بسم الله الرحمن الرحيم
شاهد على العصر 2
تم إستئجار دكان تجاري مساحته حوالي 36 متر مربع في موقع جيد بالسوق يقع على تقاطع شارع الشلال ( الحبس ) وواجهته على شارع إبراهيم الأسطى عمر زعيم درنة في الخمسينات من مالكه السيد إبراهيم إقعودى وتم ملئه بالمنتوجات المصرية من الأرز والزيت والسمن ومواد أخرى والبقية بالمخزن الكبير بجانب بيت الوالد في شارع رافع الأنصاري وتم إستخراج رخصة من البلدية لمزاولة العمل ويوم 1961/11/21م. تم الإفتتاح وحضر الكثيرون من المعارف والأصدقاء يهنؤن ويشترون وأخي الحاج صالح (رحمه الله) فرح ومسرور وأنا أبيع السلع وأقبض النقود وأسجل المبيعات ، وإستمر أخي معي لمدة 3 أيام في المحل وهو ينصح طوال الوقت ويعطي الأوامر ، وأهمها عدم الدين بالآجل لأي زبون مهما كان إلا بعد موافقته وتعليماته حتى لا يسخر مني المتحيلون الذين سوف يستغلون فرصة طيبتي وصغر سني وعدم معرفتي وقلة خبرتي …
سافر الحاج صالح إلى مساعد بعد أن سلمني كشفاً بقيمة البضائع بالمحل والمخزن كبداية رأسمال من الوالد ، وكانت في حدود الف جنيه ليبي مما كان يعتبر وقتها رأسمالاً كبيراً حيث كيلو الذهب يساوي أقل من خمسمائة جنيه ، ووقعت عليه ، وإستلم المبالغ النقدية البسيطة التي تم قبضها من البيع ليحضر الشحنة الثانية وبقيت بالمحل بمفردي أبيع السلع بأسعار رخيصة ومعاملة جيدة وإحترام للزبائن مما كانت شبه صيحة لم يتعودوا عليها من قبل من التجار الكبار الذين كانوا يعاملونهم بغلظة ، وفتحت حساباً في البنك الوحيد بالمدينة وقتها ( باركليز ) وكل يوم في الضحى أودع مبيعات اليوم السابق بالحساب وغاب أخي حوالي الأسبوع وحضر بالشحنة الثانية المطلوبة وإستمرت العملية في وئام معه ولا أي مشاكل رغم عصبيته و غضبه المستمر من أتفه شىء يحدث ونفذت تعليماته حسب طلبه مما كان مسرورا ، ومر الشهر الأول على خير وسلام ، وراجعت الحسابات وكان الربح بمقاييس الستينات يعتبر كبيراً مما زاد الأمل بالتقدم والنجاح والثراء بسرعة في فترة وجيزة ، وزادتني ثقة وشجاعة في العمل التجاري والبيع في السوق وبذلت المزيد من الجهد والتفاني والحفاظ على الوعد والمواعيد في التسليم من المخزن للكميات الكبيرة لزبائن المناطق المجاورة للمدينة …
حددت مواعيد العمل من الساعة الثامنة صباحاً في فصل الصيف إلى الساعة الثامنة مساءاً وأيام فصل الشتاء إلى السابعة حيث االمغرب حوالي السادسة مساءا بدون توقف ولا غلق المحل وقت الظهر مثل العادة مما أحدثت تغييراً في الطريقة فقد كانت العادة أن يقفل السوق وقت الظهر إلى بعد صلاة العصر لتناول الغداء ونومة القيلولة حيث فترة الصيف الحرارة مرتفعة والسوق لايوجد به أي أحد من الزبائن إلا القلة …
وبطريقتي التي بدأت بها جعلت معظم الزبائن مستغربين من النقلة في مواعيد العمل والتغيير ، وكان القصد منها مساعدة أصحاب دكاكين ومحلات القرى الذين يأتون للمدينة للشراء بدل تضييع الوقت في الإنتظار عدة ساعات وقت الظهر حتى تفتح المحلات بعد العصر ، وسياسة أخرى إتبعتها هي البيع بالجملة أو التفصيل بسعر موحد بدون أي زيادة فى الأسعار أو أي تمييز بين حريف وآخر ، وأصحاب الدكاكين الصغيرة في البدايات إستهجنوا الأمر ولكن واصلت في الأمر والبيع وكسر الطرق العقيمة السابقة للإحتكارات والذي ساعدني في الأمر أن بالمدينة لا توجد منافسة تقوم بتوريد البضائع المصرية إلا محل واحد لعائلة هويدي ، بدأ به الحاج حسين الملقب بالسيوى ( رحمه الله ) وكان والده الحاج سليمان وأخوه الأصغر رزق الملقب بأسم ( شندي ) القائمون على إدارة المحل والحاج حسين يملك عربة نقل ثقيلة ويعمل أسبوعيا مثل أخي على إستجلاب البضائع المطلوبة من مساعد بالحدود …
كان السيد رزق صديقي فقد كنا طلبة مع بعض بالمدرسة الإبتدائية وبعدها الثانوية في الخمسينات وكان يكبرني في السن تقريبا بعامين على ما أعتقد ومتقدم علي بسنة دراسية عندما تركت المدرسة ، وكان محلهم يبعد عن محلنا غربا في السوق حوالي 100م ، في سوق ( وسع بالك ) جنوب نهاية السوق الكبير ( سوق الظلام ) المسقوف وتفرعاته العديدة من الأزقة الضيفة وسط المدينة القديمة والذي كان مشهورا ببيع المنسوجات والأقمشة وبجانبه سوق خضار المدينة ، مما زاد الزحام الشديد للبشر مع الوقت ومرور السنين وساعد ضيق شارع ( إبراهيم الأسطى عمر ) ، حيث المحلات تفتح عليه من الجانبين على الزحام ، وعدم وجود أماكن لوقوف السيارات التي بدأت في الزيادة بشكل غير طبيعي وبسرعة نظير الحركة التجارية !
وكان سوقا عامرا بالتنوع إبتداءا من المحلات الكبيرة لبيع المواد الغذائية بالجملة إلى الجزارة وبيع اللحوم والمواد الغذائية والمحلات العديدة لبيع البدل والقمصان والساعات وجميع ما يطلبه الزبائن في ذاك الوقت متوفر وأي حريف من المدينة أو ضواحيها أو قادم لها من القرى المحيطة يأتي للسوق للتبضع وشراء المواد التى يرغبها وبحاجة لها …
كان السوق في مدينتنا درنة شبه محتكر في السلع التموينية من عدة تجار كبار في السن والتجربة والرأسمال أمثال آل بوزيد وآل التاجوري وبن حليم كتجار جملة بجميع أصنافها بحيث جميع البقالين أصحاب الحوانيت الصغيرة والذين يعدون بالعشرات يشترون منهم ولا يستطيعون تركهم نظير معاملة السنين الطويلة الكثيرة والبيع بالآجل لهم ، ولكن ظهورنا نحن في السوق بسلع مميزة ورخص الأسعار لم يستطيعوا المنافسة ومجاراتنا والضغط علينا لأنهم غير قادرين على الحصول على المصادر ، وإضطر جاري مقابل المحل الحاج لامين بن حليم ( رحمه الله ) أن يتعاون معي ويشتري مني كميات كبيرة من الأرز بين الفينة والأخرى حتى يحتكر السوق عند النفاذ من عندي بعض الأوقات أو أثناء غيابي في إجازة أثناء الصيف ، وحدثت طرائف كثيرة في المعاملات مع التجار الكبارعن الرغبة في الإحتكارات والإستمرار في غلو الأسعار ولكن كنت أطبق نصائح الوالد ( القناعة كنز لا يفنى واللي يرضى بالقليل يحصل على الكثير) وفعلا نجحت وتقدمت وبدأت أحوز على الثقة في السوق والوسط التجاري لدى جميع الأطراف مما كانت خطوات جيدة ومفتاح النجاح لي في السنوات القادمة …
إلى أن حدث في الشهر الثالث مشاجرة بسيطة مع أخي الحاج صالح وكان له الدور الكبير في تغيير مجرى حياتي ، حيث أحد المحتالين قد إستلم عدة محارم قطيفة (شالات) لتوصيلها إلى زوجته لتختار ، وبالمساء يرجع بالباقي والقيمة ، وعند المساء لم يحضر كما وعد ، سجلت في الدفتر إسمه والقيمة المالية حتى لا أنسى الموضوع ، وتصادف قدوم أخي من مساعد بإحدى الشحنات من البضائع وقضى عدة أيام بالمدينة لشراء البضائع المطلوبة لمحل الوالد بالحدود ، وكان الوقت بالمغرب ومازال على قفل المحل فترة بسيطة وكنا نتجاذب أطراف الحديث وكان معنا العامل الذي كان عمله التسليم للزبائن والنظافة للمحل وقضاء الأشياء المطلوبة منه ، وأحد الزبائن ليشتري بعض الأشياء ، وأخي كان من عادته يجلس على مكتبي المتواضع ويراجع الدفاتر كحب إستطلاع لسير الأمور الحسابية …
فجأة و بدون سابق إنذار غضب وجن جنونه عندما شاهد إسم الزبون الذي أخذ المحارم ولم يسدد المبلغ وسألني بحدة وبصوت عالي: لماذا أتعامل مع هذا النصاب المحتال؟! وقربت منه لأشاهد الأسم وفجأة صفعني بقوة على وجهي مما تراجعت للخلف مشدوها فلم أكن أتوقع منه أن يمد يده ، وتطاير الشرر من عيوني وكان بالإمكان الرد عليه ، ولكن لا أريد الفضائح في السوق ، فهو أخي الأكبر مثل الوالد وله الإحترام ولكن أن يتمادى بالإهانة وأمام الغرباء فلا غفران ولا سماح بسرعة ، وبكل بساطة وبدون أية كلمة نابية وضعت مفاتيح المحل أمامه على المكتب بهدوء وغادرت حزينا والدمع يكاد يسقط من عيوني من الموقف الذي حدث…
قررت عدم الرجوع للمحل والعمل معه شراكة تحت أي ظرف كان ، وذهبت إلى بيت أحد أصدقائي الذين لا يعرفهم وأقمت عنده عدة أيام في ضيافته ، وبالنسبة لأخي مد يده بالصفعة لا شعوريا وتندم على فعلته وهذه عادته فقد كنت أعرف طيبة قلبه وعدم قصده وأقفل المحل ورجع للبيت ولم أكن موجودا ، وإنتظر طوال الليل ولم أرجع ، واليوم الثاني فتح المحل وهو مهموم وحاول أن يعرف مكاني وبحث عني عند جميع الأقارب والمعارف ولا أحدا يعرف بوجودي عند ذاك الصديق …
مرت 3 أيام على غيابي وإضطر أن يبلغ الوالد بالهاتف عن الموضوع مما جاء الوالد إلى درنة بسرعة … وعرفت أنه موجود وذهبت إليه وحاول قدر إمكانه المصالحة والرجوع للمحل مثل السابق ولكن رفضت وأصريت وكان موزعا بين رضاء إبنه الكبير وبيني أنا أبنه الصغير! وتقرر اللقاء بالغد على وجبة الغذاء في بيت أخي الأوسط الحاج حسن (رحمه الله) الذي إنتقل من بلدة كمبوت بعائلته وأقام في درنة …
اليوم الثاني حضر الوالد والأخوة وكان الحاج صالح يتأسف ويعتذر ولكن لم أرضخ لأنني أعلم جيداً مسبقا حيث لا يستطيع تغيير طبعه وعادته في الغضب السريع … وأخيراً تم الإتفاق على التنازل عن المحل ويدخل بدلهم أخي الحاج حسن كشريك بالنصف والنصف الآخر لي بعد ترجيع الرأسمال ووافقت على الأمر ، حيث أخي الحاج حسن كيس قليل الكلام وهادىء ولا يغضب بسرعة يكضم غيظه وغضبه ولا يظهر عليه ومشكلتنا الوحيدة كعائلة كانت زوجته المشاكسة ، التي تقرص مثل العقرب في صمت ولا يظهر عليها الكيد ولا الدسائس ولا الخبث ، وتحملت الأمر لأنني الآن قادر ماديا على العيش بشرف وأعمل بالجهد والعرق ولست محتاجاً للإقامة معهم مثل التجربة السابقة في بلدة كمبوت …
إستمرت الشركة حوالي 30 شهراً وكان يذهب بإستمرار إلى الحدود ويأتي بالبضائع لمحل درنة ، ولا يتدخل في إدارة المحل مما ساعدنا الحظ بسرعة نظير الجهد الكبير من الطرفين ورجعنا الرأسمال للوالد وكبرت وتوسعت التجارة والبيع وأصبحت موردا لبعض البضائع من أوروبا وبالأخص المانيا كمستورد للدقيق ماركة العلم المشهورة وصابون الوجه ( لادن ) الذي كان مرغوبا بالسوق ولبن الوردة ( كارنيشن ) من هولندا وكانت البواخر تفرغ في ميناء طبرق القريب الذي يبعد عن مدينة درنة حوالي 175 كم شرقا ، حيث ميناء درنة وقتها صغيرا مهدما من الحرب غير عميق وغير قادر على إستيعاب السفن الضخمة ، حيث سفينة حربية ضخمة محملة بالقنابل تم تدميرها من الحلفاء غارقة بالمدخل منذ أواخر الحرب العالمية الثانية مما مع مرور الوقت والسنيين أصبح الحوض ضحل وصعب على السفن الصغيرة الدخول إلا بصعوبة وبالأخص فترة فصل الشتاء حيث التيار القوي والأمواج العالية …
بدأ نجم الأسم يبزغ في الوجود ونلت شهرة كبيرة في السوق نظير الإقدام والجرأة في طلب الكميات الكبيرة حيث بطبيعتي مغامر ومجازف ، وبدأ الحسد والحقد من زوجة أخي على أن زوجها شريك بالنصف ومهمش على الرف وليس بالصورة لدى الجميع ، وكنت أعمل طوال السنة ، وأقضي إجازة شهر في الإسكندرية أو القاهرة مع بعض الرفاق الشباب للراحة والإستجمام ، حيث كانت مصر أيام الرئيس عبدالناصر قبلة العرب ،
وأثناء إجازة سنة 1963م الصيفية تأخرت عدة أيام عن الرجوع لأنني مرضت بالإنفلونزا وعالجت حتى شفيت ورجعت إلى مدينة درنة بالليل متأخرا ، واليوم الثاني عند الضحى ذهبت إلى المحل وفرح أخي بقدومي ولكن شعرت أنه تغير كثيرا وليس مثل المودة السابقة في العمل نظير الضغوط العائلية من زوجته أنه مهمش ، وأن جميع الزبائن يسألون عني وهو محرج في الردود وبالأخص عندما تأخرت حوالي 10 أيام!
كنت أعرف طبعه جيدا فهو طيب ومخلص ولكن يمل بسرعة من العمل ولا يقاوم ويستمر في الطريق وأمنيته أن يعمل في الميكانيكا ويفتح ورشة حديثة للتصنيع والتصليح حيث مجاله وخبرته ولا يريد السفر بإستمرار لجلب البضائع ، ولراحة باله فاتحته في الأمر بصراحة وقلت له بأنني مازلت عازب وليس لدي أي إرتباط ومستعد للتنازل عن المحل مقابل مبلغ بسيط مصاريف السفر والهجرة إلى خارج ليبيا ولكن رفض الأمر بالمرة حتى لا يغضب الوالد ، وبعد نقاش وجدال قرر الخروج من الشركة بالمحل ، وقلت له أنت تعرف جميع إمكانياتنا المالية وأريد أن تحدد الرقم المطلوب لأوافق وأدفع …
قام أخي الحاج حسن بتحديد الرقم ولإرضائه دفعت له الضعف مما إستغرب من الكرم ولكن لأخي مستعد إعطاؤه كل شىء يرغبه فالمال ليس غايتي ، مما أصبحت بدون سيولة لجلب البضائع من الخارج ، وإضطررت للإستدانة من المصرف وضمنني الوالد في تسهيلات مصرفية بقيمة 3 آلاف جنيه وقتها حتى نهضت وواصلت في التجارة لوحدي بدون أي شركاء من إخوتي أو الغير !
حلت سنة 1964م وعملت بجهد وعرق طوال الوقت بدون أي إجازات وحققت أرباحا كبيرة غير متوقعة آخر السنة مما زاد الرأسمال عدة أضعاف وسددت للمصرف تسهيلاته وأصبح لدي فائض نقدا سيولة بالحساب والدورة التجارية كل يوم للأحسن بالسوق وبالأخص مع بشائر الخير بتدفق النفط في الوطن وبدل أن يكون نعمة لنا ، أصبح مع الوقت نقمة ، جميع الأنظار للقوى الخفية الدولية إتجهت لوطننا ليبيا الفقيرة المهمشة التي بين ليلة وضحاها أصبحت من الأغنياء بالعالم عندما أعلن عن الإكتشاف والتصدير ، تحاول السيطرة والإحتكار نتيجة الطمع في الثروات الرهيبة القادمة من باطن الأرض ، وبالنسبة لي على المستوى البسيط مزيدا من الشهرة والأرباح …
رجب المبروك زعطوط
البقية في الحلقات القادمة بإذن الله تعالى …
No comments:
Post a Comment