Monday, July 30, 2012

المرارة

                                            بسم الله الرحمن الرحيم
 
 
                                                    المرارة


           وصلت يوم االخميس السابع من شهر رمضان الكريم الموافق 2012/7/26م إلى مدينة درنة ، وأنا كلي شوق وحنين لأشاهدها بعد غياب قصير لم يتعد الشهرين ، حيث هي مدينتي التي بها ولدت وترعرعت وقضيت أجمل أيام العمر وسط الأهل والمعارف والأصدقاء ، فيها عملت ونجحت وأصبحت في القمة كرجل أعمال وأنا مازلت شابا يافع السن ، وهاجرت ورضيت بالغربة حتى أعيش حراً رافع الرأس بدون قيود من نظام الجهل عندما تم الزحف والتأميم للشركة وجميع الأملاك ووفاة الوالدة من الصدمة ، وأموراً كثيرة يصعب شرحها ، عارضت النظام السابق بكل ما أوتيت من جهد ولم أبخل بقوت الأولاد للجهاد ، حتى تم النصر وسقوط الطاغية المقبور ، وتنشقت هواء الحرية العليل بعد غياب طويل دام 4 عقود ونيف جميعها معاناة وضيق وإرهاب …

كان الجو عاصفاً والرياح قوية مثل العادة حيث ( الملثم ) مستمر تهب الرياح من الغرب إلى الشرق لمدة طويلة معظم فصل الصيف ، مما تجعل المدينة طقسها دائما به  طراوة خاصة وجو عليل ، وليس  شديد الحرارة مثل الغرب وبالأخص  طرابلس العاصمة من حيث أتيت اليوم  جواً مع إبني مصطفى بالطائرة إلى مطار الأبرق …

شعرت بعدة أشياء مختلطة مع بعض البعض من أول ماشاهدت بداية المدينة وتطلعت إلى البحر وساحل " كرسة " الذي يمتد أمام نظري والسيارة تهبط الجبل ، تنتاب النفس وتحزنها من كثرة الأقاويل والشائعات ، المغرض والحسن ، الخير والشر مجتمعان يتصارعان بعنف كل طرف يريد الفوز والنجاح وكأن لعنة أو لعنات تطارد المدينة ، جاثية رابضة على أكتافها ، وأهلها الشرفاء السذج البسطاء يعيشون حيارى يموجون ويهيجون في صمت بدون زعامات حقيقية قادرة على ضبط الأمور السهلة الصعبة نظير عدم الكفاءات والخوف على حياتهم من التهديدات ، غير عارفين كيف يستطيعون إنهاء الأزمة التي تخنقها  كل يوم ، نتيجة الحراك الديني المستمر الصاعد في اليقظة من السبات والنوم الطويل ، متحديا السلف في أمور كثيرة يعتبرها بدع ، متجدداً مع الوقت والعصر يريد التجديد وإحياء الدين ،  وإستغلها التطرف السياسي البغيض الذي جعل جميع المواطنين لا يحسون بالأمن ولا الأمان ، في المدينة الصغيرة ذات  العدد القليل من السكان …

في نظري القوى الخفية والأيادي السوداء هي التي تحرك ، لا تريد السلام ولا الراحة للمدينة حتى تنهض من الكبوة لعوامل عديدة ، والتي كل يوم يزداد الضغط إلى حالات صعبة قوية متجاوزاً الحدود مما مع الوقت سوف تخلق ردة أفعال عند معظم المواطنين وعندها يتم الإنفجار ، ويدفع الثمن ضحايا كثيرين ليس لهم في المسألة والأزمات المختلقة والتحديات والصراعات الغامضة  لا ناقة ولا جمل ! بل لسوء الحظ كانوا في الجانب الخطأ والتوقيت الغلط بدون إرادتهم ، حوصروا في منتصف الصراع بدون ذنب إقترفوه أليس بأمر مؤسف ومأساة ؟؟

عندما وصلت للمزرعة حيث مقر السكن شاهدت من بعيد أعلام القاعدة السوداء ترفرف عالية على ساريات الهواتف النقالة العالية جداً وبعض المباني المجاورة والمسجد في حي السيدة خديجة على مدى البصر ، وكأنني في أفغانستان أو العراق أعلام الشيعة وتعجبت هل أنا في حلم أم في اليقظة ، حيث العالم الغربي يكافح من أجل القضاء عليهم ، ونحن أعلامهم ترفرف خفاقة في العلن من غير أي خوف ولا رعب ولا إرهاب من الدولة مثل السابق ، وقلت للنفس سبحان مغير الأحوال من حال إلى حال ، بالماضي كان الحديث ممنوعاً منعاً باتاً من التداول بين المواطنين حتى الهمس عن تنظيم القاعدة ،  جريمة نكراء يعاقب عليها بقسوة وعنف من عيون الأمن ولجان الطاغية  ، والآن في دولتنا الجديدة مباشرة وفي العلن أمام الجميع بدون أي إهتمام  ، أليست بحرية ما بعدها حرية؟ حرية المعتقدات وتطبيق الديمقراطية الحقة  (  من ليبيا يأتي الجديد !) …

منذ إنتهاء الثورة المجيدة 17 فبراير والنصر المبين وقتل الطاغية شر قتلة وإنتهاء الإرهاب والظلم والرعب إلى اليوم ونحن نسمع بين الوقت والآخر ، عمليات إغتيالات وذلك لغياب القانون ، حيث حتى الآن لا دستور قائم  موجود يحكم به ،  ولا قانون يحافظ عليه وعلى المواطنين  ، ولا رجال أمن ولا شرطة حقيقيون يمسكون بزمام الأمور ، بل كتائب ثوار مختلفة الإتجاهات والعقائد مدججة بالسلاح  ، مليشيات تعمل وتقرر الأمور حسب ما يترائى لقادتها الكبار ، حتى الغرفة الأمنية التي تحفظ الأمن التابعة للدولة عبارة عن إسم وعنوان فارغ ، تلاشت جمدت وأصبحت في العدم ضاعت تجهيزاتها ، سياراتها ومعداتها بين بقية الدوائر، لا يريد أي مسؤول أو قائد أن يتحمل المسؤولية ويشغل الكرسي ويديرها ، حيث الآمر السابق إغتيل في وضح النهار ببرود أعصاب ودم بارد من الجناة ولا من سأل ولا  من أجاب نظير ضعف الدولة الإنتقالية ، وكل مرشح لتولي الأمور يهدد بالويل والثبور والقتل من قوى خفية ، مما خاف الجميع وتركوا المكان فارغاً ينتظر من لديه الشجاعة و العزم والجرأة ليأتي و يشغله …

أملنا كبير في رجال وسيدات المؤتمر الوطني الناجحون  المنتخبون من الشعب بأن يضعوا حجر الأساس لدستور وطني قوي وقانون رادع بالعدل والحق والمساواة بين الجميع حتى يرتاح الجميع من الفوضى إلتي نحن الآن بوسطها ، والتي تنذر بنذير سوء قادم  عن قريب ، حيث زاد الضغط عن الحد ... نحتاج إلى لجم بالحق والعدل بسرعة حتى لا يستفحل الأمر إلى تراهات ومتاهات ، قتل وإغتيالات ، لتسوية الحسابات …

منذ عدة أيام إكتشفت جريمة مروعة لا تمت للإنسانية ولا الدين ولا الأعراف حيث تم إغتيال إمرأة شابة في منتصف العمر من آل ستيته بالمدينة ، وجدوا الجثة خارج المدينة وهي مرمية بالرصاص بعدة أعيرة في الرأس والصدر ومثخنة بعدة طعنات قاتلة بالخنجر وكأنها تنم عن حقد دفين عليها من القاتل أو القتلة ، وتساؤلاتي لماذا هذه الجريمة النكراءفي حق إمرأة في أوائل أيام شهر رمضان الكريم؟؟ ألسنا بمسلمين نوحد بالله عز وجل الواحد الأحد حتى نفتتح الشهر الكريم بالقتل والدم ، بدل الرحمة والتآلف والغفران ؟؟؟

وتساؤلات المدينة هل الموضوع عن حقد وحسد على الضحية  ، أم لأنها متحررة عن العادات ، أم القاتل أو القتلة نظير وازع ديني وتطرف أعمى ، أم في غيبوبة نتيجة الهلوسة والمخدرات  ، أو نتيجة الطمع والسرقة لبعض المال الذي تحمله حسب مايشاع في الأوساط المحلية ، أوهتك عرض لها ، لا أحد يعرف …  لكن مصير الأيام  تظهر الحقيقة  وياقاتل الروح البريئة بدون قضاء وعدل ، وين تروح سواءا من عذاب الدنيا والضمير أم عذاب الآخرة ؟؟ من الرب الخالق القدير ! 

قبلها بفترة بسيطة وقعت حادثة مروعة حيث ألقيت عبوة ناسفة على ضريح أحد الصحابة الأجلاء قادة الحملة الإسلامية على شمال أفريقيا  ، ( سيدي عبدالله إبن قيس البلوي)  المدفون في مسجد صحابة رسول الله عليه الصلاة والسلام منذ ألف سنة وعدة قرون مضت ،  أحد المعالم المشهورة المقدسة الدينية ، مما هز المنطقة والرأي العام في الوطن والخارج وتهدم الضريح ونشر الخوف والرعب في أوساط المواطنيين المحليين بأن الأمن غير مستتب ، والأمور تشير إلى المتطرفين الوهابيين السلفيين والإخوان المسلمين المتشددين حسب مايقال من أقاويل وشائعات تدور بأن الأضرحة والمزارات عبارة عن بدع  ، مطلوب إزالتها  لأنها ليست من ضمن مناهج الدين القويم! 

لقد نسوا أن العمل الشائن عبارة عن تخطيط مرسوم من أساطين و أساتذة الشر والشرور  نتيجة خداع مرتب لتوجيه  النظر إلى أمور خبيثة أخرى ودس ، تم تنفيذه من أطراف أخرى أجنبية نظير أجندات وقضايا خفية حتى يكره المواطنون تنظيم الوهابيين السلفيين والإخوان المسلمين ويناصبونهم العداء ، والدليل خسر التيار الإسلامي الإنتخابات ، ونجح التحالف بفوز ساحق من أصوات الشعب ،  ليس حبا في التحالف ، ولكن نكاية في التيار الإسلامي الذي يضم السمين اليمين المعتدل ، والغث اليسار المتطرف ، بدون فهم حقيقي من أبناء الشعب  لقضايا الإسلام السامية التي أساسها الشورى و العدل والمساواة …

أليست بأمر مؤسف ومأساة ؟؟ الجماعات الإسلامية الحقيقية لا يعرفون كيف يفرقون الأمور ويتحملون الهوان الضيق والمعاناة والمحن في سبيل المبدأ والعقيدة السمحاء ويتعاملون مع البشر باللين واللطف بدون تعنت وتعصب في الرأي ويصبرون حتى يأتي الله عز وجل ، يوما بالفرج !

إنني لو عددت المشاكل المتواصلة في المدينة والحوادث المؤسفة والجرائم ، سوف أصل إلى رقم كبير بأعداد  الضحايا خلال هذه الفترة البسيطة منذ يوم النصر وإنتهاء الثورة ، مقارنة بأي مدينة أخرى مقارنة بعدد السكان ، معظم الضحايا تم إغتيالهم  وقتلهم  بحجج واهية  نتيجة ثارات وأحقاد شخصية وأن البعض عملاء للنظام وعليهم دفع الثمن بحياتهم من غير قانون ولا محاكمة بل القصاص بقانون الغاب ، أليست بمأساة ؟؟ 

إن التطرف في أي شىء بالحياة مصيبة من المصائب مهما يكون لها من تبريرات وأجوبة نتيجتها ونهايتها الخراب والدمار ، والتاريخ زاخر بعشرات ومئات الحوادث والأحداث وكم هناك  من حضارات سادت يوماً ثم بادت نتيجة التفسخ واللهو والتطرف في الموبقات ، وديننا الإسلامي يأمر بالعدل والتسامح ، وليس الفرض والإكراه !

إن العدل هو أساس الملك ، ودولتنا الجديدة الفتية تترنح تحاول قدر الجهد أن تضع أرجلها على الطريق الصحيح ، ولكن هيهات هيهات ، الكثيرين من أصحاب المصالح الشخصية رجال الأعمال والساسة ، سوف يتضررون وتضيع عليهم أرباح كبيرة كثيرة نظير الإحتكارات وبيع خيرات ومقدرات الوطن بأثمان رخيصة بخيسة ،  وبالتالي لا يرغبون في  العمار والنهضة والتقدم ، يحاولون الحد بأي وسيلة حتى تستمر الفوضى مدة طويلة لتسمين الحسابات بالمصارف الخارجية بطرق ملتوية خسيسة غير شريفة و حرام ، يأكلون السحت في بطونهم ويؤكلونها لعائلاتهم وأولادهم الغافلين الذين لا يعرفون من أين أتت … حتى عشعش الشيطان على القلوب والأبصار وزاغوا عن رؤية الحق نظير تمرير المصالح كما يرغب السادة المحتكرون الكبار ، ونسوا وتناسوا إرادة الشعب والصلابة لديه بأن يفوز تحت أي ظرف كان ، ضد شبكات عنكبوت الإرهاب مهما طال الوقت ، حيث الهدوء والإستكانة ، ليس عن ضعف بل جذوة نار تحت الرماد تشتعل حتى يأتي اليوم المناسب وتنفجر ، وعندها الويل الويل لكل من أراد السوء للمدينة والوطن ، سوف يتم القصاص و العقاب العادل فيه ويدفع الثمن الغالي …

بالليل بعد الإفطار وصلاة العشاء ذهبت برفقة إبني الكبير مصطفى وإبن أخي خالد إلى بيت العزاء للمرحومة لأعزي أهلها على المصاب الشنيع الذي حدث فقد كانت من الجيران ، ورسولنا الكريم يوصي بالمعاملة الحسنة للجيران إلى سابع جار حسب الأحاديث النبوية الصحيحة والوقوف معهم حسب الإستطاعة في أي أمر يلم بهم حيث مسيرة الحياة تحتاج للتكافل والنجدة والجبر بالخاطر حتى يزداد التآلف والمحبة بين الجميع  ، حيث الدنيا تدور إلى ماشاء الله عز وجل ، يوم لك تسعد وتفرح واليوم الثاني عليك ، مصائب وكوارث حزن ومعاناة وضيق وألم …

بالسرادق قابلت الكثيرين وعزيت الجميع حسب العادات وجلست بجانب البعض من عائلة المرحومة آل ستيته الذين أعرفهم معرفة شخصية حيث تربطني بهم علاقات أخوية وصلة نسب ودم ، وزوجها من آل أسويسي الذي كان جالسا على اليمين صامتا يسمع إلا من بعض الكلمات الموجزة ، معزيا ومواسيا لهم على المصيبة والحدث الشنيع ، محاولاً معرفة ما حدث بأدق التفاصيل من أصحاب الشأن المتضررين وليس سمعاً من الآخرين حسب مايشاع ويقال في أوساط المدينة …

قضيت حوالي الساعة في بيت العزاء ، وكم هالني الأمر أن أشاهد الجميع في حالات صعبة ورثاء عواجيز مع أن الكثيرين شباب صغار بالسن ، وكأن عشرات السنين حطت بسرعة على كاهل الكثيرين حيث ولى الشباب نظير المصائب والمصاعب والهموم ، أليست بمأساة؟؟ لم أشاهد الفرحة ولا علامات النصر والبهاء ولا السعادة في الأعين والنفوس ، شعرت من نظراتهم  أنهم محتارون بدون زعامات حقيقية ولا قيادة سليمة توجههم للأصلح  وبما يرضي الله عز وجل وعللت الأمر أننا في بيت العزاء والجميع متأثرون من المصاب والحدث …

إنها مأساة من مآسي الحياة ، أن مدينة صغيرة مثل مدينتنا درنة المجاهدة الصابرة المهمشة تفرز هذه المجموعات  وتصبح قبلة للتطرف والإغتيالات والقتل بشراسة وعدم رحمة وبالأخص لمرأة وفي بداية شهر رمضان العظيم المقدس ، شهر الرحمة والمغفرة والعتق من النيران ، وتكثر بها الحوادث والجرائم حسب مايشاع وتتأخر سنوات للوراء نظير عدم الراحة ونقص الأمن والأمان للمواطن! 

بعدها ذهبت لزيارة الحاجة أختي  المسنة في بيتها والتهنئة لها بحلول شهر رمضان الكريم والحديث معها ، حيث لي فترة لم أرها ،  وكان برفقتها بعض بناتها المتزوجات أتين للسهر معها ، وقضيت بعض الوقت بقربها في أحاديث وذكريات عائلية خاصة حتى وصل بعض الزوار من الجارات النساء وإضطررت لترك المجلس بقربها ، ودخلت للصالون حسب العادات المحلية ، الفصل في المجالس بين الرجال الأغراب والنساء ، وأكملت السهرة في الحديث والسمر مع  نسيبها زوج إبنتها القادم مع زوجته ، إبنتها  ، من ألمانيا لتمضية شهر رمضان معها ثم جاء النسيب الثاني السيد جبريل وأحد الجيران أولاد العم ، وكانت سهرة لطيفة جميعها شجون وألم ، عما يحدث بالمدينة من طرائف ونوادر وأحداث أليمة وإغتيالات تحتاج إلى الحسم ويداً قوية من الدولة الجديدة  ، حتى تلجم الجميع بالعدل والقانون إلى الساعة الواحدة صباحا ، حيث ودعت الجميع ورجعت إلى المزرعة لأرتاح بعد يوم طويل وسفر …

حاولت النوم وأنا قلق النفس أتذكر الأحداث وكأنها شريط سينمائي مصور وأقول للنفس الحمد لله عز وجل أن أعطاني  طول العمر وشاهدت قيام الإنقلاب الأسود ( ثورة الفاتح ) وشاهدت النهاية الأليمة للظالم وزوال نظامه من على كاهل الوطن في سرعة غريبة خلال عدة أشهر وكأنه لم يكن ، ولكن للأسف خلف شراً وشروراً بالوطن تخلف وجهل لأجيال شابة ... نحتاج إلى سنين طويلة حتى نستطيع أن نلملم جراحنا ونتحد مع بعض ونبني ليبيا الغد!
والله الموفق ...
 
                                                          رجب المبروك زعطوط
 
                                                               2012/7/27م
 

No comments:

Post a Comment