Tuesday, September 18, 2012

شاهد على العصر 11

بسم الله الرحمن الرحيم 


شاهد على العصر 
(11)


… تدخلت في منتصف الأمر حيث لا نرغب في حدوث معركة وجاءت بسرعة دورية من الجمارك ونزل رئيس العرفاء وبدون أن يسأل ويتأكد حيث السائق إبن عم له ، قبض على العامل التشادي وضربه بقسوة بالحزام الذي فكه من وسطه وبنهايته حلقات نحاسية على وجهه مما استكان الجميع حيث يخافون ويحترمون الحكومة ، ووضع القيود بيده وأخذه إلى المكتب حتى يبت المأمور في الأمر على أن  يحل المشكلة أو يحولها للنيابة 

تم طلبي كشاهد رئيسي ، وفتح المأمور ملف قضية للتحقيق وقدم لي مصحف لحلف اليمين بأن أقول الحق وحلفت أن أقول الحق والصدق حسبما شاهدت وكان السائق الليبي " ح ق " صديقي وأعرف عائلته وإخوته جيداً وبعض الأحيان اسهر مع إخوته  ليالي الصيف على السطح في بيوتهم   وكان يتوقع أن أشهد لصالحه ، ولكن حكيت بصدق وشهدت بالحق لصالح العامل التشادي الذي كان يتوقع ضرره وعدم شهادتي بالحق ، مما غير مسار القضية  لصالحه  وأمر المأمور بفك سراحه والإعتذار له عن الضرب مما سامح ، وأمر بعدم دخول السائق للميناء مدة شهر كعقاب على العنف والتعدي … ومن ثم صار يدخل سيارته الكبيرة للنقل وسط الدور عن طريق أحد السائقين الآخرين وعندما تحمل يخرج بها خارج الحظيرة الجمركية ليستلمها من جديد … أما عن رئيس العرفاء ، فقد تم تاخير ترقيته لمدة عام بسبب الضرب والإهانة للمتهم قبل الإدانة وهو برئ 

خرج التشاديون وهم فرحى بشهادة الحق التي أدليت بها يحاولون مصافحتي والعائلة الآخرى غضبوا من الحق وأصبحت عدوا لهم لأنني لم أشهد بالزور والبهتان لصالح أخيهم على الخطأ والظلم ، وبالنسبة لي غير كنت مهتم و المهم عندي قول الحق لأنني مؤمن تمام الإيمان أنني يوماً ما سوف أموت وأدخل القبر ولا أريد أن أحاسب من الله عز وجل على شهادة الزور والبهتان مهما كلف الأمر من تضحيات ، واستمر العمل اليوم الثاني بقوة  والعمال التشاديون يعملون وهم يصدحون بأغاني وأهازيج  لا نعرف معانيها … وكأن شيئاً لم يحدث ونلت حظوة وتقديراً وإحتراماً بلا حدود في  أوساطهم وأصبحت الخزينة حيث يودعون مالهم لدي في لفائف مبرومة والويل أن استعملت البعض منه خلال مدة الوديعة وأعطيتهم نفس المبلغ أوراقا  نقدية أخرى وكنت اسجل الإسم على الوديعة وأرميها في الخزنة الكبيرة كما هي حتى يأتي يوم طلبها مما الجميع سعداء وإذا إحتجت إلى عمال لتفريغ السيارات بالليل حتى لا أدفع مبلغ تأخير عن كل ليلة للسائق ( سوسته )  وابعث لهم يأتون بالعشرات وينتهي التفريغ للسيارات عشرات الأطنان في ساعات قليلة في المخزن بشركة زعطوط لمواد البناء وأدفع لهم أجورهم وكانوا سعداء أنهم قدموا لي خدماتهم …

كانوا رجالاً صعب معاملتهم بسهولة وحراسا وخفراء في المخازن والساحات لا يستطيع أي سارق أن يتجرأ عليهم حيث لا مفاهمة ولا مجاملة  ولدي قصص لعشرات الحالات ، التي حدثت ومن ناحيتي الله سبحانه وتعالى يسامحهم فقد كانوا أوفياء يعملون ويكدحون بالعرق من الجبين وحلال كل قرش جنوه 

استمريت في العمل والنجاح كل يوم تفتح الأبواب أمامي وفازت عدة شركات بعقود مقاولات وبناء في إعمار المدينة الجديدة البيضاء ووقعت عقودا محلية لتزويدها بمواد البناء وأهمها الاسمنت والجير الأبيض الذي كان يستعمل مع الاسمنت وقتها في اللياسة لحوائط البناء مما كل شهر أحتاج إلى استيراد كميات كبيرة منه إلى ليبيا ، وتعاملت مع شركات عديدة أذكر بعضها منها شركة يغوسلافية لبناء الجامعة الاسلامية وشركة إيطالية اسمها " ماسالفيرى " على  ما أعتقد وراءها مقاول ليبي من إجدابيا الحاج علي النايض الذي تعرفت به لاحقاً وشركة أخرى إيطالية سويسرية اسمها " س ش س"  وشركة فرنسية نسيت اسمها لمد خطوط الضغط العالي للكهرباء وتحتاج إلى كميات اسمنت لعمل عشرات الآلاف من القواعد للأبراج العالية ، كانت أياماً جميلة مرت بسهولة من أعمارنا ونحن نجري ليلاً نهاراً وراء الأعمال والبحث عن المزيد والصرف بدون حساب بدون تخطيط وكان العمل لا ينضب ويتوقف والأرباح تزيد طوال الوقت … وأذكر حادثة كانت لها معايير كثيرة وتغيير حيث يوما كنت بالبيضاء لدى شركة ريفيللي ولي عندهم مبلغ كبير في ذاك الوقت وكانوا ينتظرون  مبلغاً كبيراً يدفع لهم من مؤسسة الاسكان ، وحضرت إجتماعا مع صاحب الشركة السيد ريفيللي شخصيا ومديره العام للمشروع ، وتم الإجتماع على أن يدفعوا لي جميع المستحقات دفعة واحدة عندما يستلمون مبالغهم من المؤسسة وبحضور مدير الإدارة السيد كومو تومازو الذي تعرفت عليه من قبل أيام توقيع العقد و الذي سوف يكون المسؤول في غياب المدير ووافقت على الإنتظار حيث المالك والمدير مسافرون إلى إيطاليا في رحلة عمل 

إنتظرت عدة أيام حتى استلمت الشركة دفعة بسيطة وليست كاملة ونظير الوعد من المدير بالدفع الكامل وعدم فهمي بالضبط ، وقابلت السيد كومو تومازو وكان جالسا على مكتبه وكنت مقابله وفتح الدرج وأخرج منه عدة  صكوك موقعة وقدم لي أحدها ، وطلب مني توقيع إيصال بالاستلام للصك وتطلعت للرقم وكم  هالني الأمر حيث الرقم قليل لا يتجاوز  عشرة بالمائة من المبلغ المطلوب ورددت له الصك وقلت له ليس هذا الرقم ضمن الإتفاق المتفق عليه معي يوم الإجتماع مع  السيد ريفللي والمدير ،  ورد علي برد جاف وقال هذا ما لدي لك … مما غضبت وبعد أخذ وعطاء وصوت عالي حاولت صفعه  حيث كان عديم الأخلاق ، وتدخل الآخرون لفض الإشتباك وقلت له قسما عظما سوف أخرجك من ليبيا ياعديم الأخلاق في فورة غيظ وغضب ورجعت إلى مدينة درنة وأنا أقود  السيارة  و أكاد أبكي من الغيظ فقد خلقت عدوا داخل الشركة بدلاً من صديق ولم أقبض شيئا 

في اليوم الثاني كان لدي سفينتان تحملان اسمنت والساعة الثامنة كنت بمركز الميناء في مكتب مأمور الجمرك السيد عبد الهادي المسلاتي لعمل التصاريح  ودفع الرسوم الجمركية البسيطة حتى ترصف السفن ونبدأ في التنزيل والتفريغ ،  كنا أصدقاء وعندما ألقيت تحية الصباح عليه ، رد علي بجفاف وبرود بلهجة نابية  لم أتعودها منه من قبل ، بأنه لا يستطيع عمل أي شئ لي ولما حاولت المعرفة حاول وقف الحديث وقال لدي تعليمات من الإدارة بأن أوقف جميع أعمالك ، وقلت له  بعنف بأنه لا تستطيع :"لا أنت ولا غيرك المنع فأنا مواطن ولدي الرخص والحق!" 

كان المأمور يخاف من الإدارة ورؤسائه حيث كان يطبق التعليمات حرفيا بدون أية تجاوزات ، وقلت له وما العمل بهاتين السفينتين؟ ورد علي بغلظة وقال ليست مشكلتي ولن أصرح لك بالتفريغ حتى تصلني تعليمات من الإدارة بذلك وأرجوك لا أريد مشاكل

عرفت السر أن أحد الوشاة يحاول وضع العراقيل أمامي وحاولت المعرفة ولم أهتدي إلى لب الموضوع ، ولا استطيع تعطيل السفن وإلا سوف أدفع مبالغ كبيرة تأخير وتعطيل للسفن على الإنتظار في الميناء ( ديمورج ) ، وإتصلت بالهاتف  بصهري في بنغازي  ليعرف المشكلة لدى الإدارة العامة للجمارك  ومن أمر بالمنع ؟

 حوالي منتصف النهار إتصل بالهاتف و قال أنه عرف الموضوع ويريد مني مقابلته أمام الجامعة الاسلامية بمدينة البيضاء بعد ساعتين ، وخرجت للبيضاء وقدت مسافة المائة كم وإنتظرت حوالي الساعة حتى وصل من بنغازي ، وبعد التحية والسلام قال إتبعنى ، وقدت السيارة خلفه حتى وصلنا لسكن عضو الشيوخ السيد عمر بوغندوره البرعصي ، وكان أمام مدخل فيلا السكن عسكري من قوة دفاع برقة كحارس حتى لا يتعدى عليه أحد ، وطلب منه الحاج الإذن بالدخول وإعلام العضو المحترم بوصولنا حيث كان لديه العلم ، مما خلال دقائق كنا في صالون الاستقبال ننتظر 

دخل العضو الحاج عمر وهو يرتدي جلبابا صوفيا (روب) وعانق الحاج محمد صهري حيث كانوا أصدقاء وساعده صهري في التزكية لمجلس النواب ، ولامه الحاج على تصرفاته تجاهي وأنني إبن عمه وزوج إبنته وأحمر وجه الحاج عمر وقال أنا أسف وبدا يعتذر على التصرف الذي حدث منه في ساعة غضب ، وامسك بالهاتف الكبير وبدا بيده يدور في ترس دورات عديدة حتى فتح الخط وقال للبدالة بأن توصله بوزير المالية السيد محمد بوربيدة الدرسي وعندما كان على الخط قال له بصوت مسموع منا :"يا محمد…" ، باللهجة الليبية ، "بل راسك حتى تحسنه عندي!"  أي بمعنى تعال بسرعة حيث صديقنا وأخونا الحاج نائب مدينة درنة عندي بالبيت ، زائد كل الكلام الذي قلته لك بالأمس عن الوكيل جميعها غلط فهو إبننا وقريب الحاج وأنزل السماعة ووجهه متهلل وقال خلال وقت بسيط سيكون هنا ، وبدا يعتذر مرة ومرات أخرى وأنا مستغرب من الأمر 

قال لي الحاج أرحل وتسائلت عن السفن التي بالميناء ، ضحك وقال غداً ستجد الأمر مرتب ، وسلمت على الحاج عمر بأدب وخرجت راجعا إلى درنة ، واليوم الثاني بالصباح الساعة الثامنة كالعادة في مكتب المأمور الذي وجدته مسروراً سعيداً وبعد التحية قال لي لقد تغير الموضوع لصالحك بالأمس الحكومة ضدك والبارحة لدي تعليمات من مدير عام الجمرك في المملكة  بأن نتعاون معك لاقصى الحدود ، دع السفن ترصف وإبدأ في التفريغ سواءا قمت بالإجراءات اليوم أو الغد لك جميع الصلاحيات وبداء الرصف والعمل في التفريغ ساعة الضحى 

عرفت بعدها القصة كاملة ، حيث الحاج عمر بوغندورة وكيل لشركة ريفيللي والمسؤول عنها وحضر مدير الادارة كومو تومازو له وأعلمه بالمشاكسة معي وأنني هددته بالطرد من ليبيا ، وبالليل كان معه في السهرة والسمر صديقه وزير المالية  والجمرك أحد الإدارات التابعة له مما طلب منه مضايقتي وفعلاً إتصل الوزير بوكيل الوزارة وأعلمه بالأمر وضغط عليه ، ثم قام الوكيل بالإتصال بمدير عام الجمرك في المملكة وبعده مع المراقب العام في بنغازي والمراقب إتصل بالمأمور في درنة وتم المنع والتعطيل واليوم الثاني بعد اللقاء في بيت الحاج عمر وجاء الوزير والعشاء والسهرة تغيرت الأمور ونفس الدورة من الإتصالات لصالحي مما استغربت من الأمر وكيف الحكومات في دول العالم وبالأخص في دول العالم الثالث تدار بنفس العقلية مما مصالح الكثيرين تضيع وسط المتاهات والخصومات والتحديات ، أليس ذلك  بأمر مؤسف ومأساة ؟

المهم حرثت على الجمرك في درنة طوال الوقت حتى قام الإنقلاب الاسود بعدها بسنوات ولم تتعطل مصالحي والسبب العراك مع السيد كومو تومازو الذي كان أحد الأسباب القوية في زيادة النفوذ والشهرة بدل إيقافي ، عندما إشتكى منى ، وبعدها بفترة من اللوم والعتاب اصبحنا من أعز الأصدقاء ولم تتعطل مصالحي معهم ، فكل شئ واضح وسليم وأتعامل معهم بشرف ومصداقية وضمير 

رجب المبروك زعطوط 

 

No comments:

Post a Comment