Saturday, August 27, 2011

قصصنا المنسية 8

بسم الله الرحمن الرحيم

 المناضل فتح الله الأشقر



المناضل فتح الله الاشقر الأول على اليمين مع الملك ادريس السنوسي 
              عرفت المناضل في أواخر الستينات في مدينة درنة، وكان نعم الرفيق فى اللقاءات العديدة أثناء تقضية الأوقات الجميلة في السمر والسهرات التي كانت شبه يومية لفترة طويلة ، كنا نقضي معظمها في أطراف مدينة درنة على شاطئ البحر الغربي على مسافة عدة كيلومترات ، حيث المكان الآن موقع المحطة البخارية الكبيرة لتوليد الكهرباء وتحلية المياه العذبة ، والتي كانت وقتها أرضا مهجورة ليس بها أي بناء ولا حياة .
              المناضل كان مديد القامة نحيف الجسم قويا لديه قوة العزم والجرأة وحب المغامرة ، وكان مشهورا في مدينتنا درنة بكناية وإسم (البرافانقو) لطوله وحبه وولعه بقيادة السيارات الامريكية كبيرة الحجم في شوارع المدينة وأزقتها الضيقة... وكانت له مواقف بطولية في التضحية والمناصرة في قضية ثورة الجزائر الشعبية وكان له الفضل الكبير في توصيل قوافل السيارات النقل الثقيل عبر مجاهل الصحراء الليبية عشرات المرات التي تعتبر وقتها صعبة جداً حيث لا خرائط ولا أجهزة واتصالات مثل الآن ، ولا حركة مرور كبيرة حيث النفط لم يكتشف بعد بكميات كبيرة مما الصحراء كانت شبه خالية من السكان او العاملين في الإستكشاف للنفط والسير مئات الكيلومترات في جبال وتلال رملية بدون معالم ، والوصول إلى احد الواحات للراحة والتزود بالمياه العذبة للشرب والحياة.
                 كانت للمناضل فتح الله معرفة ودراية جيدة بطرق ودروب الصحراء الرملية التي كانت تتغير من هبوب العواصف والرياح القوية مما تضيع المعالم وتتشعب الإتجهات وتختلط مع بعض ولا يعرف المسافر الطريق الصحيح إلا بصعوبة ...  والكثيرون من سئ الحظ ماتوا في متاهات من العطش نظير الخطأ فى تحديد الطرق والوصول ، والمناضل له خبرة كبيرة في الفلك فى تحديد الاتجاه المطلوب والسير على هدى نجوم الليل طوال الوقت ويصل إلى المواقع المطلوبة والطرق ضمن خط السير الآمن بدقة نظير الخبرة والتجربة .
               شاهدت الكثير من المرات طابور سيارات النقل الثقيل المرسيدس وهي متجهة إلى الشرق أو راجعة إلى الغرب محملة بالعتاد الاسلحة والذخيرة مساندة مصر أيام عهد الرئيس عبدالناصر وهي تعبر شارع رافع الانصاري في درنة الذي كان بيتنا يطل عليه وكان الطريق الوحيد الذي يربط المدينة بالطريق الساحلي المؤدي للشرق أو للغرب حيث وقتها ايام العهد الملكي لم تكن الطرق العديدة متوفرة مثل الآن والمرور سهل مع الطرق الجنوبية الصحراوية والتي تختصر الكثير من المسافة والوقت من طبرق إلى إجدابيا .
              كان رتل سيارات النقل الثقيل يمر كالعادة  مع ظلام الليل عندما يكون معظم السكان نياما ولا تشاهد من العيون الفضولية وبالأخص الدراونة ، الذين من حدة الذكاء وقوة الملاحظة لا يفوتهم اي شئ ببساطة من غير تعليق وتحليل ، ومع الوقت وتداول القصص عرفت ان الشاحنات ملك شركة (ساسكو ) التي مالكها الامير السيد عبدالله عابد السنوسي الذي تبرع بالنقل دعما للثورة الجزائرية والتي إستمرت طوال سنوات النضال حتى تم إستقلال الجزائر .
                كان فتح الله الدليل للركب طوال الوقت في المقدمة يقود السيارة الطاوية (لاند روفر) لوحده مسلحا بعدة قطع من السلاح جاهزا للدفاع عن القافلة في أي لحظة خطر ، فقد كان حريصا جدا من الخيانة والغدر من عملاء فرنسا وعيونهم المدسوسة في أوساط الشعب تراقب الطرق والمعونات ، حتى يصل بالقافلة إلى بلدة إمساعد الحدودية مما يتوقف والقافلة تتجه إلى مصر مع دليل آخر ويرجع لقضاء عدة أيام مع أسرته في درنة حتى الوقت المعلوم لرجوع القافلة محملة بالعتاد السلاح والذخائر والمواد الأخرى المطلوبة التي  يحتاج لها الثوار في جبهات القتال .
               وتبدأ الرحلة من جديد من درنة وهو الدليل بالمقدمة  يذلل في الصعوبات ويقدم الأذونات والتصاريح بالسير المرخص للبوليس في البوابات العديدة في الطريق حتى لا يتم التأخير نظير الاشتباه وبالأخص نقل السلاح حتى الوصول إلى معسكر الثوار في مدخل مدينة بنغازي منطقة ( اللثامة  في السبخة) على شاطئ البحر للراحة وقضاء بعض الوقت في التجهيز لعبور الصحراء ضمن الخطر الشديد ، سواءا من الصحراء نفسها من معاناتها ومتاهاتها ، أو المداهمة من أي عدوان وكمين من عملاء فرنسا أو غارات جوية تدمر الركب وتمنع وصول الإمدادات للثوار.
                التركيز على التزويد بالماء ووقود السيارات والكثير من الاشياء التي تجعل الرحلة آمنة ، مع وجود القوات البريطانية التي دورياتها العسكرية تجوب الصحراء طوال الوقت ووجود الأمريكان العسكري الجوي الذي طيرانه مستمرا في التدريب في سماء ليبيا بدون توقف ، والقوات الفرنسية بالغرب على الحدود ، وبوجود هذه الصعاب العديدة خوفا من الاكتشاف كان يتسلل بسهولة مع طرق مهجورة بالليل والشاحنات تسير بدون أضواء إلى نقاط معينة حيث الضوء والصوت بالصحراء يصل إلى مسافات بعيدة .
               خلال الفجر ، يتوقف الركب في أحد المنخفضات للجبال والتلال الرملية والتمويه والتغطية للشاحنات بالمشمعات الخاصة بلون الصحراء و الإخفاء الجيد الذي من الصعب إكتشاف الطائرات التي في بعض الاحيان تمر فوقهم في إرتفاعات عالية ويرتاح الثوار وينامون  طوال النهار تحت الشاحنات من حرارة ولهيب الصحراء طلبا للظل و عدم إشعال النار والطبخ للطعام إلا للضرورة منعا للدخان بالنهار وضوء اللهب بالليل معتمدين على الطعام الجاهز حتى الوصول إلى احد الواحات في خط السير الطويل .
                  وكان يتخذ الاحتياطات للسلامة قبل دخول أية واحة ، يتوقف الركب من مسافة قبل الوصول ويذهب لوحده في جولة إستطلاعية للتأكد من عدم وجود اي خطر ممكن وكمين في الانتظار .... وكان رؤساء وشيوخ الواحات من كثرة التجوال والمرور عليهم صداقات عديدة وأخوة مع البعض اللذين كانوا يزودونه بالأخبار فترات الغياب ويتبرعون بكميات من التمور والقديد (اللحم المجفف) للثوار بدون مقابل دعما للجهاد .
                وتستمر الرحلة عبر الحدود خلسة حتى يصل الركب إلى المكان المعلوم المتفق عليه داخل الاراضي الجزائرية المهجورة ويتم توزيع الحمولة بسرعة على ظهور الحيوانات، الخيول والبغال ، خوفا من الاكتشاف ويرجع بالكثيرين ... الجرحى ذوي الحالات الصعبة للعلاج في ليبيا ومصر ، وإستمر المناضل عدة سنوات فى الترحال وقطع المسافات الطويلة في الذهاب والإياب حوالي 4000 كم في الرحلة الواحدة وربطته المعرفة وعلاقات النضال والاخوة مع الكثيرين من قيادات الثوار الجزائريين حتى تم النصر والإستقلال وخرجت فرنسا من ارض الجزائر للأبد .

المناضل فتح الله الاشقر (الثاني من اليسار) (رحمه الله) مع احد قادة الثورة الجزائرية
               تم تكريم المناضل من قبل الرفاق الجزائرين عندما زارهم في إحتفالات الإستقلال بناءا على دعوة رسمية وطلب منه الإقامة والمواطنة في الجزائر معززا مكرما في العز والمجد ولكن رفض بلباقة وفضل العيش في ليبيا وطنه وفي مدينة درنة موقع الرأس مع العائلة متوسط الحال عفيفا حرا بدون قيود ولا احراجات للأخوة الرفاق .
                لقد عرفته وسمعت معظم هذه الحكايات والنوادر منه شخصيا ولم أكن وقتها مهتما بقوة مثل الآن وإلا كنت كتبت ذكرياته وأعماله النضالية حرفا حرف حتى تصبح ذكرى مدونة بالتفصيل عن المغامرات والمخاطرة ولا تضيع مع مرور الوقت وتدخل في طي النسيان .
                  كانت لقاءاتنا وسهراتنا في أواخر الستينات وبداية السبعينات وبالأخص في ليالي الصيف.... كنا مجموعة بسيطة نلتقي معظم الليالي  مع الرفاق المناضل فتح الله و السادة فرج الشخترية وفضل الله ساسي ، وفي بعض الأحيان كان يلتحق بنا  الاستاذ عطية ساسي الذي يتحفنا بلحن من المزمار (الزمارة الدرناوية) في المكان المفضل خارج المدينة ونجهز عشاءا خفيفا سريعا ونشرب الشاي الأخضر ونتحدث في حكايات ونوادر بريئة لتمضية الوقت عن قصص النضال والجهاد الليبي وماذا قدمت مدينة درنة من رجال مجاهدين فلذات كبدها في جميع المجالات .... ولكنها للأسف وكأن بها لعنة دائما سيئة الحظ لا يذكر أسمها بالمجد والفخار فقد كانت منذ الإستقلال تعاني من عدم الأهتمام بها سواءا من العهد الملكي وقتها أو الثوري بعدها خوفا من النقد اللاذع من شعبها ، فهي كجذع النخلة الطويل المائل ، أساسها القائم بالمدينة وثمرها اللذيذ الشهي يتساقط عند الآخرين،  الجيران ، يشع بالنور والخير وأهلها غير مستفيدين من أي خير ومصلحة .
                 قصص كثيرة بعضها يشرف ويسعد أي مواطن درناوي أصيل وكثيرا منها مؤلم عن مدى الإستهتار من أي عهد مضى بمقدرات المدينة ، لم يعطى لها حقها الذي يشرف من إهتمام وإنشاء وإعمار والنهوض بالمواطن ... فهى مدينة النور في مجالات عديدة وآن لها الآن أن تنهض من كبوتها بسواعد أبنائها إن شاء الله تعالى .
                استمرت العلاقة والأخوة والرفقة بين الجماعة حتى عام 1972م عندما مرض ودخل للمستشفى للعلاج ، وتصادف أيامها حادث سيارة في منطقة لملودة لقريبي خال أولادي توفى بعد عدة أيام بالمستشفى (عبد السلام زعطوط ) الشاب الذي لم يتجاوز من  العمر 23 سنة  وكانت غرفة المرحوم في نفس العنبر الذي به السيد فتح الله ولم أعلم بوجوده في ذاك الوقت نظير الانشغال بالمريض حتى توفاه الله تعالى وعلمت انه كان مريضا بالمستشفى وتأسفت أنني لم أزوره في أيامه الاخيرة ، وإستلمت برقية تعزية في المرحوم حيث كان مريضا وغير قادرا على حضور العزاء وبعدها بحوالي أسبوعين توفي المناضل في صمت وهدوء وحضرت تشييع الجنازة وحاليا مثواه الأخير جار المرحومين عبدالسلام ووالدي الحاج المبروك حيث توفى الثلاثة في فترة زمنية متقاربة وتم الدفن في المقبرة القديمة بالمدينة وبعدهم بحوالي الشهرين تعبأت المقبرة وتم اقفالها عام 1972م وبدأ دفن الموتى في المقبرة الجديدة بهضبة الفتائح إلى الآن ، رحم الله الجميع.
              إنني مهما كتبت عن هذا المناضل لا أستطيع الشرح الكثير فهو شمعة أضاءت وشعت بالنور بقوة الشخصية والصلابة والشجاعة وكان عفيفا متوسط الحال ، ينظر للدنيا بأنها فانية غير طامع في شهواتها راض بما قسمه الله تعالى له من نصيب، وأذكر في آخر أيامه كلمات كان يقولها للمجموعة أثناء بعض الجلسات ونحن نسهر ونتسامر ، يوما إذا تحصلت على أموال سوف أشتري مزرعة بمنطقة ( كرسة ) وأتقاعد بقية أيام العمر وكل يوم تأتون للزيارة وتمضية الوقت الجميل .
                 هذه الكلمات والأمنية للمرحوم ترن في أذنى وأنا أسطر  هذه الكلمات حيث توفاه الله تعالى ولم تتحقق أمانيه (رحم الله تعالى الجميع ) فقد كان نعم الأخ والرفيق، وكل مرة تصادف المرور أمام المقبرة القديمة بالمدينة أتوقف وانزل من السيارة وأتلو سورة الفاتحة تحية ورحمة للجميع... والله الموفق.

 رجب المبروك زعطوط

 البقية تتبع...

1 comment:

  1. بارك الله فيك على هذه اللفته الكريمه والمعلومات القيمه المرحوم جدي والد والدتى

    ReplyDelete