Tuesday, September 4, 2012

شاهد على العصر 6

بسم الله الرحمن الرحيم 

شاهد على العصر 6


بدأت الضغوط من الوالدين ، وبالأخص من الوالد  الذي كان يرغب في أداء فريضة  الحج والسفر القريب خلال شهر مارس القادم وأصر على زواجي قبل أن يسافر حيث وقتها سعيد الحظ من الحجاج من يرجع من كبار السن حيا يرزق بسبب الصعوبة في التنقل والسفر وعدم وجود المواصلات الجيدة السريعة ، والزحام والأمراض والأوبئة المستعصية التي يأتي بها البعض من الحجاج من عدة أماكن موبوئة بالعالم وبالأخص آسيا من فقراء الهند وباكستان وبنغلاديش وأفريقيا ولا توجد الرعاية الصحية والتقدم الطبي مثل الآن في المملكة  السعودية 

بدأت العروض الكثيرة من العائلة وطرحت أسماء العرائس وعائلاتهن حتى يحظون بموافقتي ولكن رفضت وإزاء الإصرار من الوالد والوالدة والضغوط التي مارسوها ولا أريد إغضابهم فقد كنت روحيا مرتبطا بهما إرتباطا قويا  وأسعى كل الجهد طوال الوقت الحصول على الرضاء الكامل والحمد لله تعالى الوالد أعطاني حرية الخيار والقرار إلى من أرغب ، المهم الموافقة والزواج قبل سفره ، ولم يعطني الوقت الكافي لأتدبر أموري ، وكان لديه بيت مؤجر للدولة جزء من البيت الكبير رفض تجديد الإيجار منذ فترة حيث كان يعد  الأمر بدون علمي  وسلمني المفتاح لأبدأ فيه الحياة الجديدة ، والسكن لوحدي والذي يعد في ذاك الوقت نقلة كبيرة حيث العادات البيوت كبيرة وتعيش العائلة مع بعضها البعض في غرف متجاورة .

قمت بالصيانة للبيت بسرعة وإشتريت الأثاث: غرفة النوم من بنغازي والصالون  وغرفة الأكل من الحاج مفتاح بوخطوة من درنة متعهد القصور الملكية بالأثاث وقتها ، وكانت نقلة كبيرة في الحياة العملية اليومية فقد كنا من قبل نتناول الأكل ونحن جلوس على الأرض حسب العادات العربية ، وقام مشكورا أحد أصدقائي السيد أحمد عاشور التاجوري ( رحمه الله )  بترتيب البيت من جميع الطلبات والنواقص حيث لا وقت لدي للمتابعة والشراء فقد كنت مشغولاً في المحل والوقت ضيق على الموعد وقدم لي فاتورة ودفعت له قيمتها بالكامل ، وأذكر أنه أهداني سجادة بمناسبة الزواج ضمن الأشياء المكملة للبيت ورفض أن يأخذ ثمنها ، بحيث المطلوب مني إحضار الملابس الخاصة الشخصية والعروس والسكن 

تمت الموافقة على الزواج من بنت إبن عمي الحاج محمد الذي كان نائبا عن مدينة درنة في مجلس النواب 1965/1960م  والمقيم في بنغازي ، وذهب الوالدان إلى هناك فى معية أخي الحاج صالح في سيارته الخاصة الجديدة  لخطبتها من جدها عمي الذي حضر الخطبة المبدئية  وأقام عند إبنه ، وتمت الموافقة بسلاسة وسلم الوالد إلى جدها الذي هو أخوه الأكبر مهرها المتفق عليه حسب عادات المدينة لعقود القران لجميع العرائس ، ودوت الزغاريد مجلجة بالفرحة بالبيوت في بنغازي ودرنة وأماكن أخرى عند الأقارب المقربين ووزعت المشروبات الغازية والشربات والحلوى على  الجميع على سماع الخبر السعيد المفرح ، وتم الترتيب للفرح بعد عدة أسابيع 

يوم 1965/3/20م في مدينة درنة  كان الطقس بارداً بداية الربيع تم عقد القران ( الفاتحة ) والزواج في اليوم الثاني ، ووجدت نفسي و قد إنتقلت للقفص الذهبي برغبتي وإختياري وأصبح لدي مسؤولية على عاتقي وودعت حياة العزوبية للأبد ، ومرت الحفلة والعرس على خير وسلامة بهدوء والجميع من العائلة والأقارب والأصدقاء سعداء ، وقمت بدفع جميع المصاريف من مالي الحلال بعرق الجبين ورفضت المساعدة من أي أحد ، إلا من بعض الهدايا التي إستلمتها من الأخوات حيث  لا أستطيع الرفض ، وكان الوالدان مسروران على الصرف  المعقول في الحفلة بدون توقف وقام أصدقائي بضيافتي لمدة أسبوع كل يوم في بيت لتناول الغداء والعشاء كعريس ضيف مميز ( السلطان ) حسب العادات الجميلة السائدة وقتها على إصدار الأمر والجميع يطيع ولا يرفض لمدة أسبوع 

يوم الأسبوع  دعوت الجميع  إلى وليمة كبيرة للغداء والتعارف مع الجميع من العائلة حيث ودعنا الوالد للسفر للحج اليوم الثاني بالصباح الباكر وتمنى له الجميع الذهاب إلى السعودية الأراضي المقدسة والرجوع بالسلامة

كنت محظوظا في الإختيار لشريكة حياتي ، حيث كنت بتسيير الله عز وجل موفقاً ، فقد حضرت للبيت وأحضرت معها الهناء والإستقرار والخير والذرية الصالحة ، وبعد فترة أصبح الجميع يحلفون برأسها نظير الحب والإحترام والتقدير من الجميع  حيث كانت ذكية وكيسة قليلة الكلام وتعرف ماذا تعمل وبالأخص مع الوالد والوالدة ، والديها الجدد ، مطيعة مما جعلتني سعيدا  ليست لدي أية مشاكل من القيل والقال ، في أوساط العائلة والغير ، كما يحدث في كثير من الأسر ، نظير عدم التجانس بين الزوجين حيث عاداتنا تمنع الإختلاط بين الجنسين وليس مثل الآن الأمور تغيرت تغييرا شاملاً عن مقاييس ذاك الوقت ، حيث جميع الزيجات السابقة ، إلا من النادر حدثت بدون أن يعرف العريس العروس إلا يوم الزفاف ( ليلة الدخلة ) والأجمل في ذلك أن الحب والمودة تبدأ من تلك الساعات والزواج يستمر لنهاية العمر  ، ويكونون عائلات وأسر وأولاد وبنات وأحفاد ، وكان من النادر الفراق والطلاق 

مرت الشهور رتيبة وكل يوم أخرج من البيت بالصباح الباكر إلى المساء وبعض الأحيان وقت الظهر أرجع للبيت لتناول وجبة الغداء وأترك مساعدي بالمحل نيابة عني فقد كان يحضى بثقة عالية وإسمه رمضان دوباج ، مازال حيا يرزق والله تعالى يسامحه على الإخلاص والوفاء خلال السنين العديدة التي قضاها معي 

ضقت ذرعاً بالعمل الرتيب بالمحل الذي معظم الوقت به غير قادر على الخروج ، وتطلعت نفسي للأعمال الكبيرة والسفر والسياحة ، حيث كانت ليبيا وقتها بكر عذراء بحاجة لأبنائها بأن ينهضوا بها في جميع المجالات وبالأخص التشييد والإعمار لجميع المرافق  حيث يوجد نقص كبير بالبيوت للعيش الهانىء ، وكان المسيطر على التجارة والأعمال الحرفية مثل صياغة الذهب والفضة اليهود الليبيون والصناعات الخفيفة والميكانيكا من خراطة وتصليح السيارات  الجالية الإيطالية الكبيرة  الذين آثروا البقاء في ليبيا ولم يغادروها عندما إنتهت الحرب العالمية الثانية وخسرت إيطاليا الحرب ومستعمراتها ليبيا والحبشة 

تلك الأوقات منذ الإستقلال فترة العهد الملكي البسيطة ، حسب رأيي وعلمي كانت من أجمل وأسعد الأوقات في ليبيا ، وكنا نعاني الفقر والنقص لأشياء كثيرة ولكن كنا كشعب سعداء حيث الأمن والأمان مستتب وجميع أبناء الشعب يعيشون في بساطة وسذاجة بدون خبث  ، وكل مواطن يدرك واجباته وحقوقه ضمن الحق والدستور ،  والقانون على الجميع يطبق فلا فرق بين إنسان وآخر ، مع وجود أخطاء وهيمنة في صمت من بعض الأسر أمثال عائلة الشلحي وحواشيهم من الأعوان الأزلام وغيرهم المسيطرون في صمت ووراء الستار على مجريات الأمور بدهاء والصراع الدائر على السلطة ضد آل الشريف السنوسيون أقرباء الملك  ، بدون علم الشعب الغافل بماذا يدور  ، وليس مثل عهد المقبور السابق الفساد والإفساد في العلن ، ولا أحد يستطيع المعارضة ولا الرفض 

الحدث الثاني المهم وبدون أن أدري ولا تخطيط ومعرفة بالأمر فترة الشتاء في شهر ديسمبر حيث البرد والأمطار غزيرة في المدينة الصغيرة ، ومدينة درنة يمر بها وادي يقسمها إلى قسمين وكان بيت الوالد في القسم الغربي ومن كثرة هطول الأمطارالغزيرة بالجنوب من مئات الكيلومترات تجمعت المياه بالصحراء من عدة أودية صغيرة وزادت كميات الماء العذب وأصبح فيضاناً مدمراً وجرت المياه شمالاً في الوادي إلى البحر مما قسم المدينة إلى قسمين ، والوسيلة الوحيدة للعبور إلى القسم الشرقي كانت عن طريق جسر عتيق بناه الإيطاليون في العشرينات من القرن الماضي أيام الإستعمار للوطن 

 وصل ثلاثة من الطليان إلى المدينة ساعة المغرب قادمون من مدينة البيضاء ، بدون ميعاد حيث وجدوا الطريق مقفلة قرب بيتي  نظير فيضان الوادي وكان المطر يهطل بغزارة ، والتيار الكهربائي  مقطوع والدنيا ظلام دامس ولم يستطيعوا المرور حيث برنامجهم الإتصال مع السيد أنجلو هاجيداكس  ، ( حسب قولهم لي فيما بعد )  ،  الذي لديه رخصة مناولة البضائع من السفن وكالة بحرية ، والمرشح الثاني للإتصال أنا  ، والجميع بالبيوت لتناول وجبة الإفطار ( العشاء ) بعد صيام طوال اليوم 

ليلتها كنت مع الوالد على طاولة الأكل في غرفة السفرة لتناول الطعام على ضوء الشموع ، وطرق الباب طرقات عديدة حيث لا كهرباء  ، وتهلل وجه الوالد بدون أن يعرف من ؟؟ وقال مرحبا بالضيوف ، وتركت الملعقة وتوقفت عن تناول الشوربة حيث هي الأساس بالنسبة لي في الفطور وتناول الوجبة ، ونهضت لأفتح الباب ، ووجدت الأجانب وقلت لهم من غير سؤال تفضلوا وقالوا نبحث عن بيت فلان الذي هو بيتنا ، وقلت لهم تفضلوا بلغة ركيكة مزيجا من عدة لغات حيث المطر منهمر بغزارة وهم واقفون في العراء ودخلوا للبيت للإحتماء وخلعوا قبعاتهم ومعاطفهم المبلولة في الممر ودخلوا إلى الصالون الدافىء ، ودعوتهم  على العشاء ولكن رفضوا مما قلت لهم سامحوني بعض الوقت حيث دخلت إلى غرفة الطعام وكان الوالد ينتظر وأخبرته بقدوم الضيوف الأجانب وأنهيت تناول الإفطار بسرعة في دقائق 

دخل الوالد إلى الصالون ورحب بهم وجاء إخوتي من بيوتهم في الجوار وأجتمع الجميع بالغرفة ، وقدمت  لهم كؤوس الشاي الليبي الأخضر الساخن عدة مرات مما عجبهم المذاق  والفاكهة والحلويات مما كانت سهرة حلوة إستمرت حوالي ثلاث ساعات في النقاش عن الأعمال  ، وكنا وقتها في شهر رمضان  الوقت مفتوح ونسهر طوال الليل وفي بعض الأحيان إلى الفجر ، وننام إلى الضحى 

كان أكبر الضيوف سنا مديرا لشركة مقاولات إسمها ( ساليني ) جاءت حديثا إلى مدينة البيضاء لبناء مجمع عمارات سكنية ولديهم كميات كبيرة من مواد البناء يرغبون في توريدها من إيطاليا ويوغسلافيا  ويحتاجون إلى شركة وكالة بحرية لمناولة البضائع في المواني ، وكان الحديث موجها للوالد الذي لا يعرف أي شىء عن الوكالات البحرية ، وقال للمدير من بعثك لنا وأي أسم ، وأخرج المدير مفكرة من حقيبته وقال لدي تعليمات من الإدارة بروما بالإتصال بالسيد فلان وهو إسمي مما إستغرب إخوتي من الموضوع ، ورد الوالد وأشار لي بسبابته وقال هذا الذي ترغبون !

تطلع المدير لي بإستغراب لصغر السن والشهرة الكبيرة ووجه الحديث لي وقال ياسيد فلان بحديث موجه وتركيز هل لديك وكالة بحرية وقلت له نعم بكل بساطة بدون أن يطرف لي جفن ، والواقع الصريح ليست لدي ، وإستغرب المدير وقال بالأمس كنا في الإدارة في بنغازي وسألنا وقالوا لنا لا توجد وكالة بحرية إلا عند السيد إبراهيم حسني بي ، والسيد أنجلو هاجيداكس ، وإسم وكالتكم  لم يذكر لنا ، ورددت عليه بكل بساطة وبكذب أبيض وأكدت على وجودها مما إستغرب الأمر وإعتبره سوء ترجمة وفهم ، وسألني سؤالا محرجا وقال كم سعر الطن للمناولة والتفريغ من السفينة على ظهور سيارات النقل الثقيل وكانت عندي دراية بسيطة بالأسعار نظير تفريغ البواخر السابقة وللتأكيد والخوف من الخسارة وإعطاء سعر رخيص ، ضاعفت المناولة عدة أضعاف ، وفي حالة الموافقة أكون حققت أرباحا عالية ، وبكل بساطة رد المدير بدون مساومة وقال أنه موافق على السعر ، ولكن بشرط قبل أن أوقع عقدا ، أريد أن أتأكد أنه لديك رخصة مناولة رسمية قانونية ، وقلت لا مانع ، وتم الإتفاق على الغد الساعة العاشرة صباحا ، المقابلة بالميناء في مكتب المدير للتأكد من وجود الرخصة قبل البدء وكتابة العقد ، وطلبوا الإذن بالخروج وودعتهم إلى الباب وسافروا راجعين إلى مدينة البيضاء القريبة غربا والتي تبعد عنا مئة كم فقط 

سألني الوالد بأبوة وحنان هل فعلاً لديك الرخصة وقلت له لا ، وقال بصرامة وإستغراب وغضب لماذا تكذب ونحن في شهر رمضان ومازال على الميعاد حوالى 12 ساعة ، وإسترشد بالآية الكريمة في القرآن العظيم وقال ( أليس الصبح بقريب ) وقلت له أن الأمر في يدك ، تستطيع المساعدة حيث مدير الميناء الحاج سالم رقص إبن عمنا في القبيلة وتستطيع التأثير عليه بالموافقة وإصدار الرخصة ، وتهلل وجه الوالد ووافق على الأمر وقال أسرع في الإتصال ، ولعب الحظ الدور الكبير ، حيث الحاج سالم يسهر خارج البيت كل ليلة مع أصحابه لوقت متأخر ، وتلك الليلة نظير البرد والأمطار الغزيرة وإنقطاع التيار الكهربائي عن المدينة آثر البقاء في البيت ولم يخرج كالعادة ،
وتم الإتصال الهاتفي عن طريق البدالة ، ورد الحاج سالم شخصيا على المكالمة وسلمت السماعة للوالد حيث عرف بنفسه وتحدث معه بعض الوقت في السلام والتحيات من غير أن يتطرق للموضوع ، وقال الوالد إنني أريد أن أزورك في البيت لموضوع خاص ، وأصر الحاج سالم أن لا يتعب الوالد نظير كبر السن والإحترام والتقدير ، وقال أنا الذي سوف أحضر لزيارتكم ، وتم الإتفاق على أنني سوف أذهب لإحضاره حيث ليست له سيارة خاصة ، وطرت من الفرحة كيف الأمور سلسة حتى الآن ماضية ، وأخرجت السيارة من الجاراج ومضيت إلى بيته في شارع الحرية ( البحر ) حيث نهايته منطقة رخوة يغمرها البحر إسمها ( البربيط ) وبها الآلاف من شجر البوص ( القصبة ) وهي جزء من الميناء اليوم بعد الإزالة والتعميق 

وجدت الحاج سالم محتميا من المطر في ظلال حافة أحد الحوائط بالشارع أمام بيته مما توقفت وحيته وركب بسرعة وأثناء الرجوع للبيت سألني ماذا يريد الوالد ليجهز نفسه في الرد على الموضوع وقلت له لا أعرف  فقد طلب مني أن آتي لأقلك له وها أنذا أفعل ولم ينبس بكلمة حتى وصلنا للبيت وقابله الوالد بالترحاب والسلام ، وأثناء شرب الشاي الأخضر فاتحه الوالد في الموضوع ، وحضور الطليان وماذا حدث بصدق وطلب منه الرأي والعون ، وتمنع وحاول التملص بعدة مواضيع وأن الأمر من الإدارة في بنغازي ولكن الوالد أصر ، وترغيبا له وعده بالمساندة طرف الدولة نظير العلاقة الجيدة مع القصر مع آل بوسيف ، والحاج سالم يعرف الأمر ونفوذ الوالد ومدى الحظوة  زائد صهري وأبن عمي نائب في مجلس النواب ، وأخيرا تم الأمر بالموافقة وأن أحضر له غدا الصبح صكا مصدقا بمبلغ ألفان جنيه بأسم وزارة المواصلات والمواني وسوف يصدر الرخصة والوالد يتولى جماعة بنغازي في حالة الإستفسار  بحيث لا يتسببون له في  مشاكل مما وافق الوالد ، وصافحه بكل مودة وحب على الصنيع والفضل ، وأوصلته إلى بيته منتصف الليل وأنا أكاد أطير من الفرحة 

لم أنم تلك الليلة الباردة ولم يغمض لي جفن وأنا أبني في قصور الأحلام ، عن الثروة والجاه والنفوذ بقوة المال في مجتمع ضيق بسيط سذج أهله طيبون للغاية بدون خبث وقتها ، والساعة الثامنة والنصف كنت جالسا بالسيارة أنتظر فتح أبواب البنك بالميدان المقفر الخالي من المارة حيث جميع المحلات والمقاهي مقفلة ، والساعة التاسعة فتح الموظف السيد ونيس إستيته أبواب المصرف وكنت أول زبون يدخل مما إستغرب الأمرعن العجلة ونحن في شهر رمضان الكريم ، وحييته بسرعة ورد التحية بإستغراب ، وطلبت من المسؤول عن الحسابات إصدار الصك المصدق ، وأعطيته الإسم والجهة ، وفي خلال نصف الساعة كان الصك في جيبي وبسرعة إلى إدارة الميناء حيث الحاج سالم رقص لابسا البدلة الرسمية ينتظرني ، وحييته وأعطيته الصك وأمر الموظف بطباعة الترخيص وراجعه وتم ختمه وأصبحت لدي رخصة وكالة بحرية رسمية لتفريغ البضائع بأي ميناء في المملكة الليبية ، وكم كانت الفرحة والسعادة لدي غامرة 

في تلك الأثناء والفرحة وصل الطليان وطلبوا الإذن بمقابلة رئيس الميناء وكنت بالمكتب جالسا أمامه ، وأعطاهم الإذن بالدخول ، وذهلوا من وجودي بالداخل ، وحديثا قصيرا معه بخصوص الترخيص  الذي أجاب بأنه لدي رخصة ومخول بالمناولة والتفريغ ، وزاد في الشكر والإستحسان أنني مجتهد ويعتمد علي في العمل الملاحي كمندوب لجميع الإجراءات المطلوبة لتسهيل التفريغ وخروج البضائع من الحظيرة ، وأنه شخصيا يضمنني طالما هو موجود بالوظيفة والسلطة ومستعد للمساعدة ضمن القانون ، مما كان له الأثر الجيد لديهم ، وطلبوا الإذن بالإنصراف وهم مرتاحون ، وتم الإتفاق بأن آتي لإدارتهم بمدينة البيضاء الساعة العاشرة مساءا لأوقع العقد مع الشركة 

كان السيد " ع س " أبن العم وصديقي الذي أستعين به في قضاء بعض الخدمات وأدفع له بالمقابل  موجودا بالميناء يتابع الأمر ولم يفوته الحديث مع الأجانب حيث كان يسمع من الغرفة الثانية ، وحشر نفسه في الموضوع يريد أن يكون طرفا شريكا بطريقة سمجة ولكن رفضت ، وأصر أن يوصلني لمدينة البيضاء بنفسه في سيارته كمرافق مما إستحسنت للفكرة حيث لا أرغب في الذهاب في ليلة شتاء باردة إلى البيضاء بمفردي حيث كنت صغيرا السن وعديم الخبرة والتجارب وكانت غلطة وخطأ إرتكبته نظير الطيبة وحسن السريرة ولم أتوقع المكائد ولا الخبث ، نظير الحقد والحسد 

بعد وجبة الإفطار جاء السيد " ع س " إلى البيت وشرب الشاي معنا في معية الوالد ، وإستأذنته لأننا نريد الذهاب إلى البيضاء ، ودعى لنا بالربح دعوات صالحة والسفر والرجوع بسلامة وإنطلقنا  في سيارته الجديدة ، وبعد الساعة والربع من القيادة والأمطار الغزيرة تنهمر وصلنا  ، وسألنا عدة أشخاص عن العنوان حتى وصلنا إلى مكتب الشركة ، وغرقت بنا السيارة في الطين والوحل المبتل من مياه الأمطار وتم إخراجها بصعوبة بعد كفاح مرير وجهد ، وأخيرا وصلنا لمكتب الشركة ، الذي كان بدون أنوار نظير إنقطاع التيار الكهربائي والجميع في الظلام الدامس على ضوء فنار الكيروسين 

كان الحديث مع رفيقي باللغة الإيطالية بطلاقة وأنا ساكت مثل الأطرش في الزفة لا أعرف ماذا يقولون ، ثم أخرج نائب المدير السيد لويجي شنايدر الذي مازلت أذكر أسمه حيث ربطتنا صداقة بعدها ، عدة أوراق ورتبها على الآلة الكاتبة وبدأ يطبع في العقد حتى إنتهى من الطباعة وسلم نسخة منها لي لمراجعتها وكنت لا أعرف اللغة ، ولكن حب الإستطلاع إستلمتها وركزت على مشاهدة الإسم وقيمة السعر أما بقية البيانات لا أفقه فيها أي شىء ، ووجدت إسم رفيقي مرفق مع إسمي في العقد على أنه شريك في العمل مما غضبت وتأسفت على الموضوع ، وقمت بسؤال السيد شنايدر بلغة إنجليزية ركيكة التي  يتكلمها بطلاقة ، لماذا كتبت الإسم ؟؟ ورد علي بأنه قال له أنه شريك ، ولإحراجه قلت له لا ، هذا عبارة عن سائق للتوصيل ، مما جن من الخداع وقال بصوت آمر لرفيقي لماذا تكذب علي ؟؟ وقام بطرده من الغرفة شر طردة ، وأسقط في يده ولم يستطع الرد والمواجهة وخرج من الغرفة وهو يجر أذيال الخزي والعار على الكذب ، ومزق السيد شنايدر العقد ، وخيرني بأي لغة أريد كتابة العقد وقلت له أفضل بالعربية ، وتم الإتفاق بالإنجليزية حيث الوسط بيننا وبدأ يطبع من جديد وهو متأثر مما حدث … وإنتهت الكتابة وسلمني نسخة للمراجعة 

راجعت العقد حسب الفهم والمعرفة وقلت له لا مانع ، ووقعت المستند ، وجاء المدير وراجع وأبدى بعض الملاحظات البسيطة تم إصلاحها بسرعة ووقع العقد نيابة عن الشركة ، ووقع السيد شنايدر كشاهد ، وإستلمت نسخة وأنا فرح مسرور أكاد لا أصدق   وإستأذنت للرجوع إلى درنة 

كان رفيقي ينتظر في السيارة وهو محرج ، وطوال الطريق وهو يحاول أن يرمي باللوم على الإيطالي أنه فهم الموضوع بالخطأ ، وأضاف إسمه على أنه شريك ، وأنا عندي قناعة داخل النفس أنه يكذب  ولكن سايرته ولم أفصح حيث المهم العقد بإسمي ودعه يحترق من الغيظ والهزيمة نظير الخداع وطلب مني عدم إبلاغ الوالد بماذا حدث … حيث الفضيحة واللوم ، ولطمأنينته وعدته وأوفيت بالوعد طوال سنين ولم أذكر الموضوع ، وطيبت خاطره وإعتبرت الموضوع مقفلاً وكأنه لم يحدث ، ووعدته بأن أساعده وسوف يعمل كمندوب مسؤول عن كل تفريغ سفينة على حدة بأجر كبير مما سكت ، ولم يعقب حتى وصلنا إلى مدينة درنة ، ونسيت أنه يخطط لي بخبث لرد الصفعة مستقبلا ويثبت أنه ذكي ، ونسى أن طيبة القلب والسريرة هي الأساس ، وأن الله عز وجل يأخذ بيد الغافلين الصادقين  لبر الأمان والنجاة 

فى يوم 18 ديسمبر 1965م ، تم إبلاغي بوصول أول شحنة إلى ميناء رأس الهلال ، وكانت تجربة جديدة لي حيث ليست لدي المعرفة الجيدة ولا الدراية بالعمل الجديد ولكن حاولت وإستعنت بخبرات الآخرين ، إستعملتهم كأدلاء حتى وصلت مع الأيام للقمة ، وقمت بجميع الإجراءات وساعدت الشركة عن طريق المخلص الجمركي السيد " ع د "  ( رحمه الله ) الذي ربطتني به صداقة خاصة ومعرفة ورشحته وساندته طوال الوقت ورفضت عروض الآخرين ،، وكم كان مستغلاً للشركات بعدها ورفع السعر ولم أمانع وإستفاد ماديا حتى تم الزحف ، وعندما كبر إستخف عقله ونشر غسيلنا القذر مما آلمني الكثير ولكن الله يرحمه 

أبلغت السيد " ع س " بوصول الباخرة وقدم المخلص الجمركي المستندات وأذونات التسليم لإدارة الميناء والجمرك وتمت الإجراءات بسرعة منقطعة النظير ورصفت السفينة وكان إسمها " كاربي " وفتحت العنابر وقام رئيس عرفاء من الجمرك بالإقامة على السفينة عدة أيام حيث لا مكان للإقامة حتى يلاحظ ويشاهد التفريغ وإن الأمور والحمولة تسير حسب المستندات وليست فيها ممنوعات ، وقام البوليس بحراسة السفينة بالميناء المهجورة من أي تعدي من البشر ، وأحضر المندوب " ع س "  رؤساء العمال السادة عبد الله بطاطا و عبد العزيز سلطان مع عمالهم كل صباح بالفجر حتى المساء لعدة أيام إلى  رأس الهلال للعمل والتفريغ والأكل من فطور وغداء وكأنها حفلة خاصة ، وأحضرت الشركة عرباتها ذات  النقل الثقيل لتحميل المواد إلى موقع العمل بالبيضاء ، وتمت الأمور سلسة بهدوء وكل شىء على مايرام مما ذهلت من السلاسة والسهولة وكنت سعيدا للغاية أنني نجحت في أول التجربة العملية الفعلية وتم تفريغ السفينة وغادرت إلى إيطاليا ، وقدمت الفاتورة للشركة للدفع 

جاءت السفينة الثانية والثالثة وبدأت المتاعب ، أولاً من أصحاب المنطقة حيث يريدون المشاركة في العمل والمناولة بعمالهم ولا يريدون العمالة القادمة من مدينة درنة ، والمشكلة الثانية السواقين من المناطق بلدات سوسة وشحات والبيضاء ، رفضوا عمل عربات الشركة في النقل الثقيل وأن الحق لهم بالعمل بعرباتهم الكبيرة الخاصة مما لهم وجهة حق 

إستشرت الوالد لأخذ الرأي ، وإقترح أن أتعامل مع السائقين  وأضعهم في صفي حسب الحق والقانون والعرف وأن لا أبخل ولا أتحدى حتى لا تزيد الكراهية وأتعب ، وكان نعم الرأي الحكيم ، وطبقته ومع الوقت نجحت وعمل الجميع برضاء تام وإستفدت كثيرا بحيث تم إرضاء جميع الأطراف الخصوم والشركة ، وإستمر العمل بسهولة وسلاسة ، ونجحت في التجربة والهزة الأولى وإستفدت حكمة وخبرة ، العمل وقيادة الرجال  ثم بدأت المشاكل مع العمالة تتفاقم حيث فى أحد الأيام أثناء مناولة وتفريغ السفينة الثالثة قام البعض من المجانين المحليين في موقع معسكر رأس الهلال بالليل بإفراغ الهواء من إطارات سيارات النقل الثقيل المحملة بالبضائع والمواد والمصطفة في طابور واحد بعيد ا عن المخيم حيث الإدارة والسكن  

قام السائقون الإيطاليون في الفجر للذهاب إلى البيضاء وتعطلوا بعض الوقت حتى تم ملء الإطارات بالهواء من العربات نفسها ، وكان الأمر في صالحي حيث طلبت إدارة الشركة أن أتولى الموضوع  ، وفعلاً أشركت طابورا من عربات النقل الليبية مع الأخريات حتى إمتصصت الغضب والتذمر مع الوقت وأصبح العمل يسير بخطوات جيدة ، وإستراحت  جميع الأطراف عن اللعب بالنار وخلق المشاكل من لا شىء 

بدأت أبحث عن شريك محلي من المنطقة أعتمد عليه ، وأحد الأيام سألت أحد الخفراء وكان خفيرا في الموقع وفي نفس الوقت يرعى بقطيع من الشياه فى الغابة القريبة حيث يسكن بالصيف في خيمة كبيرة من الشعر والصوف ، وسألته من هو الشيخ في المنطقة ؟؟ وأين يسكن ؟؟ ورد علي وقال الشيخ فتح الله بوسهيم  ويسكن في الدبوسية ، وأعطيته ورقة نقدية ذات خمس جنيهات وقلت له بلغ الشيخ أنني غدا بالمغرب سوف آتي لزيارته ، وطار من الفرحة حيث المبلغ كبير بالنسبة له 

اليوم الثاني إشتريت خروفا وبعض اللوازم من المواد الغذائية حسب العادات وحملتهم بالسيارة وأخذت المنوب " ع س " وذهبت إلى الدبوسية لملاقاة الشيخ حسب الوعد ، وكانت أول مرة أدخل إلى المنطقة ، وسألنا عدة مرات حتى وصلنا إلى مكان إقامة الشيخ ، وكان بيتا متواضعا من الزنك والخشب ورحب بنا ترحيبا كبيرا ودخلنا إلى غرفة الضيوف  ، وقدم لنا الشاي وتناولنا الحديث وقدمت له نفسي وتعرف على عمي ووالدي وزاد الترحيب والسلام نظير المعرفة وإطمأن لحديث العمل حيث العائلة مشهورة وقتها بالطيبة والصدق ، وفوجئت بأن الشيخ يعرف عن التفريغ والمناولة أكثر مني بمراحل حيث قام بالسابق عدة سنوات بتفريغ المواسير الضخمة لشركة " مانسمان " الألمانية للمقاولات عندما مدت خطوط مواسير المياه عشرات الكيلومترات إلى مدينة البيضاء وحواليها من نبع المياه في الدبوسية …

بعد أخذ وعطاء وجدال أردت حسم الأمر وطلبت من الشيخ ماذا يستطيع أن يقدم من خدمات وكم الحصة ، وقال خدماتي أنا المسؤول عن المناولة والتفريغ ضمن مجموعتي ولي حصة 50% من قيمة فاتورة المناولة بعد خصم المصاريف ، وقلت له مبروك 

                                                  رجب المبروك زعطوط

البقية في الحلقة القادمة…

No comments:

Post a Comment