بسم الله الرحمن الرحيم
شاهد على العصر
41
ذهل الحاج يوسف من الإستقبال الجيد وكيف كانت الرحلة منذ البدايات ميسرة وسارة وتغلبنا على جميع الصعاب بسهولة حيث الله عز وجل فتح جميع الأبواب الصعبة حتى تمكنا من إجتيازها ، وكان الرجل الرفيق له أحاسيس بالفطرة وشعرت كم هو طيب ليس به أي نوع من أنواع الخبث وقلما الإنسان في الحياة العملية يتعرف بنوعيات مثل هذا الإنسان الصادق الطيب الذي لم يلوث بعد بصخب الحياة ورفاق السوء .
لم يكن لدينا مطوف حتى نقيم في معسكره في جبل عرفات وتوكلنا على الله تعالى وسرنا المسافة من مكة المكرمة حتى الجبل سيرا على الأقدام حتى أرهقنا من التعب فقد كان الطقس قائظاً في الليل من كثرة الأنوار وكأننا بالنهار ، وهناك شاهدت عربة حافلة كبيرة معطلة خردة مرمية تحت أحد الجسور العالية ، وقلت للحاج يوسف هذا فندقنا وسوف نقيم هنا مثل بقية الحجاج الفقراء …
أعرف المنطقة جيدا في حالة الضياع ، إذا حدث أي شئ لأي ظرف غير متوقع وإفترقنا ، هنا نقطة اللقاء ، وقال أنه يريد أن يشتري بعض الطعام حيث نحن جياع ، وأعطيته بعض المال للشراء ، وقلت له لا تكثر فلن نستطيع الحمل في الزحام… أحضر تمرا ولبنا وماءا فقط لأن الصعوبة أيامها في قلة المراحيض في حالة الإنسان يريد بسرعة أن يذهب للحمام عليه الإنتظار فترات طويلة حتى يتحصل على دوره ليقضي حاجته ويرتاح .
ذهب الحاج يوسف للشراء وبدأت أتطلع إلى عشرات الآلاف من الخيام وكلها تتشابه وكأنها طلبية من مصنع واحد في اللون الأبيض وعرفت السر حيث اللون الفاتح الأبيض أو الأصفر الخفيف " الكاكي " يعكس حرارة الشمس ولا تسخن الخيام بسرعة من الوهج المستمر طوال الوقت ليل نهار .
بينما كنت أتطلع حوالي لأعرف في أي إتجاه أسير ، فجأة حدثت المعجزة وتلاقيت بالصدفة مع الحاج فرج بوزيد وجها لوجه حيث الأمر غير متوقع وليس في الحسبان وصعب التعرف على أي حاج حيث الجميع باللباس الأبيض يتمنطقون بلباس الإحرام.
بعد السلام والتحية ، سألني الحاج أين أسكن ؟ وقلت له على باب الكريم ، ليس لدينا مطوف فقد وصلنا بالأمس إلى الأراضي المقدسة مما تهلل وجهه بالبشر وقال نحن نسكن هنا قريبا من هذا المكان مع الجماعة … وأهلاً وسهلاً تعال معنا وقلت له معي رفيق اخر ، وقال البيت يسع الجميع اهلا وسهلا ، وانتظرنا معا حتى وصل يوسف وعرفتهما على بعض ، وذهبنا معه إلى حيث يسكنون لنقيم مع الجماعة .
كانت الفرحة والسعادة باللقاء فقد كان بالخيمة الواسعة مجموعة كبيرة متكونة من عدة عائلات من درنة أذكر منهم الحاج محمود رافع وإبنه ، والحاج عثمان بوراشد وأمه ، وأختها التي كانت على ما أعتقد أرملة المرحوم حسن صداقة ، والحاج محمد بوزيد وزوجته وبناته وأحد أبنائه الكبار ، وعائلة الحاج فرج بوزيد ، والحاج صالح التاوسكي ، وقضينا معهم أجمل الأيام و منها يوم وقفة عرفات المهمة للحج ومن غيرها لا يعتبر الإنسان حاجا لأنها هي الأساس في الحج وزيارة الأراضي المقدسة…
بعدها قضينا الأيام الثلاثة في " منى " حيث الفرحة والهناء ورجم الشيطان الرجيم إبليس اللعين ، عليه اللعنة إلى يوم الدين وحدثت نوادر خلال الأيام الأربعة التي قضيناها معا فى الخيمة ، فقد رتبت الأمور بحيث الرجال كبار السن يرتاحون ونحن الشباب نقوم بجميع الخدمات من إحضار الطعام الناشف والمياه وأهم شئ ألواح الثلج وقتها لتبريد المياه ، وتقوم النساء بتجهيز الطعام .
كان لدى الحاج يوسف قميص فضفاض ذو خطوط كبيرة عريضة ذات لون أبيض والآخر أخضر وعندما يتسخ يلبس آخر ويغسله ويضعه على حبال الخيمة بالخارج ليجف في خلال وقت بسيط ويلبسه من جديد بحيث معروف به وهو الوحيد الذي لديه هذا النوع ، وكنت بالخارج أحضر ألواح الثلج ودخلت إلى الخيمة المظلمة نوعا ما ، وكان الحاج منا عندما يدخل يحتاج إلى عدة لحظات حتى يهتدي ويعرف من أمامه!
ودخلت حاملاً لوح الثلج الكبير ويداي تكاد تتجمد من الصقيع ووضعته بالآنية ليبرد الماء وتطلعت لجانبي ووجدت الحاج يوسف منحنيا يربط أشياء وأمامه فراش من البلاستيك وبكل بساطة خبطته بقوة على أكتافه ، ضربة مزاح من أجل التسلية وقلت ياحاج يوسف من أجل المداعبة والمزاح خذ هذه الضربة ، مما سقط على فراش البلاستيك والجميع يضحك من الموقف … وفوجئت أن الذي سقط الحاج العجوز محمود رافع وهو يقول لست أنا بيوسف ! وقلت له ياحاج سامحني لا أقصدك أنت ! وقال مسامح … ولكن أنت لابس قميص يوسف وقال مددت يدي خارج الخيمة لأتناول قميصي المعلق وأخطات فيه ولبست قميص الحاج يوسف بدلاً عنه ، مما ضحك الجميع من الموقف .
الطرفة الثانية الحاجة أم صديقي وأخي عثمان بوراشد كانت رغبتها الشديدة أن ترجم الشيطان مباشرة وليس من بعيد ، وكان المكان ضيقاً في منتصف السبعينات والزحام شديد وسعيد الحظ من يصل إلى الحافة للحوض ويرجم مباشرة ، وطلبت من إبنها عثمان الذي رفض حيث كان خائفا عليها من الزحام الشديد والضغط الرهيب الذي ممكن أن يحدث لها مضاعفات وتختنق أو تسقط وعندها النجاة صعبة من الدوس من عشرات الآلاف من البشر الذين مثل الفيضان المدمر يجتاح أي شئ أمامه .
وجدتها غاضبة لأنني سمعت الحوار وتدخلت في الموضوع وقلت لها لا تغضبي ، غداً بإذن الله تعالى أنا والحاج يوسف سوف نتعاون ونوصلك وتواجهين الشيطان وترجمينه مباشرة في الوجه مما إرتاحت من العرض وإطمأنت .
في اليوم الثاني عند الظهر حيث الشمس عالية يخف الزحام نوعا ما حيث معظم الجميع يرجمون الشيطان وقت الصبح أو بين العصر وقبل المغرب حيث الطراوة نوعا ما ، أما من الساعة الحادية عشرة حتى الثالثة عز الحر ، كان معظم الذين يطوفون حجاجاً من أفريقيا حيث متعودون على الحرارة ولا تفرق معهم ولكن في هذه الأوقات عندما يصاب الحاج بوكزة في أي لحظة عليه أن يتحمل الألم حيث الوكزات صعبة لأنهم ذوي صحة وقوة خاصة .
المهم وقتها كنا في عز الشباب وساعدني الحاج يوسف ووضعنا الحاجة بيننا وجاهدنا بها وهي سعيدة حتى وصلنا إلى حافة الحوض في مواجهة مع الشيطان ، ورمت الجمرات مباشرة وهي سعيدة فرحة أنها حققت أمنيتها ، اما بالنسبة لي فقد كنت طويلا وأصابتني عشرات حبات الحصايات حيث الذين ضعاف وبالصفوف الأخيرة ليست لهم قوة الذراع حتى تصل أحجارهم إلى الشيطان "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " وكأننا نحن المستهدفون! ولكن الرب الخالق يعرف وعالم بالأمر .
رجعت الحاجة إلى الخيمة وهي فرحة سعيدة حيث حققت أمنيتها ، وقالت ماذا تريدون من شكر وتقدير وقلنا لها أن تعمل لنا أكلة لذيذة " قصعة رز " من باب التسلية وقالت أنا جاهزة وقلنا لها يا حاجة بإذن الله تعالى مؤجلة حتى نصل إلى ديارنا في درنة الحبيبة وقالت موافقة! وفعلا عندما وصلنا إلى درنة بعدها بفترة كانت تبعث لنا في بعض الأحيان دعوات لنأتي إلى البيت كضيوف حتى توفي بوعدها ونظير المشاغل لم نتحصل على الوقت ، وأصبح الموضوع نادرة وإحراجا لأبنائها السيد عاشور وعثمان حيث كنت طوال الوقت أقول لهم عليكم دينا مستحق على أمكم الحاجة ،عليكم تسديده في بعض المواقف الحرجة حتى أجذب أنظار البعض ويتساءلون ماقيمة المبلغ المطلوب! وهل الدين مبلغ مالي كبير ، والواقع " قصعة رز " لا تساوي أي شئ كبير وإنما من باب التسلية والمزاح الثقيل ، مع العلم أنني تناولت الطعام في بيوتهم عشرات المرات حيث تربطنا صلات دم وأخوة وصداقة عميقة نحن الشباب ، وجيران العمر في حي " بومنصور " مع بعض بين العائلات قبل ان نولد ونظهر للحياة …
رجعنا إلى مكة المكرمة بعد أن قضينا أربعة أيام في إقامة ورفقة مع المجموعة في رحاب " جبل عرفات " حيث حضرنا أهم مناسك الحج وهو "الوقفة " ، وأيام العيد في " منى " ورجم الشيطان الرجيم ، وقمنا بالطواف الأخير الوداع للكعبة وأصبحنا بقدرة الله عز وجل نستحق لقب حجاج ، وودعنا الجميع ، وأجرت عربة أجرة خاصة إلى المدينة المنورة ، لزيارة قبر الرسول وأصحابه ، وعندما وصلنا أقمنا في فندق "الرحاب" وقتها قريبا من الحرم النبوي حيث كنا معظم الوقت نؤدي الصلوات الخمس بالمسجد حيث أقمنا ثمانية أيام .
كنت تقريبا كل يوم أتابع بالهاتف ماذا يحدث في مدينة درنة من أخبار ومتابعا أعمالي بالمكتب وسمعت الأخبار الحزينة أن المهندس العجوز إبراهيم بيتنجانه قد توفي وإنتقل لرحمة الله تعالى ، وقررت في طريق الرجوع المرور على مدينة دمشق سوريا والتعزية في المرحوم حيث كان شريكا وبيننا وفاء وطعام وماء وملح ، وفرصة طالما أنا قريب من دمشق حتى لا أرجع إلى ليبيا وأضطر للرجوع مرة اخرى وسألت الرأي لرفيقي الحاج يوسف وأبدي إستعداده في الحضور وعدم الرفض .
تحصلنا بصعوبة على تذاكر العودة إلى دمشق في إحدى رحلات الحجاج ، وودعنا الحرم النبوي وكل شئ مرتب ووصلنا إلى المطار وقيل لنا أن الطائرة سوف تتأخر عدة ساعات ولا نعرف متى تحضر مما إضطررنا للمكوث بالمطار …
كانت معنا حقائب اليد وإشترى يوسف عدة أكياس بها أشياء مثل "السبح والصلايات" يحتاجها الحاج في الرجوع إلى مدينته لتوزيعها كهدايا على المعارف والأصدقاء حتى يعرفون أنه لم ينساهم في رحلته وغيابه ، وفي نفس الوقت إعلامهم أنه كان بالحج وأنه الآن حاج ، حيث هذه هي العادات المتبعة وقتها والآن بدأت تخف قليلاً ومع الوقت سوف تتلاشى ، لأن أيام زمان كان السفر صعباً وشاقاً ، أما الآن في عصر العولمة تغيرت الأشياء وممكن الذهاب إلى الحج وتأدية المناسك في مدة خمسة أيام فقط ، حيث السفر والوصول ، أو الرجوع خلال ساعات بسيطة جوا من ليبيا .
إنتظرنا بالمطار ولم يكن أي مقصف ولا مطعم لشراء أي شئ للأكل موجودا وجعنا حيث نحتاج إلى الطعام والنقود بكثرة معنا ولكن للأسف جوعى في البطون! وكانت عائلات سورية كثيرة مفترشة أرض المطار ويتناولون الطعام الشهي ونحن جياع ، ولكن الحشم وعزة النفس غير مستعدين للسؤال ولا للطلب كالشحاذين وصبرنا وتحملنا آلام الجوع ، وخرجنا من القاعة الكبيرة الباردة إلى خارجها نتمشى ، وفجأة وبدون توقع بدا أنف الحاج يوسف يهطل بنزيف دم أسود قوي كمية كبيرة مما جعل على الأرض بركة من الدماء ، مما إرتعبت من مشاهدة الحالة الصعبة فلم أكن متعودا عليها ، وأسرعت لمساعدته وأعتقدت أنه يودع وسوف يموت نظير الكمية الكبيرة من الدم الغير متوقعة !
حاول بمنديل وقف النزيف ولكن بدون جدوى ولم يكن معنا أي رفيق أخر حتى يهتم بالحقائب ، وطلبت منه الجلوس حتى أدخل للداخل وأسأل عن طبيب ، وبالداخل وضعت حاجياتنا بسرعة في ركن وقلت للنفس أمانة في عنق المكان الطاهر وسألت عن الطبيب وقيل لي عن عيادة قريبة بالمطار مما أخذت الحاج يوسف وبصعوبة حتى وصلنا إلى العيادة وكان بها طبيب وأحد باكستاني وممرض ، وإستغرب من الحالة والنزيف المستمر وأعطاه عدة حقن وعبأ الأنف بالقطن حتى توقف النزيف ، وسألت الطبيب هل يستطيع السفر بالجو ؟ وقال لا أنصح حيث الضغط الجوي ممكن أن يتسبب له في إنفجار بعروق الدماغ مما أرعبني وجعلني قلقاً على حالة رفيقي المريض …
سـألته ما العمل ؟ وقال أحسن شئ تذهب به إلى المستشفى داخل المدينة "مستشفى الملك عبد العزيز" إن لم تخني الذاكرة في الإسم … وطلب بالهاتف على سيارة إسعاف وإنتظرنا حتى وصلت وكان الحاج يوسف ممددا على نقالة صابرا بالكاد يتنفس بصعوبة نظير حشو القطن بأنفه لوقف النزيف .
تم تحميل النقالة من قبل الممرضين بالسيارة ، وركبت بجانب السائق وأنا أفكر كيف الرجوع إلى المطار حيث صعب ولا توجد عربات أجرة وقت إداء فريضة الحج إلا بصعوبة حيث الطلب كبير والأمر الثاني الزحام الشديد أما سيارة الإسعاف تمر بسهولة نوعا ما ، وقررت الإتفاق مع السائق المصري حتى ينتظرنا في باحة المستشفى ، وسألته هل بالإمكان الإنتظار! وقال لا لا يمكن حيث تبع الحالات المطلوبة أجرى من مكان لآخر طوال ساعات العمل .
وقلت له لدي عرض لك … مما إنتبه وقلت كم تتقاضى بالشهر كمرتب وقال لي على الرقم ، وقلت له أعطيك مرتب نصف شهر لو إنتظرتنا لترجع بنا إلى المطار وفكر لحظة وقال موافق ويريد مبلغ عربونا حتى لا أتركه ولا أرجع!
أخرجت المبلغ المطلوب بالكامل وهو يقود ويتطلع إلى ماذا أعمل وعيونه تلمع وشعرت بشعور أنه سوف يخذلني مع إننا بالحج ، وأمسكت بالورقات المالية ومزقتها من المنتصف ، وأعطيته النصف وتركت النصف معي وهو غير مصدق!
وقلت له عندما نرجع وتوصلنا إلى المطار سوف أعطيك النصف الباقي … وإن تركتنا وذهبت لن تستطيع الصرف!
رجب المبروك زعطوط
البقية في الحلقات القادمة ….