بسم الله الرحمن الرحيم
الحاج علي المكاوي
اي منطقة في الوطن ليبيا من مدن وقرى ونجوع وتجمعات البادية بالصحراء لديهم العديد من الحكايات والقصص عن الأبطال والجنود المجهولين الذين قدموا الكثير من التضحيات والفداء من أجل حرية الوطن ضد الأعداء بدون ذكر وعلم لأبناء الشعب الآخرين ضمن الاعلام ، حتى يعرفوا البطولات وتستمر الذكرى العطرة الوطنية تفوح بالبطولات والأمجاد إلى ماشاء الله تعالى يذكرون فيها بالخير والشكر والثناء... توفاهم الله عز وجل وضاعت الأسرار في ظلام القبور نظير عدم التدوين والكتابة على الورق مما تلاشت ولم تستمر ، وقصتنا البسيطة في محتواها والكبيرة فى معانيها. حدثت في مدينة درنة المجاهدة قبل إستسلام الدولة العثمانية بشروط الصلح والمعاهدة بين الدولتين المشؤومة والتخلي عن الجهاد ومساندة الثوار (المحافظية) في أصعب الظروف الحالكة وترك ليبيا للغزاة الإيطاليين وكأنها ملك لها ، لها دلائل عظيمة في رفع الروح المعنوية والحب والولاء للوطن مهما كانت الظروف قاسية وصعبة للأجيال القادمة .
أثناء الغزو الايطالي والإحتلال للوطن ليبيا تمكنت دورية من جنود جيش الاحتلال من القضاء على مجموعة من الانتحاريين الثوار المجاهدين الشباب الليبي الذين تم التدريب لهم في تركيا للجهاد ضد العدو عندما كانوا يقومون بقطع أسلاك التلغراف ونشر الأعمدة الخشبية حتى تسقط و تتوقف الاتصالات اللاسلكية للعدو مع مقرات قيادته في بنغازي وطرابلس وروما ويصبح يتخبط في ظلام بلا معلومات قيمة تفيد .
تم عرض جثث القتلى الضحايا في ساحة المدينة الرئيسية تحت أنظار الكثير من الأهالي للمرور والتعرف على أي قتيل من الضحايا ضمن كتابة قائمة طويلة بأسماء الحضور المشاهدين وشاءت الصدف ومر بطلنا الشاب (علي المكاوي) وشاهد جثة أخيه الشقيق صريعا مقتولا ضمن الضحايا مسجيا على الأرض ، وسكت وصمت وتمالك نفسه بقوة وصبر ولم يعتريه الارتباك ولا الخوف والدهشة خوفا على بقية العائلة من الحساب والعقاب والملاحقة ومر مرور الكرام وكأنه لا يعرف أحدا من الضحايا القتلى ، أمام العيون الفاحصة من الحراس والوشاة المحليين لأي تصرف قد يحدث من المارين يجعلهم يشكون في أي بادرة .
مرت الأسابيع وعرف الغزاة بالمتابعة والملاحقة للموضوع بعض الاسماء للقتلى وشقيقه من ضمنهم من الوشاة والعملاء المندسين لقاء العمالة من بعض المحليين الخونة والمكافئات المالية الجزيلة ، وتم القبض عليه بحجة عدم ذكر الحقيقة والتعاون مع المقاومة في السر وكان محظوظا يوم المحكمة حيث لم يصدر القاضي الحكم عليه بالشنق الفوري حسب العادة للإرهاب بل صدر الحكم عليه بالنفي لمدة طويلة في احد المعتقلات الرهيبة (أوستيكا) في جزيرة من جزر ايطاليا العديدة .
كان من العادة تجميع السجناء والترحيل من ميناء طبرق وقتها للمعتقل ، وصعد السفينة مع غيره من السجناء وهو مكبلا بالأغلال والقيود الحديدية وكان الفصل شتاءا والبرد قارسا والبحر هائجا والأمواج عالية عدة أمتار عندما خرجت السفينة من حيز الميناء الآمن المحمي من الجبل إلى البحر الواسع الفسيح... وشاء حسن حظ السجين ان الطباخ كان بحاجة إلى معاونين للتنظيف وغسل الصحون والكنس وتجميع القمامة مما تم فك الأغلال والقيود من يديه مع آخرين للعمل. وجلس الحراس على احد الطاولات يتسامرون ويلعبون الورق تاركين بنادقهم بجانبهم على الجدار في متناول اليد في أي لحظة يحتاجونها .
وعمل الشاب السجين (علي) في غسل الصحون وجمع القمامة ووضعها في البرميل المخصص لرميها في البحر حسب العادة ، وتطلع وشاهد من بعيد خلال زجاج النوافذ نورا بالكاد يظهر ويسطع بين الحين والآخر خلال الظلام وبخبرته في العمل بالبحر سنين عديدة تأكد أنه نور منارة درنة (سيدي بوعزة) مما فرح داخل نفسه ولم يشعر اي احد من الموجودين بالمطبخ والحراس بنواياه وماذا يعتزم فعله؟ وكان الموج عاليا والسفينة تشق في طريقها بصعوبة وهي تتأرجح مثل القشة في البحر الواسع ، والشاب علي كان سباحا جيدا مشهورا في المدينة نظير طول قامته ونحافته بكناية (طير البحر) وعرف في قرارة نفسه انها فرصته الوحيدة للهرب والمخاطرة بالنفس حيث لا تتوفر طوال الوقت مثل هذه العاصفة والفرصة من أجل النجاة بالنفس وطلب من الحراس الإذن بالمرور من الباب ليرمي القمامة .
ولم تخطر على بال الحراس انه يخطط للهرب في هذا الطقس الصعب والموج الهادر مما سوف يغرق لا محالة بسرعة ، وتثاقل أحدهم وفتح الباب بصعوبة من قوة وشدة الرياح العاصفة الباردة وخرج الشاب علي وجمع الأنفاس من هواء البحر النقي العاصف حاملا البرميل ورمى القمامة في البحر ، وفجأة وبدون ان يدري الحارس رمي البرميل عليه بقوة مما الحارس لا شعوريا تراجع للخلف لإتقاء الضربة ،المفاجئة والشاب البطل (علي) قفز قفزة بهلوانية إلى البحر وغاب في ظلام الليل وسط الأمواج العالية وقام الحارس وتمالك نفسه وأطلق عدة عيارات نارية في اتجاه السجين بدون تحديد الهدف بوضوح .
وخرج الحراس الآخرون بسرعة عندما سمعوا صوت الرصاص وهروب السجين ، وتكررت القصة والقيام برمي وابل من النيران الكثيفة عشوائيا في الاتجاه عسى ان تصيب أحد الرصاصات السجين الهارب لتشله عن السباحة أو تقتله ، ولم يكن بالإمكان وقف السفينة بسهولة في الظلام وهدير العاصفة القوية على سجين ليبي محلي لا يؤلف ولا يساوي بالنسبة لهم شيئا وكأنه حشرة ضارة ، ومضت السفينة بدون توقف في وجهتها إلى إيطاليا .
الشاب (علي) كان سباحا ماهرا ذو عزيمة ومعرفة بالتيارات البحرية بالمنطقة حيث يهوى البحر ويعشقه واستمر في السباحة بهدوء تاركا جسمه بالكاد يطفح على سطح البحر الهائج مع التيار الذي يرمي إلى الشاطئ حتى لا يتعب وبجهد وتخور قواه بسرعة ويغرق ، وإستمر يقاوم من أجل الحياة طوال الليل مسافة طويلة حتى بدأ الشاطئ يلوح من خلال أنوار المدينة البعيدة التي بدأت تتضح رويدا رويدا وهو يجاهد من أجل الحياة حتى وصل وداست أقدامه اليابسة عند الفجر، منهكا غير مصدق نفسه أنه وصل حيا يرزق ويتنفس... وتسلل من خلال الطرقات الضيقة الترابية والممرات الخلفية الزراعية الغير مطروقة والتي شبه مهجورة وسط الحقول والمزارع التي يعرفها جيدا حتى وصل مزرعتهم وبيت العائلة وهو في آخر رمق يرتعد من الحمى والبرد .
فرحت العائلة بوصوله ونجاته من العدو والغرق وتم اخفاؤه جيدا في فجوة صغيرة داخل البئر من الصعب اكتشافها من الغير إلا عن طريق واشي جاسوس يعرف المكان جيدا أو سمع به من الغير ، وحسب ماتوقعت العائلة حضرت بعد ايام دورية جنود من الإيطاليين وقاموا بالمداهمة فجأة وتم تفتيش البيت والحقل الكبير بدقة ، ومراجعة قاع البئر والمشاهدة من الأعلى بتمعن وأحدهم رمى عدة أحجارا ثقيلة للتأكيد حتى سمع أرتطامها مع الماء بقوة عسى ان يسمع اي صرخة في حالة كان السجين مختبئا تحت في القاع ولكن الله تعالى ستر ومرت الأزمة والمداهمة بسلام .
ولتأكيد الإختفاء والفقد أعلنت العائلة خبر غرقه وموته في البحر بناءا على الرواية الايطالية واقامت مجلس عزاء وحضر الكثيرون من المعارف والجيران وبعض العيون المندسة يترحمون عليه لذر الرماد في العيون وقطع ومنع تداول الكلام والحديث والتساؤلات عنه مع الوقت . وإستمرت العائلة تحت المراقبة الطويلة لشهور عسى سماع اي خبر ولكن بدون جدوى حيث البطل لبس لباس إمرأة مثل الأخريات من نساء العائلة وعمل طوال الوقت في الحقل الكبير الواسع بدون أي إختلاط مع اي نسوة من الجيران يأتين للزيارات عفويا أو أخريات في اي مناسبة كانت خوفا من الشك والمعرفة و تسرب الخبر للسلطة وعندها الويل والهلاك لجميع العائلة على حماية السجين .
إستمر الشاب "علي" سنوات عديدة على الامر في العمل بالحقل والمواراة والخفاء يعيش في ترقب من المداهمة جاهزا للهرب في اي لحظة يشعر فيها بالخطر مما السلطة مع مرور الوقت والزمن اعتبرت السجين مات غريقا في البحر ولم يتم العثور على الجثة، التي في العادة تقوم التيارات البحرية برميها إلى الشاطئ... وقفل الملف للأبد ويقال همسا في أوساط العائلة القريبين انه كان يتم تسجيل ابنائه المواليد في سجلات البلدية بإسم احد إخوته ذرا للرماد في العيون.
لقد سمعت هذه الحكاية عدة مرات أثناء السهر والسمر عن ماحدث في مدينتنا درنة من بطولات وأحداث وطنية من رواة ثقات صادقين وكنت في بعض الاحيان أمر من شارع الفنار في السبعينات وأشاهد العجوز الحاج علي ، البطل في شيخوخته وتقاعده، ذو الشعر واللحية البيضاء الطويلة والنظارات الطبية الكبيرة، جالسا على كرسيا مقابل بيته في الظل أوقات الضحى بالصباح أو بعد العصر في شارع الفنار للترويح عن النفس وبيده عكازه والمارة يطلقون عليه التحيات والسلام تقديرا وإحتراما لسنه وعمره وهو يرد على الجميع وكنت أنا من ضمنهم في بعض الاحيان ...
لقد خاطر (الحاج علي المكاوي) بالنفس وقفز في البحر الهائج وسبح حوالي 20 كم من اجل انقاذ نفسه والحياة حبا وولاءا للوطن ليعيش فيه معززا مكرما بدلا من البقاء سجينا والعيش في المجهول ضمن العذاب والقهر في إيطاليا ، وكان بإمكانه بسهولة التسلل والهجرة إلى دول الجوار في المنطقة الشرقية إلى مصر وفلسطين والشام أو السودان بالجنوب كما فعل الكثيرون ، طلبا للنجاة من الضيق والمعاناة من العدو الغاشم .
مثل نوعيات هؤلاء الرجال المجاهدين ذوي العزم والقوة المناضلين هم الآباء والجدود للشباب الثوار الأجيال الحاضرة الآن ، حيث نفس الدم الساخن بالوطنية والولاء وحب الله تعالى و الوطن ينساب ويجري بالشرايين والعروق بقوة ، وهذا هو السر الغامض ، سر التحدي والصمود للثوار الشباب في التمرد والثورة الدموية والتضحيات الكبيرة ضد الطاغية القذافي والذي عجز عن فهمه الكثيرون من الدول والأفراد المحللين لسير المعارك والبطولات...والله الموفق .
رجب المبروك زعطوط
البقية تتبع...
No comments:
Post a Comment