج / المبروك زعطوط |
واصلت في الطريق إلى الإسكندرية و لم أدخل مرسى مطروح التي كانت في طريقي فالمدينة كانت بالداخل على الشاطئ في ذاك الوقت لأنني كنت مستعجلاً ، حيث سقط الخرطوم الصغيرالداخل بمثانة الوالد ليساعده على التبول أثناء الطريق بعد بلدة "السلوم" ولم يقل لنا نتيجة الخجل و التكتم ، حيث إنسد مجرى البول وبدأ الوالد يتضايق من الضغط الناتج عن عدم القدرة على التبول ، ومد يده على كتفي وقال أسرع … وكان من عادته لا يحب السرعة وعرفت بالبديهة أن الأمر خطير وأسرعت في الضغط على البنزين وقدت بسرعة عالية على الطريق تقارب 200 كم بالساعة والحمد لله تعالى دخلت إلى الإسكندرية ولم نقم بأي حادث سير وبالأخص في المدخل حيث هدأت السرعة كثيرا فقد كان الزحام كبيراً …
رأسا إتجهنا إلى المستشفى حيث وقفت أمامه في موقف الإنتظار وطلب بالإسم أحد الممرضين الذين قاموا بعلاجه وخدمته عندما اقام هناك في المرة الماضية … ولحسن الحظ كان موجودا وجاء بسرعة وأسعفه وركب الخرطوم مما أرتاح وتبول في زجاجة خاصة بالبول ونحن وقوف بعيدا عن الرؤية منعا للإحراج …
بعدها ذهبنا وأقمنا ليلة في فندق فخم عتيق منذ أيام الملك فاروق يشرف على البحر في محطة الرمل إسمه " سان إستفانو ،، على ما أعتقد فقد مرت مدة طويلة ، وبدأت الإتصالات مع المهندس عبد الجيد الصافي الذي يعمل معي في درنة ، فقد كان متواجداً في القاهرة في إجازة شهر رمضان والعيد وتم الإتفاق بأن يلاقينا في الغد بمدخل القاهرة على الطريق الزراعي ، كما حضر أيضاً إبن أختي " حمد الجاضرة " الطالب في كلية الطب بالإسكندرية والذي كان بالسنة النهائية حتى يتخرج ويصبح طبيباً لزيارتنا و زيارة الوالد ، جده ، وبعد العشاء أصر أن يرافقنا إلى القاهرة وحضور العلاج للجد .
اليوم الثاني سافرنا إلى القاهرة وكانت رحلة جيدة ووجدنا المهندس عبدالجيد في الإنتظار وركب معنا ورأسا إلى المستشفى العسكري بالمعادي وكان وقتها خاص بأكابر القوم والمسؤولين الكبار في الدولة وبه أرقى الأطباء والأساتذة ، وحاولت المستحيل لأجد للوالد غرفة ولكن للأسف محجوز وحاولت الإغراء والدفع الجزيل ولكن نفس القصة جميع الغرف محجوزة ولا يستطيعون تحت أي ظرف قبول مرضى آخرين جدد … وبعد محاولات وإتصالات عديدة لم أوفق ، وأقترح علي أحد المسؤولين الأطباء أن أذهب إلى المستشفى الإيطالي وسوف يقوم بالحجز لنا بالهاتف ، وفريق الأطباء من المعادي هم الذين سوف يشرفون ويعالجون الوالد مما وافقت على النصيحة والعرض …
وصلنا إلى المستشفى الإيطالي حوالي الظهر، وطلبوا منا القدوم الساعة السادسة مساءا حيث لا أماكن فجميع الأسرة محجوزة ، ولحسن الحظ أن أحد المرضى سوف يغادرعند العصر والوالد يأخذ مكانه ، وكان الطقس قائظ وأردنا أن نذهب إلى فندق لنرتاح ونأتي في الميعاد ولكن المهندس أصر على ضيافتنا في بيت أخيه الضابط بالقوات الجوية …
وصلنا لبيت أخيه وقابلتنا زوجته بكل الود والإحترام فقد كانت سيدة فاضلة وجهزت فراشا بأحد الغرف حيث إرتاح الوالد ونام ونحن نتسامر في الصالون وقامت بتجهيز غداء فخم جيد شهي وملئت الطاولة من كل ما لذ وطاب من الطعام فلها جزيل الشكر على الإستقبال الجيد وكرم الضيافة ، وجاء زوجها الضابط للبيت بعد إنتهاء دوام العمل وكم فرح بنا كضيوف ، وكان الرجل في قمة الأخلاق ، وتغدينا مع بعض وكم شعرت بأحساس روحي غير عادي بالألفة وصلات الأخوة وكأنني أعرفهم منذ فترة طويلة وبيننا ود وصداقة قديمة عائلية وشكرت الظروف والقدر لأنني تعرفت بهذه النوعية من البشر حيث لا يجد الإنسان كل يوم أناسا كرماء مثل هذه النوعية المميزة التي تشرف مصر …
وصلنا في الميعاد وكانت الغرفة جاهزة وإستقبل الوالد المريض بلطف من الراهبات الإيطاليات ، وكنت معه بجانبه ولم أتركه لحظة واحدة لوحده وعمل المهندس جميع الإجراءت والتسجيل ودفعت مبلغ مالي كبير تحت الحساب بالخزينة حسب طلب الإدارة ، وفي اليوم الثاتي تم الفحص من فريق من الأطباء وعلى رأسهم أستاذ ومساعده من مستشفى المعادي برتبة لواء مما إستغرب الكثيرون كيف يأتي مثل هذا اللواء إلى المستشفى حيث ليس من العادة حضوره ببساطة وهو أستاذ كبير مشهور في عالم الطب ، ولكن كنا محظوظين لعلاج الوالد نظير المعارف والدفع الجزيل .
بعد الفحص الدقيق وعمل التحاليل والتصوير الإشعاعي تقرر إجراء عملية جراحية لبتر السرطان منه بعد 3 أيام ، أما بالنسبة لنا فقد أجرنا شقة مفروشة قريبة من المستشفى الإيطالي وأقمنا ، ونظمنا برنامجاً بيننا نحن الأربعة بأن كل واحد فينا يقوم بمناوبة بجانب الوالد مدة ساعات ولا نتركه لوحده إلا الساعة العاشرة بالليل لينام بعد التخدير بالدواء حتى لا يحس بالألم الذي ينهش جسمه ، وتبدأ المناوبة من الساعة الثامنة صباحا ، وكنت أقضي معظم المناوبة معه ، والوالد كان سعيدا مرتاح البال وكان دائما يقول لي أنني تعبت بسببه ويطلب مني العودة إلى ليبيا لأتابع أعمالي المتشعبة التي تحتاج لوجودي على رأسها وكنت أرفض وأنني أفضل البقاء معه مما يبتسم …
في عدة مرات كان يطلب مني أن أذهب وأرتاح وأنام بالشقة حيث في بعض الأحيان شاهدني وأنا جالسا على الكرسي بجانبه أغالب النعاس من كثرة الإرهاق والقلق ، شبه نائم وهو يتحدث ببطء وينصح وأنا لا أسمع إلا القليل وبالأخص أثناء فترات القيلولة …
في يوم العملية لم أنم الليل من القلق على الوالد مخافة أن يحدث له أي مكروه أو أن أفاجأ بأي خطأ قد يحدث حيث إنتابتني هواجس شريرة بالنفس ، وتمنيت من الله عز وجل أن تمر الحالة والأزمة بالنسبة للوالد ومرضه على خير وأن أوفق في علاجه وأرجع به معافيا إلى مدينة درنة ، حيث لدي مسؤولية جسيمة ولا أريد يوما اللوم من العائلة ، أنني فرطت وتركت الوالد لوحده يعاني ، وأنا غير مهتم !
بالليل أوصاني الوالد بجميع ما في خاطره من أمور مهمة ، أوصاني بالحفاظ على الدين والإيمان بالعقيدة المحمدية "الإسلام " وعمل الخير ومساعدة الفقراء والمحتاجين حسب الإستطاعة وأن أحافظ على الإسم والأخلاق والقيم ، وفيا للوطن والرفاق المخلصين حتى الموت ، صادقا في الوعد والعهد ، دائما رافعا الرأس ، سواءا غنيا أم فقيرا محتاج ، ولا أمد اليد إلى أي إنسان مهما كان ، ولا أكون رخيصاً ولا منافقاً في سبيل مصالح دنيوية … أوصاني بقوة بإحترام الوالدة وإخوتي وأخواتي الكبار مهما يحدث منهم من أمور فأنا صغير السن ويجب علي أن أطيعهم وأتحمل حتى يرضى عني الرب تعالى وتمنى لي دوام الصحة والعافية والذرية الصالحة حتى يقفوا معي في الكبر والمرض كما وقفت معه ، ودعى لي دعوات صالحة في حالة تحدث له مضاعفات خطيرة .
بالصباح الساعة الثامنة كان جاهزا لإجراء العملية الجراحية وتمت الفحوص الأخيرة بكل الدقة والساعة العاشرة وضعوه على النقالة المتحركة ودخل لحجرة العمليات ونحن توقفنا وراء الباب الذي أغلق في وجهنا من أحد الممرضين …
عشنا لحظات قلق في الممر والصالة ونحن ننتظرعلى أحر من الجمر ، وبين الفينة والأخرى يخرج أحدنا إلى الحديقة يدخن سيجارة ويرجع … وإستمر الإنتظار ساعتين والنصف وخرج الطبيب اللواء وأسرعت اليه لأعرف الحالة ، وأخذني على جنب وقال : "لقد تركت الطبيب المساعد يهتم بوضع الأربطة وتضميد الجرح ، وبودي أن أقول لك الحقيقة المرة حتى تعرف كيف تتصرف … لقد فتحت بالمشرط موطن الألم تحت البطن ووجدت السرطان منتشراً في جميع أنحاء الجسم منذ فترة طويلة ، ولا أمل في أي علاج مهما كان بأي مكان بالعالم ، حيث السرطان أنثى على ما أعتقد ، مهما تزيل يبدأ وينتشر بسرعة مرة أخرى ، فلقد أقفلت الجرح وسوف نعطيك عينة تأخذها لمعمل التحليل إذا ما أردت التأكد من كلامي ، وأريد أن أصارحك يا إبني بأن لا تتعب وتتعب الوالد معك على أمل العلاج ورجوع الصحة ، حيث في نظري حسب توقعات الطب أن أيامه معدودة سوف يعيش أسبوعا أو عدة شهور فقط ولن يتجاوز السبعة ، والعلم عند الله تعالى ، ورأيي الشخصي أن ترجع به إلى بيته حتى يرتاح في فراشه وغرفته ويمضي بقية أيامه وسط العائلة " … وشكرت اللواء على الصدق والنصيحة الصادقة .
وقع علي هذا الكلام وقع الصواعق ولكن اللواء كان ممتازا ومميزا وصريحا حيث أعلمني بالحقيقة المرة ، فله الشكر والتقدير على الصدق وحتى وأن كان مرا فقد تقبلته بصدر رحب فلا مرده لقضاء الله و قدره … وخرج الوالد المريضعلى النقالة وهو مغمى عليه من أثار التخدير " البنج " وتبعناه حتى الحجرة حيث بهدوء ولطف وضعوه على السرير وخراطيم الدواء ملصقة بجسمه وزجاجة الدواء الكبيرة البلاستيكية معلقة على حامل بجانبه تمده بقطرات الدواء في عروقه وهو يئن من الألم بصوت خفيض مما جعلتني أرتعد خوفا عليه .
مددت يدي له لأغطيه بالشرشف الثاني الخفيف حيث كان يرتعد حيث بطبعه لا يتحمل البرد وطلبت على بطانية لتغطيته مما فعلوا بسرعة ، وفجأة مد يده وأمسك بيدي وكأنه يصافح بقوة ولم أتملص منها وأسحب يدي مثل العادة وجلست على الكرسي بجانبه ، وظل ممسكا باليد قرابة الساعتين حتى تقلصت وأصبحت يدي والذراع بدون حياة كأنها قطعة خشب مسندة حتى فتح أعينه وتطلع وشاهد قبضته ممسكة بيدي مما تبسم وترك يدي بصعوبة ، ودعى لي بدعوة خير طالبا من المولى الله عز وجل أن يباركني ويمنح يدايا القوة بأن أوفق في أي عمل شريف طاهر أضع فيه يدي بالفوز والنجاح ، وكانت الدعوة صالحة من قلب مؤمن طاهر وهو يصارع من أجل الحياة ، إستجابت لها السماء ونجيت من مصائب وكوارث ومحاولات إغتيال عديدة من نظام الشر والإرهاب السابق بإرادة الله تعالى خلال مدة 40 عاما حتى الآن من تاريخ العملية الجراحية مرت مرور الكرام .
اليوم الثاني أفاق من الإغماء وجلس بالسرير وكأنه غير مريض مما ذهل الجميع على التعافي بسرعة ، ولم نصدق الموضوع فشتان بين الأمس واليوم ، وحضر الكثيرون من الزوار من السفارة الليبية في مصر والمعارف من الإخوة الليبيون الزائرين والمقيمين الذين سمعوا بنبأ مرض الحاج الوالد والإخوة المصريين ، حيث نضاله وأعماله المجيدة والشهرة سبقته بمراحل أمامه . وكثرت باقات الزهور والورود بالتهاني على سلامته ، حتى إمتلأت بها الغرفة …
اليوم الثاني طلب مني إستقدام الحلاق ولبس زيه الليبي الجميل وتمنطق بالجرد الأبيض الحرير ومسك عكازه وكأنه ذاهب لحفلة عرس ، وطلب الخروج والجلوس بالحديقة تحت ظلال أحد الأشجار في قعدة جميلة ونحن حوله نتسامر ، وأصر أن أسافر إلى ليبيا لقضاء أعمالي ورفضت وعندها هزمني بالسلاح الأخير لديه القاضي الصاعق المدمر وقال إذا تريد الرضاء الكامل عنك والربح أن تسمع كلامي وتنفذ بدون رفض ولا مراوغة …
إستسلمت للأمر ووافقت فلا أستطيع الرفض وقلت له إن شاء الله عز وجل الغد سوف أحجز وأسافر عن طريق الجو وسوف أرجع خلال أيام ، حتى يتم شفاؤك وعلاجك وأرجع بك إلى ليبيا صحيحا معافى ، واليوم الثاني بالصباح الباكر ودعته على أمل اللقاء عن قريب ولم أكن أعلم الغيب وأنه سوف يكون الوداع الأخير حيث هو يمر بمرحلة سكينة وعدم ألم تحضيرا للنهاية والوفاة .
سافرت إلى أثينا حيث لدي عقد للتجديد مع شركة " هيراكليس " العامة لإنتاج الإسمنت ووقعته ، واليوم الثاني إلى بنغازي وأقمت في فندق عمر الخيام الفخم وقتها وكان يوم الخميس مساءا ، أنتظر وصول مهندس الكهرباء السيد جميل لويس فقد كان في القاهرة في إجازة شهر رمضان والعيد وتردد علينا كثيرا بالمستشفى وزيارات عديدة للوالد ، وكان لدينا عرض للتقديم في أحد المشاريع الكهربائية بمنطقة بنغازي جاهزاً نريد تقديمه والمشاركة فيه عسى أن يرسي علينا يوم السبت .
وحضر المهندس حسب الوعد مساء الجمعة وحجزت له غرفة بالفندق وكان بجسمه عدة خدوش بسيطة نتيجة تعرض سيارة الأجرة التي كان هو من ضمن ركابها من القاهرة لحادث على الطريق السريع قرب بنغازي حيث نعس السائق وخرج خارج الطريق وهو مسرع تفاديا للصدام مع سيارة أخرى مما إنقلبت السيارة رأسا على عقب عدة مرات ، وكانت سليمة ونجاة فريدة للجميع والرب ستر ، ولكن مازال متأثرا من المفاجأة والصدمة ، وطلبت منه الراحة واللقاء غدا الصباح الباكر في المطعم لتناول وجبة الإفطار حتى نضع اللمسات الأخيرة للعطاء ، مما وافق وغادر ، وبالليل في الجناح الذي كنت أقيم به تقلبت في الفراش ولم يغمض لي جفن وحاولت المستحيل للنوم ولكن بدون فائدة فقد أصابني أرق شديد …
لم أعرف السبب وراء عدم النوم والأرق فقد جافاني النوم و في آخر الليل والظلام حالك بالغرفة حيث الستائر الثقيلة مسدولة على باب الشرفة والنوافذ منعا لدخول أنوار الشارع ، وكنت يقظا سمعت صوت أجنحة ترفرف بقوة ، وإستعذت بالله عز وجل وجال بالخاطر أن طيرا حبيسا بالجناح الكبير حيث كان باب الشرفة مفتوحا على مصراعيه للتهوية قبل حضوري وأنا ألذي أحكمت إغلاقه أو أن يكون لصا متواريا وراء الستائر حيث معي حقيبة يد مليئة بالنقد مملوءة بها مبلغ كبير من المال ، ونهضت من الفراش بسرعة وأشعلت جميع الأنوار بالجناح وتحققت من وراء الستائر وأنا جاهز للصراع في حالة أية مفاجئات من لص !
لكن لا يوجد أي شىء وفتشت الغرفة تفتيشا جيدا والحمام وتطلعت تحت الأسرة وتأكدت من سلسلة الباب المغلق الموجودة في مكانها ولكن الحمد لله تعالى لايوجد شىء … وعرفت السر اليوم الثاني فقد كانت لحظتها خروج روح الوالد ووفاته وأنا لا أعلم ! وجاءت روحه ترفرف في الغرفة حيث أقيم تودع ، حيث بيني وبينه علاقة روحية كبيرة وحب وإحترام وتقدير ، فهو الأب الفاضل وأنا الإبن المطيع .
لم أنام بقية الوقت حتى الصباح ، وشعرت بإنقباض غير عادي ولم أعرف السبب ولا التفسير فأنا إنسان بشر لا أعلم الغيب …
رجب المبروك زعطوط
2012/11/3م
البقية فى الحلقات القادمة …
No comments:
Post a Comment