Thursday, November 8, 2012

شاهد على العصر 34



بسم الله الرحمن الرحيم

شاهد على العصر 

34 


          إستمر العزاء فترة وبعدها مع الوقت بدأ يخف قدوم المعزين إلا من بعض الاحيان حيث يأتي البعض الذين ليس لديهم العلم من خارج المنطقة أو الغائبون في الخارج  وكنا نقوم بالواجب كما تتطلب العادات والتقاليد المحلية المتبعة في محيطنا بالمنطقة ، وكم تعلمت وشعرت بالفخر والزهو  وأحسست بمدى أهمية الوالد المرحوم أنه ترك لنا ذكرى جيدة بإذن الله تعالى ستبقى خالدة في أذهاننا وأذهان الأجيال القادمة من الأحفاد والمعارف ، حيث كنت بالسابق لا أعرف الكثير 

حيث الكثيرون من كبار السن من رفاقه أو الذين سمعوا من آبائهم المجاهدين عنه  أثناء سهرات ليالي العزاء حكوا لنا حكايات عن مواقف عديدة وبطولات قام بها الوالد في النضال أيام الغزو الإيطالي ، حيث الكثير من التفاصيل لا نعرف عنها أي شئ 

مما أنا شخصيا سعدت كثيراً أن المرحوم والدي كان بطلاً مجاهداً حيا يرزق بجانبنا طوال الوقت  ونحن لا نعرف أنه كان  جنديا مجهولاً عمل حسب قدراته وجهده وخاطر بنفسه ووضع حياته مرات عديدة  بين  كفيه في مغامرات صعبة مثلاً عندما كان ينقل السلاح والمواد الضرورية الطبية والطعام مع رفاقه الأبطال إلى معسكر ثوار بومنصور "الدور"  القريب من مدينة درنة والمعسكرات الأخرى بالمنطقة ويقوم مع جماعته بالسطو على مخازن العدو والإستيلاء على السلاح وبالأخص الذخائر في سبيل الدعم للثوار حتى يواصلوا القتال 

كما حكوا عن توصيل الرسائل والأوامر المكتوبة والشفهية  من الأمير إدريس بالمنفى في مصر إلى القائد عمر المختار بالجبل الأخضر حيث مهمته الرئيسية الخطيرة التوصيل إلى درنة وتسليمها بالسر والخفاء إلى أبطال آخرين أمثال الشيخ سليمان بن خيال والشيخ  رويفع قاطش الذي كان أعمى فاقداً للبصر مفتي مدينة درنة خلال العهد التركي الثاني في ليبيا  الذي لا يشك فيه أي أحد من الوشاة وأعوان المستعمر حتى يبلغوا عنه ويورطوه في العمل السري بالطابور الخامس … والسيد علي باشا العبيدي بطل من الأبطال القليلين في مدينة درنة حيث نظير علاقاته مع بني عمومته من قبيلة العبيدات "أخوة الجد "  عضو في شبكة خطيرة وطنية  في التوصيل والإستقبال للرسائل والمعلومات التي قوضت ظهر العدو في العمل النضالي السري تحت الأرض في المنطقة الشرقية  وجعلت المستعمر يتخبط في البحث المستمر في أرض الوطن عن هوية هؤلاء العملاء الخونة في نظره!

إنني مهما كتبت لن أستطيع الوفاء ولا التمجيد ووضع هالات الفخر النابعة من القلب والضمير حبا من الأعماق  والنفس لديننا  الإسلامي الحنيف الذي يأمر بالتقوى والعدل والمساواة وحب الوطن والدفاع عنه بالروح والدم من أي عدو يريد أن يغزوا ويستعمر ، ليس للوالد المرحوم فقط ، ولكن لجميع الأبطال المغمورين والشهداء الجنود المجهولين الذين قدموا حياتهم لقاء المبادئ والذود عن الدين الذي هو الأساس لحياة المؤمنين  والوطن ليبيا 

المستعمر الإيطالي كانت لديه مخططات رهيبة لإبادة السكان المحليين والتهجير للصحراء بطرق همجية غير إنسانية لا يرضاها الشرع ولا الأديان السماوية ولا القوانين الوضعية  بوضع إخوتنا البادية والبعض من الحضر  القاطنون خارج المدن في معتقلات في الصحراء  سجناء حتى يموتون من القهر والعذاب النفسي  والجوع وتفشي الأمراض الصعبة التي ليس لها العلاج  ولا المستعمرون مهتمون بالعلاج لهؤلاء الضحايا الأبرياء  حتى يموتوا ويذوبوا ويتلاشوا مع الوقت والزمن …   ومعتقلات "البريقة والعقيلة" شواهد تاريخية ستظل إلى ماشاء الله عز  وجل مسجلة في كتب التاريخ عبراً لكل من يبحث من الدارسين.

أما سكان المدن فقد تم إغرائهم بالتنصير وترك الدين الإسلامي لقاء العيش والوصول إلى مراكز ووظائف محلية بأجور ومرتبات مغرية وجاه زائل ، لو نجحت هذه الدراسات  والمخططات من أساطين وأساتذة الشر من جنرالات الفاشية ومستشاريهم  لإنتهت وزالت  ليبيا العربية الإسلامية من على الخريطة وأصبحت الشاطئ الرابع لإيطاليا! لو تحقق هذا الأمر لأصبحت مأساة رهيبة وكراهية بين الشعوب المسالمة  كما يحدث الآن في فلسطين وكشمير وجبل طارق ومدن "سبته ومليلة" بالمغرب ، حيث الشعوب تطالب والمستعمرون يرفضون المطالب ، ونسوا وتناسوا أن الحق لا يضيع مهما طال الزمن ، طالما إنسان واحد يطالب ، وليس شعوبا وجماهير تطالب بالعدل والمساواة وترجيع الحق إلى أهله الأصليين .

لكن الله تعالى القدير حي  موجود ، لا يريد غياب نور وضياء الإسلام عن ليبيا مهما عمل المستعمرون من دس ودسائس وحيل ، ليبيا عربية إسلامية وستظل راية الإسلام ترفرف عليها عالية طوال القرون والعصور القادمة إلى ماشاء الله تعالى وقيام يوم القيامة .

سافرت في عمرة إلى الأراضي المقدسة وكانت الزيارة برفقة السيد " م ف ب " في شهر رمضان المبارك ، حيث وصلنا وأقمنا في فندق الفتح الذي أزيل بعدها بسنوات عديدة وضمت أرضه لساحة مسجد بيت الله تعالى الحرام وقضينا أياما رمضانية ونحن صيام في رحاب الله تعالى ونحن ضيوف الرحمن ، وكنا نسهر طوال الليل حتى صلاة الفجر وبعدها النوم العميق إلى الظهر حيث نقوم لصلاة الظهر بالمسجد ونرجع للراحة حتى صلاة العصر وبعدها البقاء بالمسجد وتلاوة القرآن الكريم أو الإنضمام إلى أحد الندوات لسماع أحد الشيوخ العلماء الفطاحل في إلقاء محاضرة دينية تشرح الكثير من المعلومات التي في كثير من الأحيان غائبة عن الأذهان ، ونعتقد أننا نطبق السليم والواقع أننا مخطئون في الكثير من الأمور عن جهالة وليس بقصد .

كانت لدي هواية وعادة حافظت عليها خلال الزيارات العديدة بعدها للحج  عندما كنت متمتعا بالصحة والشباب فتيا ، عند مشاهدة الكعبة الشريفة أقوم بالطواف حولها حسب الأمر الإلاهي سبعة مرات ، وكنت أستمر في الطواف سبعة مرات كاملة بحيث يصبح العدد 49 مرة مما ترتاح النفس ويغمرني شعور روحاني ونور مشع  بالنفس لا أعرف من أين يأتي  

أذكر أحد الأمور المستعصية التي شاهدتها بأم العين في ليلة 27 رمضان بعد الطواف حتى الآن مهما عصرت الفكر لم أجد لها التفسير والتحليل حيث شاهدت حاجا ضخم الجثة عملاق  وزنه لا يقل عن 150 كغ أبيض البشرة مع إحمرار ، لابساً سروالاً أبيض فضفاضاً ومتمنطق في وسطه بحزام عريض أحمر من القماش "شملة" وبقية جسمه من البطن إلى أعلى عريان ذو شعر كثيف بالصدر والذراعين ذو أثداء بارزة متهدلة تتحرك من خطوات سيره  واضعاً على رأسه موقد نار "كانون" يتصاعد منه البخور يطوف على الكعبة ويبحر فيها بدون ملل ولا كسل ولا توقف ، وذهبت إلى الفندق والسمر مع بعض الحجاج وشرب الشاي الأخضر الليبي ورجعت بعد  حوالي الساعتين إلى الساحة وشاهدت الحاج العملاق  مازال يطوف ويبخر الكعبة وقررت التوقف والمكوث بجانب مقام سيدنا إبراهيم عليه السلام حيث كانت البداية والنهاية وقلت للنفس مستغربا كيف أنا الشاب القوي أطوف 49 مرة بصعوبة ، وهذا الحاج العملاق بدون توقف طوال الوقت؟؟ ألم يتعب وينتابه الإرهاق والإعياء؟؟

فجأة تلاشى ولم أشاهده بالمرة وسط الجموع الغفيرة من المعتمرين الحجاج  وكأن الأرض إنشقت وإبتلعته وقلت للنفس سبحانك رب العالمين أكيد هذا العملاق ليس بإنسان بشر ، ضروري أن يكون من رجال الله عز وجل من طينة أخرى أو ملك من الملائكة في صورة إنسان بشر ، ولولا أنني لم أشاهد بأم العين المنظر والطواف طوال الوقت لما صدقت!  سبحانك رب العالمين أنت القادر وأنت المعين جعلتني أبصر وأطلع على أمر كبير 

حالة أخرى حدثت وكان معي في الطواف الأخوة المعتمرين السادة  " ع ش " والآخر الأستاذ "ع وش"  والثالث لا أذكر إسمه الآن ، حيث كنا نطوف حول الكعبة وفجأة سقطت شابة حاجة مصرية على الأرض من الزحام الشديد وأمها العجوز معها غير قادرة على الصراخ والعويل في المقام الجليل وكنا نحن الثلاثة وراؤها بصف من البشر مما توقفنا بقوة وزاد الضغط علينا ولكن في لحظات أتحنا الفرصة للحاج " ع ش " حيث قام مشكورا بإنحناءة شديدة ورفعها على كتفيه وهي ترتعش من الخوف والرعب تحاول أن تتنفس من الزحام وخرجنا من الدائرة  ووضعناها بأحد الجوانب مقابل الكعبة وحاولنا إسعافها قدر الإمكان ورشينا بعض الماء من بئر زمزم عليها حتى أفاقت من الصدمة وحاولت والدتها أن تعرف من نحن  وأسماؤنا! ولكن رفضنا بشدة وقلنا لها نريد منك دعوات صالحة تفيدنا يوماً من الأيام … وقامت العجوز وتوجهت للكعبة التي بعيدة عدة أمتار عنها ورفعت يديها إلى الله عز وجل  ودعت لنا دعوات صالحة من أم عجوز كادت تفقد إبنتها أمام عينيها من الزحام .

رحلة العودة كانت توفيقا من الله تعالى حيث لا توجد أماكن لنا تحت أي ظرف مما سوف نضطر لقضاء العيد وعدة أيام أخرى في الإنتظار حتى نتحصل على مقاعد وكان بالفندق معنا مجموعة من المعتمرين أحدهم عضو مجلس قيادة الثورة "مصطفى الخروبي" وكانت فرصة لنا حيث سلمنا عليهم وتقدم رفيقي "م ف ب" وقال لا توجد أماكن بالطائرات للحجاج المعتمرين الليبيين  لنرجع للوطن ونقضي العيد مع عائلاتنا مما تعاطف معنا وقال سوف أعمل جهدي و في اليوم الثاني أبلغنا بأن نجهز قائمة بالحجاج الذين يريدون العودة إلى ليبيا وبعد الغد أخر يوم بشهر رمضان سوف تأتي طائرة  لنقلنا إلى بنغازي ، مما وزعنا الخبر وقمنا بإعداد القائمة اليوم الثاني 

في اليوم الثالث كنا حوالي مائة حاج جاهزين في مطار جدة حيث وصلت طائرة جديدة للخطوط الليبية وأقلتنا بدون تذاكر إلى الوطن في رحلة خاصة!

وصلنا إلى مطار بنينا وقت المغرب والحراس يتناولون طعام الفطور مما دخلنا بدون صعوبات ولا تفتيش  من الجمارك لأي حقائب او أمتعة حيث رحلة خاصة من الدولة  ونحن قادمون من بيت الله الحرام ، وأخذت سيارتي الموجودة في محطة الإنتظار بالمطار وبسرعة إلى مدينة درنة حيث كنت الساعة العاشرة في البيت مع العائلة ليلة العيد ، وبعدها أكملت السهرة الأخيرة لشهر رمضان مع الرفاق حتى الواحدة صباحا.

                                                                  رجب المبروك زعطوط 


البقية فى الحلقات القادمة  


No comments:

Post a Comment