Tuesday, August 14, 2012

شاهد على العصر



                                                   بسم الله الرحمن الرحيم
 
                                                          1
 
                                                 شاهد على العصر

                                     
                 الحمد لله رب العالمين أن أعطاني العمر وعشت وشاهدت الكثير خلال مدة 6 عقود إبتداءا من بدايات إستقلال ليبيا سنة 1951م حيث كنت صغيرا يافع السن طالبا في المدرسة الإبتدائية  أيام العهد الملكي ، وتركت الدراسة في الثانوية نهاية سنة 1958م ولم أكمل المشوار لتحصيل العلم ودخلت مضطرا وقتها لعالم التجارة والأعمال بناءا على طلب الوالد لمساعدته في المحل  التجاري الذي كان يملكه حيث إنتقل إلى بلدة إمساعد الحدود الشرقية مع مصر في أواخر الخمسينات نظير الكساد الرهيب الذي منيت به مدينتنا درنة عندما خرجت القوات الإنجليزية المرابطة بالمدينة نظير التمرد والثورات المتكررة والعداء من الشعب لهم لقاء هزيمة مصر في العدوان الثلاثي نتيجة تأميم  قناة السويس سنة 1956م …

 وزاد الكره والعنف والهياج الوطني لإسرائيل وبريطانيا وفرنسا قوة نتيجة خطب الرئيس عبدالناصر النارية الملتهبة وبوقه أحمد سعيد ذو الصوت القوي المجلجل  من راديو صوت العرب من القاهرة التي كانت معظمها أكاذيب وتدليس وتهييج الشعور لدى السذج البسطاء من المحيط للخليج ، حيث الإعلام المصري وقتها يعمل من الحبة قبة ، مما أخاف العهد الملكي على إستقرار العرش وتم الإتفاق بين القصر و الإنجليز على جلاء القوات المرابطة وترك المدينة وإستقرت معظم القيادة الأنجليزية  في بنغازي والبقية في مدينة طبرق قاعدة العدم وضاعت على سكان مدينة درنه الفرصة الذهبية لقاء المغالاة في الوطنية وعدم إستعمال العقل والحنكة في إدارة المدينة للعيش ضمن الحركة والدورة التجارية والإستقرار مما نتج عنه الكساد التجاري الذي عم بالسوق حيث لا بيع ولا شراء وإضطر الشباب المغامرون للهجرة إلى طبرق شرقا والبيضاء وبنغازي وطرابلس غرباً والبعض للخارج سعيا وراء الرزق ولقمة العيش الشريف ، وفي سنوات بسيطة أصبحت المدينة خاوية من أهاليها …

كان الوالد يريدني بجانبه وتحت ناظريه ، لا يريد تركي للعيش مع أحد من أقاربنا سواءا عمي أو أخوالي في مدينة درنة حيث كنت أصغر الأولاد بأسرته  ، وكنت تلك الأيام غاضبا على ترك المدرسة ومدينتي الجميلة الفيحاء وقتها ورفاقي وأصدقائي والذهاب إلى دار الخيالة ( السينما ) بعض الأحيان مع أخي الأكبر الحاج صالح ( رحمه الله ) لمشاهدة الأفلام لرعاة البقر الأمريكية التي كنت أعشقها ، ووجدت نفسي ليل يوم 1958/12/31م  في بلدة إمساعد ( كابوتزو ) الحدود الشرقية مع الجارة مصر  في منطقة قاحلة ليس بها حياة غير عدة بيوت للسكن ومباني حكومية مركز الشرطة ( قوة دفاع برقة ) والجوازات ( البوليس الإتحادي ) والجمرك وبعض الدكاكين  لبيع  السلع الكثيرة الغربية القادمة من أوروبا وأمريكا التي وقتها كانت مصر أيام قمة الإشتراكية في عهد الثورة ، عهد الرئيس جمال عبدالناصر تعاني في حكم العسكر لا تستطيع  الإستيراد حيث لا نقد أجنبي لديها ومحاصرة من الغرب ، نظير تحالفها مع الشرق الإتحاد السوفياتي الشيوعي  وقتها ، العدو اللدود للغرب …

وكان التجار الليبيون يستوردون البضائع من أوروبا والشاي من سيلان الهند وتفرغ البضائع في ميناء بنغازي العميق ذو الخطوط الملاحية العديدة بدلا من ميناء طبرق القريب ، ويتم نقلها بالسيارات الكبيرة برا حوالي 600 كم إلى بلدة إمساعد على الحدود وتباع للتجار المصريين الذين يقومون بتهريبها وتمريرها عبر الحدود بطرق شيطانية ورشاوى لضعاف النفوس من رجال الدوريات الليبية والمصرية حتى يغمضون العيون ولا يتم الحجز  ولا المصادرة حيث الطلب كبير عليها في السوق المصرية والذي كان يصل للبلدة يومياً من بكميات مهولة سواءا لمصر أو لليبيا وقتها يباع في الحال مما نشطت التجارة بقوة وكثيرون أصبحوا من كبار التجار ذوي المال في فترة وجيزة …

كان البيع للزبائن يتم بعملة الدولتين ، الجنيه الليبي والجنيه المصري الذي كان يصرف في السوق السوداء المحلية حيث كان غير معتمد لدى المصارف في ليبيا التي كانت ضمن هيمنة الغرب ( الجنيه الإسترليني ) و يتم الشراء للبضائع والمنتوجات المصرية من المواد الغذائية وبالأخص الأرز المصري المشهور عالمياً والمواد الزراعية مثل البصل والفول والفواكه وأشياءا عديدة من الصناعات الخفيفة التي كانت تصل للسوق الليبي عن طريق التهريب عبر الحدود التي كانت تنتجها مصر وأسعارها مناسبة حيث السوق الليبي وقتها بحاجة لها ، ولم نكن نعرف أسواق آسيا بعد غير إستيراد الشاي من سيلان و الهند حيث الصين في قمة الشيوعية مغلقة على العالم وبدأ نجم دولة اليابان في الظهور والصعود في الصناعات ولكن جميع أبناء الشعب كانوا لا يحبذون الشراء حيث يعتبرونها في المرتبة الثانية أو الثالثة بعد دول أوروبا  وأمريكا …

قضيت وقتا جميلاً حوالي 18 شهراً  في بلدة إمساعد في المحل مع الوالد ، وأخي الكبير الحاج صالح (رحمه الله)  كانت مهمته إستيراد وإحضار البضائع من درنة وبنغازي لتزويد المحل ، وكانت لديه سيارة نقل كبيرة تم إصلاحها من مخلفات الحرب العالمية الثانية ، يشتري البضائع المصرية ويبيعها في درنة وكان كل أسبوع يقوم برحلة ذهابا وإيابا ، وأول درس أسنده الوالد لي كان الإهتمام بنظافة المحل والسلع من الغبار الذي كان مستمراً طوال الوقت نتيجة هبوب الرياح ، وكنت أشعر بثورة داخلية وأعتبر الأمر مهانة فلست بعامل أجير حتى أتنازل وأعمل في التنظيف ، والوالد لديه الإمكانية لإستئجار عامل نظافة ،  وإكتشفت الأمر بعد فترة ، سياسة الوالد الذي كان يختبرني ويدربني على الإعتماد على النفس والبدأ من البسيط حتى أصل إلى الكبير مع الوقت ، وتدرجت خطوة خطوة في العلم والمعرفة لأصول التجارة التي تعتمد على الصدق في الوعد والعهد وإستقراء الأحداث بحيث يكون التاجر مستعداً للسوق ومتطلباته وقت الحاجة ، والمغامرة والإقدام في جلب السلع الجيدة وتخفيض الأسعار ومساعدة الزبائن قدر الإمكان باللقاء الحسن البشوش  والبيع بالتقسيط للزبائن المضمونين حتى تدور العجلة وتكثر الحركة في التسويق وعندها تنتشر الدعاية على كل لسان على المعاملة الطيبة وجودة السلع ورخصها بالمحل مما تعم البركة والخير ويكثر الزبائن للشراء  …

وكنت في كثير من الأحيان أعارض الوالد وأدخل في نقاشات معه ، حيث معظم سلعنا جيدة وكنا الوحيدين بالسوق وممكن رفع السعر قليلاً ونحقق أرباحا كبيرة ، ولكن كان يقول مبتسماً هناك مثل ( الذي يرضى بالقليل ، يجني الكثير ) والقناعة كنز لا يفنى ومع الوقت أصبحت مبادئ ضمن حياتي وطريقتي في العمل التجاري طوال العمر وخلال المدة البسيطة مع الوالد في بلدة إمساعد تعلمت الكثير ، وكانت البداية …

حدث سوء خلاف مع أخي الكبير الحاج صالح (رحمه الله)  نظير جبروته وغضبه السريع  مما إضطررت مرغما إلى ترك بيت العائلة والإقامة مع أخي الثاني الحاج حسن في بلدة كمبوت حيث كان له طاحونة لطحن الحبوب مع شريكه الحاج عبدالله يوسف العربي (الله يرحمه) ، وكانت ليبيا  في ذاك الوقت لا تستورد الدقيق من الخارج بل طحن الحبوب محلياً وكان أخي أحد المصنعين المشهورين للمطاحن بالمنطقة الشرقية من بقايا ومخلفات حديد الحرب العالمية الثانية ولكن لظروف خاصة به  لم يتطور مع الوقت ، وحاول الوالد بقدر إمكانه منعي من تركه ولكن أمام الإصرار وافق على الذهاب لفترة من الوقت كأجازة حتى يهدأ الغيظ والغضب من النفس لدي حسب قوله ولكن بالنسبة لي كنت عنيداً وصلبا نظير الكبرياء و كنت أفضل الموت على الرجوع والبقاء تحت سلطة أخي الدكتاتور ، الذي كان طيب القلب ولكن ينتابه الغضب من أي خطأ بسيط ، ويمد يده ويصفع بعنف ، وكنت دائما أحترمه فهو في مقام الوالد حيث يكبرني بعشرين عاماً وأقول له لا تمد يدك فلست بصغير السن ولا تعنفني أمام الآخرين ولا تحرجني أمام الضيوف ، ولكن بدون فائدة دائماً تتكرر الإهانات ومد اليد بالصفع مما آثرت السلامة وعدم إزعاج الوالد وقررت ترك البيت …

قضيت ستة أشهر في بلدة كمبوت في بيت أخي الثاني الحاج حسن ( رحمه الله ) و شعرت بالفرق الرهيب من الجنة إلى النار ، شتان بين الرعاية والحنان والإهتمام من الوالد والوالدة في بيت العائلة وبين العيش في بيت الأخ وبالأخص مع زوجته الغيورة الحقودة حيث كانت لا تطيق وجودي وتعمل جاهدة على مضايقتي حتى أتضايق وأتركهم وقد تم لها ذلك وكرهتها طوال الوقت والعمر وتركت البيت والبلدة حتى لا أسبب مشاكل وضغائن في الأسرة لأخي ورجعت إلى بيت الوالد الكبير المهجور بمدينة درنة وأقمت فيه بدون أي برامج لمستقبلي ، وخطرت لي فكرة أن أرجع للدراسة ولكن لضياع  موسمين دراسيين ورفاقي وأصدقائي متقدمون وشعرت بالمهانة أن أرجع للدراسة وأنا متأخر بعد أن كنت من الأوائل ، وقررت الدخول إلى الكلية العسكرية لأتخرج ضابطاً ولكن الوالد رفض وعرض علي الكثير من الوظائف للعمل المحلي ولكن رفضت كل الرفض ، وكانت فكرة الهجرة والغربة للخارج تدور بالفكر حتى أبتعد عن الجو العائلي مع إخوتي ، ولكن وجود الوالد والوالدة أحياءا يرزقون والإبتعاد عنهم كان أمراً صعبا بالنسبة لي …

عرف الوالد (رحمه الله) بطريقة أو أخرى أنني أريد السفر للخارج والهجرة إلى أمريكا أو أستراليا ، ولإيقافي عن الشروع بطريقة أدبية سلسة عرض علي فتح محل بالسوق وإدارته مشاركة بالثلث من الأرباح  لبيع المواد الغذائية بالجملة القادمة من مصر إلى أصحاب المحلات الصغيرة ، حيث بوجوده بالمصدر في الحدود الشرقية  والمعرفة الجيدة بالتجار المصريين المهربين ولديه فائض من العملة المصرية ، بحيث تتم عملية مثل المقايضة ، يشتري ويشحن البضائع المطلوبة إلى محل درنة وأبيعها بالجنيه الليبي وأسدد الحساب له حتى يستطيع الشراء من تجار بنغازي الذين كان يتعامل معهم أخي الحاج صالح (رحمه الله) ، لتزويده بالمطلوب للمحل بإمساعد ، وكانت الفكرة جيدة وناجحة وفرصة كبيرة لي ووافقت للبقاء بالقرب من الوالدين وتكوين رأسمال و زيارتهم وقتما أشاء وأذهب إلى إمساعد أو مشاهدتهم عند قدومهم إلى درنة للزيارة أو العزاء في أحد الأقارب أو المعارف ...
 
                                                                         رجب المبروك زعطوط

                                                                              2012/8/13م 
 
البقية في الحلقات القادمة ...

No comments:

Post a Comment