Sunday, August 26, 2012

3 شاهد على العصر



                                             بسم الله الرحمن الرحيم
 
                                                        3
 
                                                 شاهد على العصر

 
Port of Derna, Libya
               تعبت ومرضت  من العمل اليومي الروتيني حيث وجدت نفسي شبه أسير في المحل ، لا أستطيع كثرة الحركة والسفر حيث ليس لدي مساعدون ثقات يعتمد عليهم في البيع ، فالتجارة أسرار ومعاملة البشر  تحتاج إلى طول البال والجرأة والمغامرة في بعض الأحيان وأحيانا أخرى تتطلب الحذر والتراجع وعدم الإندفاع حتى لا يخسر التاجر خسارة فظيعة ويصبح يلوم  نفسه على الأخطاء ، ولكن لدي الهواجس بأن أزاول أعمال كبيرة ثانية مع أنني نجحت نجاحا باهراً  ونلت الشهرة الكبيرة وجمعت رأسمال بمقاييس ذاك الوقت بحيث كنت أعتبر من الأغنياء في المدينة خلال سنوات عديدة نظير الإستيراد للمواد والسلع التموينية من الخارج مما أكسبني خبرات بالأمور المالية في المصارف من فتح الإعتمادات وإستلام البضائع ضد المستندات في المرافىء من البواخر في درنة وطبرق وبنغازي  مما كانت للتجارب والخبرة الدور الكبير في النهوض بالأعمال التجارية في حينها وبالمستقبل وعددت المصادر للإستيراد للسلع التموينية وغيرها من  أكثر من جهة وليس الإعتماد على مصر فقط بل ركزت على إيطاليا وألمانيا وهولاندا وكنت شها أستورد شهريا الكميات من عدة أصناف ، ولكن لاحظت أن الشركات لديها الوكلاء بليبيا ولا مجال للمنافسة حيث الجميع من التجار يستوردون  نفس البضاعة والماركة وبنفس الأسعار للجميع  مما جعلت الأمور في نظري محتكرة  صعب كسر الطوق لهؤلاء الوكلاء نظير طلب السوق الشديد والشهرة للمنتوج لدى الزبائن ، لا يريدون ولا يرغبون في البديل مما أصبحت عوائق صعب تغيير الرأي لديهم ، وإلا أحتاج إلى وقت طويل ومصاريف جمة للإعلان والدعاية ، التي هي الأساس للتسويق في السوق 

بدأت أبحث عن الفرص وبالأخص في مجال إستيراد مواد البناء والصناعة حيث الوطن بحاجة ماسة للتشييد والإعمار بعد الخروج من الحرب العالمية الثانية في حالة يرثى لها من الدمار والخراب نظير الصراع والحرب الدامية بين قوات الحلفاء والمحور ، كل طرف يريد النصر والفوز ، حيث معظم الأبنية الضخمة مهدمة والقليل مستعمل من قبل الحكومة في الإدارات والمصالح أو المدارس للطلبة بصعوبة للإستيعاب والدولة ليست لها الإمكانيات المالية ولا الميزانيات لطرح المشاريع والبناء وبالأخص بعد إستكشاف النفط والدعاية الكبيرة قبل الضخ والتصدير بدأ الكثيرون من جذور ليبية وغيرهم يرجعون للوطن ،  على أمل العمل سواءا الوظيفي أوالمهني الخاص في المدن أو لدى الشركات النفطية بالصحراء والبعض إستغل الفرص وتجنس بالجنسية الليبية حتى يتحصل على الإقامة  مدى العمر ، ِوأطلق الشعب على جماعات الشرق المهاجرين من الساحل الشمالي لمصر نكاية ( صاد شين/ص ش) على أنهم ليسوا ليبيين أصليين نظير العنجهية والعنصرية والجهل ، حيث جميعنا أخوة مسلمون نوحد بالله عزوجل ، الواحد الأحد ، وجيران للأبد وأصول قبائل أولاد علي ليبية ، نابعة جذورها من أرض ليبيا وليس كما يدعي ويحاول التفرقة الجاهلون  

فقد كان تعداد السكان لليبيا  أيام الإستقلال في 1951/12/24 م  بناءا على الإحصائيات الرسمية حوالي 750 ألف نسمة فقط الباقون في ليبيا نظير المخططات الإيطالية الإستعمارية خلال 4 عقود من الإحتلال والإستعمار للوطن لإبادة الشعب العربي الليبي المسلم وإحلال غيرهم من المهاجرين الفلاحين الإيطاليين من جزيرة سيشيليا ( صقلية ) ولو إستمرت إيطاليا عقودا أخرى في الإستعمار لضاع الشعب الليبي في الإبادة والشتات ولكن الرب القادر ستر ومنيت بالهزيمة في الحرب العالمية الثانية ورحلت إلى غير رجعة 

في نهاية الستينات وصل التعداد  إلى حوالي 2 مليون نسمة ، وتدل الزيادة الكبيرة في فترة زمنية قصيرة على الإستقرار والأمن والأمان والرواج في جميع المجالات ، وكانت في ما قبل جميع الأعمال الحرفية واليدوية والعمالة ليبية ، ومع تدفق أموال النفط وكثرة الطلب على الأيدي العاملة وعوامل الشقاء والفقر في البلدان المجاورة ، الضغوط والتأميم  نظير نهج الإشتراكية في مصر والرعب من رجال الأمن ، زحفت عشرات الآلا ف من العمالة المصرية عبر الحدود إلى ليبيا بدون تأشيرات دخول ولا إقامات عمل رسمية للعمل لتحسين أوضاعهم المالية ، وكانت نعمة كبيرة حيث نحن شعب واحد 

في نفس الوقت كانت نقمة حيث كثير من العادات السيئة والمشينة في مصر وصلت عندنا من بيع المخدرات وتعاطيها والغش والتزلف والرشوة وظاهرة الدفع كخلو الرجل للبيوت والمحلات والطبقية مما  حدثت تغيرات كثيرة لدى الشعب الليبي الطاهر الساذج البرىء وضاعت أشياءا كثيرة من قيمنا وتراثنا وعاداتنا نظير الكثرة والزحام ، والمصيبة الكبرى إعتماد وزارة التعليم المناهج الدراسية المصرية للتدريس في المدارس الليبية للنقص الشديد وتعلمنا ونحن صغار السن في الفصول الإبتدائية أن نعرف تاريخ الفراعنة ومن حكم مصر من الأسر عن ظهر قلب ، ولا نعرف تاريخنا الليبي ولا أمجادنا العربية ، وعشنا نحلم في خضم الدعايات المصرية المتهورة التي ليس لها أساس غير تهييج الشعوب العربية ضد الغرب وإسرائيل 

إنني لست متجنيا على مصر فلي فيها ذكريات كثيرة سوف يتم سردها في حينها ، ولكن أسرد الهموم والواقع المرير الذي حدث بالسابق حيث مشكلتنا نحن العرب أننا لا نصارح أنفسنا ونكتب تاريخنا بصدق وضمير وماذا حدث بالصدق والحق ولو على أنفسنا حتى مع الوقت نعرف الخلل ونحاول الإصلاح بدل  المجاملات الفارغة والأخطاء القاتلة مستمرة والجميع للأسف يجامل خوفا من اللوم بالمستقبل حتى لا تتعارض المصالح الشخصية ويصبح مدانا من الجهلة ضيقي الأفق والفهم في كلى الدولتين ، مع العلم أن البعثات التعليمية المصرية إلى المدارس والمعاهد الليبية في منتصف الخمسينات وبالأخص في المنطقة الشرقية كانوا أساتذة مختارين قمم في العلم والمعرفة والفهم ، لهم الفضل الكبير في التدريس والتعليم حيث تخرج على أيديهم العشرات من نوابغ ليبيا 

الفكرة للتغيير والتطلع لآفاق أخرى تختمر بالذهن والفكر حتى وقعت حادثة بسيطة يوماً مما كان لها الأثر الكبير في تغيير مسيرة الحياة التجارية ، فقد طلب أحد الزبائن من إحدى المناطق " الأبرق " أن أبعث له 10 أطنان من الإسمنت ، وللتوفير إنتظرت عدة أيام حتى وصلت إحدى السفن الصغيرة من اليونان ذات الحمولات البسيطة من 500 إلى 700 طن لأن المرفأ لا يستوعب السفن الكبيرة لضحالته ، وذاك اليوم بدل أن أبعث أي أحد من مساعدي للشراء  ذهبت أنا شخصيا  إلى الميناء بالصدفة للشراء حيث كان قريبا من مسكني ، وكانت باخرة صغيرة قد وصلت وتم رصفها على الرصيف للتفريغ وبعض الزبائن في الإنتظار ، وسألت عن السعر وقيل لي 8 جنيه للطن ودفعت وإستلمت الإيصال ، وعندما وصل تاجر الإسمنت صاحب الحمولة السيد نوري بن فائد ، وقال لوكيله  لقد تغير السعر إلى 10 جنيهات للطن وكان وقتها يعتبر سعرا غالياً عن المألوف  وطفرة 20% في أسعارالكمية بسهولة أمر صعب لي أن أهضمه وقلت له أنا لدي إيصال بالسعر السابق ورد بغلظة وقال بإستفزاز باللهجة الليبية أمام جميع الحضور في نبرة غيظ وغضب " اللي عاجبه يشتري "  مما كانت بالنسبة لي إهانة إعتبرتها شخصية ، وأصررت على السعر القديم مما تسببت  له بمشكلة ، وإضطررت أن أتأخر حتى إستلمت الكمية آخر النهار كنوع من الضغوط ، بنفس السعر الأول وضمنت تحميلها على عربة النقل وخرجت من الميناء للزبون 

كانت هذه الحادثة البسيطة لها دوراً أساسياً في التغيير والإتجاه لإستيراد مواد البناء حيث البيع بكميات كبيرة والأرباح مجزية فقد كان بعض التجار يحتكرون إستيراد وبيع الإسمنت ويقررون السعر الذي يحلو لهم ، ولا من يرفض من الزبائن والمقاولين البسطاء ، وقررت الدخول والمنافسة وكسر الإحتكار 

رجعت إلى المحل وأنا في شدة الغيض على المعاملة ورفع الأسعار ببساطة إلى الضعف ونحن نبيع  السلع التموينية بأرباح بسيطة لا تتجاوز 5% وسعداء ، وبدأت أبحث عن كيفية  الإستيراد رأساً ، وكان لي أبن عم وصديق الحاج علي سلطان  ( رحمه الله ) تربطني به علاقة ود مع فارق السن فهو من نفس عمر إخوتي يعمل في مناولة البضائع بالمواني في درنة وطبرق ضمن وكالة إبراهيم حسني بي ويتردد على المحل لدي للسمر وشرب فنجان القهوة بعض الأحيان ، وتصادف بالمساء حضوره كالعادة و فاتحته في أمر إستيراد الإسمنت ، ورد الرجل بصراحة أنه لا يعرف الطريقة حيث ليس تاجراً وإنما عمله المناولة والتفريغ ولكن لديه صديق يوناني قبطان صاحب سفينة صغيرة إسمها " ديمتريوس " سوف يعرفني به عندما يأتي إلى درنة عسى أن يعرف الطريقة 

مرت الأيام رتيبة حتى يوما إستلمت منه مكالمة هاتفية بأن القبطان " شرياكو "  وصل إلى ميناء درنة بحمولة من الإسمنت لأحد التجار وأنه تحدث معه ويريد أن يقابلني عند الضحى الساعة العاشرة صباحاً وقلت له سوف أنتظركم بالمحل في السوق ورد علي وقال الأفضل في البيت حيث لا يريد أن يشاهده جماعة السوق مع بعض منعا للكلام والهمس والقيل والقال ، وتم الإتفاق على أنني سوف أنتظرهم بالبيت 

وصل الجماعة في الميعاد في عربة ( حنطور ) يجرها جواد حيث وقتها لا توجد سيارات أجرة في المدينة الصغيرة وإستقبلتهم بالترحاب وأثناء شرب القهوة عرفت منه أنه مستعد أن يساعدني ويقف معي بشرط لو دخلت في الإستيراد للأسمنت أن أتعامل معه في التوصية لدى الشركة المصدرة بالشحن للكميات والتوصيل لها إلى مدينتنا درنة عن طريق سفينته ووافقت بسرعة حتى أضمن حليفا لي بسرعة ، وقال  باليونان الآن  3 شركات ضخمة لتصنيع الإسمنت ، واحدة  خاصة أسمها تيتان ووكيلها في درنة السيد أنجلو هاجيداكس اليوناني الأصل وعائلته مقيمة في درنة من بداية القرن العشرين  من أيام العهد التركي الثاني ، والشركة الثانية تدعى هاليكس ووكيلها السيد نعمان سفراكس وكنت أعرفه شخصيا التاجر المشهور في صناعة الصابون ومعصر زيت الزيتون ولديه محطة لبيع النفط ، وقد إنتقل إلى بنغازي وتوسعت تجارته في مواد البناء ، ولديه فرع درنة قائم على إدارته والبيع للمواد السيد أبوبكر قاطش الذي أعرفه جيدا (رحمه الله) ، والشركة الثالثة هيراكليس " جنرال إسمنت " حكومية عامة وتنتج  4 ملايين طن بالسنة ووكيلها يوناني في مدينة بنغازي ويعرفة معرفة شخصية وسوف يسعى قدر جهده للتعريف بي وبمدى قدراتي المالية وإستعدادي لإستيراد الإسمنت إلى ليبيا 

 وأخرج القبطان  شرياكو من جيبه مفكرة صغبرة بها رقم الهاتف ، وطلب مني أن أطلب الرقم حيث لا يتحدث العربية ، وكنا في ذاك الوقت نقوم بالمكالمات الهاتفية عن طريق البدالة الرئيسية في البريد ، ولحسن الحظ تم الإتصال في دقائق معدودة وتحدث القبطان شرياكو باللغة اليونانية إلى الطرف الآخر الوكيل  وشرح له الموضوع وأنا لا أعرف ماذا يقول ؟؟ وإستمرت المكالمة حوالي الربع ساعة ، وأخيرا أنهى الإتصال وقال موجها الحديث لنا أنه شرح للوكيل ماذا أريد وأرغب وقدم له توصية كبيرة عني ، وأنه في الإنتظار اليوم أو الغد لزيارته للتباحث والنقاش في بنغازي وأعطاني رقم الهاتف والعنوان ، وكان مكتبه في ميدان البلدية القديم تحت الأقواس نهاية سوق الجريد المشهور 

شكرت القبطان شرياكو على مسعاه وودعته ، وجهزت نفسي للسفر حيث أحب أن أضرب الحديد وهو ساخن ، وركبت السيارة ماضيا في الرحلة السريعة إلى بنغازي والوصول قبل نهاية الدوام الساعة الخامسة مساءا ، وصلت إلى هناك حوالي الثالثة ظهراً وسألت عن المكتب حتى وصلت ، وكان العجوز اليوناني الوكيل الخواجة يتكلم اللغة العربية بطلاقة مع لكنة خاصة وتفاهمت معه على طلب باخرة إسمنت كتجربة مما وافق ، وأخرج عدة ورقات ووضع كربونا بينهما في آلة الطباعة وبدأ يعمل على طباعة الفاتورة " البروفورما " مما إستغرق بعض الوقت في الطباعة باللغة الإنجليزية ، وأعطاني طلب الشراء  للمراجعة حيث كنت وقتها  ضعيفا في القراءة والفهم بالإنجليزية ، وركزت على قراءة الإسم والكمية والسعر ، بدون أن أركز على بقية التفاصيل ووقعت ببساطة وبكل جرأة  بتوقيعه وختم الطلب بالختم الكبير وأعطاني نسختين في ظرف كبيرلأسلم نسخة إلى البنك في درنة لفتح الإعتماد ، وتمنى لي النجاح في العمل حيث كنت وقتها صغيرا بالسن فقد كان عمري 22 عاما !

رجعت إلى درنة بسرعة وأنا فرح جذلان أكاد أطير من الفرحة والسعادة أنني أخيرا وصلت وحققت الحلم وقطعت مشوار أول خطوة وتحصلت على الموافقة في إستيراد الإسمنت الذي كان شبه محتكر من طبقة تجار رجال أعمال كبار رأسماليين بالمدينة ، لا أستطيع مقارعتهم بالمال بالمدينة وصعب إختراقهم أو العمل الكبير بدون شراكة معهم أو مباركة منهم ، وإلا المضايقات والحرب سوف تستعر … ولم أهتم فلست عدوا لأحد بل التنافس الشريف ضمن الأخلاق والقيم والجميع أصدقاء والدي وإخوتي وأكن لهم ويكنون لي جميع آيات الود والإحترام …
 
 
 
                                                         رجب المبروك زعطوط
                                                               2012/18/8م
 
البقية فى الحلقات القادمة 
 

No comments:

Post a Comment