Tuesday, November 6, 2012

شاهد على العصر 32


                                              بسم الله الرحمن الرحيم

                                                شاهد على العصر

                                                       32 


جامع الصحابة بمدينة درنة ، ليبيا 
           أصابني الأرق الشديد ولم يغمض لي جفن طوال الليل حيث شعرت بأن أمراً مهماً  قد حدث  أو سوف يحدث وأنا لست على يقين مؤكد فقلبي دليلي ولي تجارب كثيرة كبيرة روحية من قبل حيث من عند الله تعالى في بعض الأحيان تمر بى مثل هذه الحالات من غير أن أدري وأفاجأ بعدها بأن شيئا كبيرا قد حدث … وبعد صلاة الفجر جهزت نفسي ونزلت إلى صالة الإستقبال بالفندق حيث جلست بالقاعة أنتظر  فتح المطعم حتى أدخل وأتناول وجبة الإفطار وأنتظر  قدوم المهندس جميل حتى يستيقظ ويحضر .

الساعة السابعة جاء المهندس وإستغرب وجودي بالقاعة جالسا ساهما أنتظر فليس من عادتي أن أنهض مبكرا ، إلا لظروف مهمة سواءا سفراً أم عملاً ، ودخلنا إلى المطعم  لتناول الإفطار معا ، وقلت له من خلال الحديث أنني مرهق حيث لم أنم طوال  ليلة البارحة ولدي هواجس كثيرة ولم أستطيع التفسير فقد كان البال غير خالي متوقعاً شيئاً قد حدث للوالد ! ورد علي وقال أرجو أن يكون الأمر خيراً ، ورتبنا الأمور وطلبت منه الذهاب إلى مكتب إدارة الكهرباء وتقديم العرض الخاص وعندما ينتهي سوف نلتقي  في محل الحاج محمد ، صهري ، في شارع جمال عبدالناصر مما وافق وخرج ، وذهبت أنا بعد أخذ الحقيبة اليدوية التي بها المال فلا أستطيع تركها بالحجرة ولا وضع المال بخزنة الفندق حتى لا تطالني الأعين وأصبح تحت المراقبة من أي جهة كانت 

مررت على البنك وأودعت المبلغ وتركت القليل للمصاريف وإرتحت من حملها والخوف من نسيانها في أي مكان وبالأخص في سيارات الأجرة نظير أمور عديدة عن عجالة لأي ظرف كان ينسي الإنسان نفسه ويتركها عفويا وتضيع وتصبح مصيبة كبيرة ، ومن النادر الحصول عليها مرة أخرى، فأولاد الحلال قلة في هذه الظروف الصعبة المادية الآن ، التي أصبح المال فيها صنماً شريراً يعبد من طرف قليلي الإيمان بالله  تعالى في هذا العصر الفاسد .

وصلت إلى محل الحاج وكان القيم المسؤول في غياب الحاج السيد علي موجوداً يحرس المكان ، وسألته أين الحاج ؟؟ وقال : "اليوم ذهب إلى مدينة المرج لبعض الأعمال الزراعية مع مدير المشروع السيد بشير جودة ، وسوف يرجع عن قريب "، وطلبت منه إحضار فنجان قهوة من المقهى القريب مما أطاع وذهب يلبي  طلبي.

كانت الساعة حوالي الحادية عشرة بالضحى جالسا بقرب المكتب عندما رن جرس الهاتف من القاهرة وكان السيد محسن أعمير من السفارة الليبية وطلب صهري الحاج محمد وعرفته بنفسي وتحاشاني وطلب هل أي أحد بالمحل وقلت له لا في الوقت الحاضر ، إلا العامل الذي الآن غائب يحضر القهوة ، وعندها قال بتأثر:"يؤسفني أن أخبرك بأمر مزعج وعليك أن تتجلد وتكون رجلاً في الوقت الصعب والأزمات" ، وقلت له ماالموضوع بالضبط حتى أعرف ؟؟ وقال البركة فيك الوالد الحاج المبروك توفي البارحة ، ونحن الآن نقوم بالإجراءات وسوف يحمل الجثمان على الطائرة الليبية ويصل إلى بنغازي في الليل 

رددت عليه بصوت أجش متأثرا من الخبر المزعج السيئ وقلت له ردا على التعزية حسب العادات والتقاليد الليبية " الله لا يغير عليكم " وأقفلت السماعة وجلست هامدا متأثر متأسفا على المرحوم الوالد ولمت النفس أنني لم أكن معه في اللحظات الأخيرة من عمره ولكن إرادة المولى الله عز وجل  والقدر أن يتوفى في الغربة لوحده 

بعد حوالي نصف الساعة إتصلت بأخي الحاج حسن بدرنة وقلت له الخبر المزعج ووفاة الوالد وعزيته ، وطلبت منه أن يعلم بقية العائلة وأخواتي وبالأخص أختي الموجودة بطبرق وأن يستعد ولا يرهقون أنفسهم بالمجىء إلى بنغازي لإستقبال الجثمان لأنني سوف أقوم بالواجب وأستقبل تابوت المرحوم بالمطار الليلة ورأسا بالبر إلى درنة .

ثم إتصلت ببيت الحاج محمد ، صهري ، وأبلغت الحاجة مشهية ، والدة زوجتي ، هاتفيا بالموضوع مما سمعت صرختها عندما سمعت بنبأ الوفاة ، وتذكرت حزنها على إبنها المرحوم عبدالسلام الذي توفي ودفن منذ حوالى 5 أشهر والآن عمها مما سوف يعم الحزن مرة أخرى على بيوتنا " آل زعطوط  " فعام 1972م أحد الأعوام الكبيسة على الأسرة جميعها لم نفرح فيها حيث خلال  الثلث الأول من السنة وفاة الشاب عبدالسلام وخلال الثلث الأخير وفاة الوالد الله تعالى يرحمهما ويغفر لهما 

حضر الحاج محمد ، صهري ، من المرج وأبلغته بالنبأ المؤسف الذي إنتشر مثل اللهب في الهشيم بسرعة ، وإستعدينا لإستقبال الجثمان وأجرت سيارة أجرة يقودها أحد الذين كان المرحوم الوالد له الفضل في العناية به  أيام الصغر " ج ع " مما تأثر جدا من الوفاة ، وقبل وصول الطائرة بساعة كان جمع غفير من المعارف والأصدقاء في الإنتظار بالمطار لإستقبال الجثمان القادم من القاهرة .

وصلت الطائرة ودخلت سيارة الأجرة حتى باب الطائرة حيث تم تنزيل الجثمان فيها والجميع يدعوا بالرحمة ونظمنا صفا من الأقارب والمعارف وكل من يرتبط بصلة دم للعائلة  حيث قبلنا التعازي ، وتقدمت السيارة التي تحمل الجثمان بأول الطابور وركبت بجانب السائق وطلبت منه أن أقود مكانه حتى ألبي الرغبة والواجب تجاه الوالد مما وافق السائق أن نتبادل القيادة حيث حسب قوله أنه يعتبر نفسه إبناً للمرحوم الوالد حيث تبناه فترة في صباه وشبابه عندما كان في حاجة لمن يساعده وينفق عليه .

تبعنا طابور من السيارات حوالي العشرة إلى مدينة درنة وكنا نسير بسرعة معتدلة لا تتجاوز 100 كم بالساعة وكل مرحلة نتوقف مما تأخرنا في الوصول وإستغرقت الرحلة من بنغازي إلى درنة أكثر من 4 ساعات حتى وصلنا حوالي الفجر وكان أمام بيتي حيث العزاء  العشرات ينتظرون قدوم الجنازة مما تعالى الصراخ والنحيب والندب من النساء الجاهلات مما نهرتهن بقوة بأن يراعين  الأصول ويؤمنن  بالقدر وبأننا جميعا سوف نموت يوماً من الأيام والمطلوب  الصمت وترك عادات الجاهلية الخاطئة التي كانت في العصور القديمة تحارب أمر وقضاء الله عز وجل بالصريخ والندب 

 مما سكتن عن الصراخ والعويل الغير لازم وبالأخص قرب الفجر والجيران نيام في الحي ، وطلبت من الجميع الدعاء بالرحمة للمرحوم ، ووضعت الجثمان في الصالون الكبير وأقفلت الباب من الداخل ووضعت فراشا بجانبه ونمت نوما عميقا عدة ساعات بدون سماع البكاء والنحيب من الجميع من الإرهاق والتعب .

أثناء النوم حلمت بالوالد وهو بلباس أبيض ناصع  يضحك سعيداً وحاولت الحديث معه ولكن إستيقظت على طرق على الباب من أحد المعارف المزعجين يريد قراءة سورة الفاتحة على الجثمان ولكن لم أهتم  وأفتح الباب إلا حوالي الساعة التاسعة صباحا حيث تركت الباب مفتوحا لأخوتي وأخواتي وبقية المعارف والجيران يودعون جثمان الوالد بالصلاة والدعاء له بالرحمة قبل الذهاب إلى المقبرة ومواراته في القبر بعد صلاة العصر حسب العادة .

قمنا بوضع برنامج عمل حيث الإهتمام الأول بإستخراج رخصة دفن بالمقبرة حيث بدون رخصة البلدية ، الخفراء لا يسمحون بالدفن مهما كلف الأمر ، ومجموعة أخرى أن تحفر وتجهز القبر والبلاطات الخراسانية والإسمنت للقفل النهائي ثم الردم بالتراب ، ومجموعة ثالثة لتهتم بإستقبال المعزين الضيوف من خارج المدينة وتقديم الشاي طوال الوقت والطعام في وقته ومواعيد الوجبات ، ومجموعة أخرى لتهتم ببرامج التغذية وتوفير المواد الغذائية للمئات كل يوم الوجبات الثلاث من فطور وغداء وعشاء ، حيث عاداتنا الليبية صعبة ومكلفة مقارنة بالدول العربية الأخرى 

قبل صلاة العصر نقلنا الجثمان سيرا على الأقدام إلى جامع الصحابة حيث التوديع الأخير من المصلين لصلاة العصر والذين لديهم أعمال ولا يقدرون على مرافقة الجنازة إلى المصلى في منتصف الطريق أو المقبرة .
وبعد إنتهاء صلاة العصر وصلاة الجنازة على التابوت من الجميع وطلب الرحمة وضع الجثمان بعربة نقل صغيرة يحفها الجميع والشوط الأول كان الفقهاء وقراء القرآن الكريم ، وكنت  من الذين يمسكون بالعربة من الخلف وهي تمشي رويدا ببطء على خطواتنا ونردد في أصوات الفقهاء جميعنا بصوت عالي " لا إله الا الله ، محمدا رسول الله " حتى وصلنا إلى أول مرحلة وهو المصلى الذي يبعد عن الجامع حوالي 2 كم حيث وضع التابوت في مكان معين وأقيمت الصلاة مرة أخرى ورجع البعض وإستمرت الجنازة حتى المقبرة الغربية حيث كان القبر محفورا جاهزا وقمت مع آخرين بدفن الوالد من غير أن نفتح التابوت المغلق بحضور جماعتنا ومندوبي  السفارة الليبية والسلطات المصرية .

دفن الوالد المرحوم بجانب قبر المرحوم عبد السلام مجاوراً له ووضعت " اللحائد والشاهد " وتم الردم بالتراب والرش بالماء ووضع أكاليل الزهور والتأبين وقراءة الفاتحة وإنتهت المراسم ورجع الجميع إلى أعمالهم أو بيوتهم ، ونحن رجعنا إلى بيت العزاء ، وبالمغرب إلى الجامع لتأدية الصلاة ، وبعدها وقوف جميع أفراد العائلة والأقارب في صف طويل وقبول التعازي من المئات من المصلين في الفقيد حتى تعبت من المصافحة والعناق ، وهذه العادة المتبعة بالمدينة تستمر ليلتين بعد صلاة المغرب من الدفن .

حيث العزاء للبعض من المشاهير يستمر فترة طويلة إلى يوم الأربعين من الدفن ، ثم وفود البعض بين الأحيان الغير عالمين من الأصدقاء لظروف ما … بأمر الوفاة والفقد وأهل الميت مضطرون لتقبل العزاء طوال السنة! وهذا الذي حدث لنا  مما إتفقت مع إخوتي أن يتفرغ أحدنا كل يوم ويقوم بالواجب ويبقى ببيت العزاء لإستقبال المعزين حتى يوم الأربعين حيث لدي أعمال متراكمة أريد إنجازها .

                                               رجب المبروك زعطوط

البقية في الحلقات القادمة 

No comments:

Post a Comment