بسم الله الرحمن الرحيم
رجال ليبيا المنسيين
الجنرال عمران الجاضرة - الثالث من اليمين باللباس المدني |
في أواخر عهد الامبراطورية العثمانية حاولوا التطوير والتقدم ضمن مخططات إصلاحية متأخرة بالدول والشعوب الذين تحت سلطتها وهيمنتها ومنها وطننا ليبيا التي كانت تابعة لها للإصلاح ومتطلبات التجديد ومنها إستجلاب الشباب صغار السن ، الأحداث ، إلى تركيا للدراسة والتعليم ودخول المدارس العسكرية والتخرج كضباط عسكريين ، والبعض كمسؤولين للأعمال الادارية والرجوع لأوطانهم الأصلية لتولي المراكز والمناصب القيادية وتنفيذ الأوامر من رؤسائهم حسب النظم والعقلية التركية الصارمة وتم الإختيار للعديد من مدينة درنة ونواحيها ومنهم الشباب عمران الجاضرة الحاسي وأخوه الأصغر سنا وخليل باكير بوشيحة وحسن قصار ، خال والدي المبروك، وغيرهم بالعشرات ونقلهم إلى إسطنبول للدراسة بدايات القرن العشرين قبل الاحتلال الايطالي بسنوات عديدة .
رجع البعض إلى مدينة درنة بعد إستكمال الدراسة المدنية ومنهم السيد خليل باكير بوشيحة وإمتهن مهنة محرر عقود بمدينة درنة ولسنوات عديدة حتى توفاه الله تعالى، وكان ضليعا ودقيقا في تحرير المستندات والتوثيق الرسمي للعقود، وعرفته عن قرب وكان إنسانا فاضلا وصديقا للوالد وللأسرة وتعاملت معه شخصيا في العديد من المعاملات الرسمية من بيع وشراء للعقارات وتوثيق عقود شركات وتوكيلات... وكان نعم المستشار الأمين وبالأخص في التوثيق حيث كان منظما بدون مجاملات ولا تجاوزات مثلما يحدث الآن.
البعض الآخر حالفهم الحظ والقبول والانضمام إلى المعاهد العسكرية حتى تم التخرج برتب ضباط أثناء الحرب الشرسة على الامبراطورية العثمانية لتفتيتها نظير الاحتضار في سنواتها الاخيرة وأصبحت عاجزة عن المقاومة والتحكم في شعوبها العديدة مما أطلق عليها الاوروبون نكاية وإستهزاءا "الرجل المريض" .
بدأت الحرب مع اليونان ودول البلقان وغيرهم من الحلفاء الطامعين وكان الأتراك عادلين مع الجميع القادمين من شعوب الامبراطورية، حيث تم تجميعهم كلهم، وبالأخص من كانوا ينحدرون من أصول عربية ، وتم إعطائهم الخيار إما البقاء في تركيا و المشاركة في الحرب أو الرجوع والسفر إلى أوطانهم... ووافق الجميع على المغادرة ماعدى القلائل من العرب الذين فضلوا البقاء والولاء. رفض الليبيون خذلان وترك تركيا بالرفض البات، فهي التي حضنتهم وعاشوا بها سنوات الشباب والرجولة ، وكان ولائهم عميقا لها حيث في نظرهم كان من العار التخلف والنكوص عن الجهاد والدفاع عن الدولة الإسلامية بالروح والدم... مما كان له الأثر الكبير والإمتنان لدى الاتراك الوطنيين.
حاربوا مع القوات التركية بقيادة مصطفى كمال أتاتورك الأب الروحي لتركيا الجديدة في ظروف صعبة ومحن رهيبة وإستشهد الاخ الأصغر لعمران الجاضرة في أحد المعارك الشرسة ضد الحلفاء في معركة جاليبولي حتى وضعت الحرب أوزارها وحافظت تركيا على إستقلالها وكرامتها من الاحتلال وأصبح الليبيون جزءا من الدولة التركية وتغيرت أسماؤهم العربية إلى أخرى تركية بناءا على طلب القادة والزعماء الجدد وتدرجوا في الرتب العسكرية حتى وصل الضباط عمران الجاضرة وحسن قصار إلى رتب عالية بالجيش التركي واصبحوا جنرالات .
وقت إستقلال ليبيا كانت بحاجة إلى بناء جيش ليبي للدفاع عن الوطن وتم تقديم الطلب من الملك إلى الحكومة التركية لمساعدة ليبيا واستعارة ضابط ذو رتبة عالية من أصول ليبية ووقع الإختيار على الجنرال عمران الجاضرة الذي وافق ولبى الطلب وحضر إلى ليبيا وكان أول ضابط يتولى رئاسة الأركان وقيادة الجيش الناشئ من فلول الجيش السنوسي الذي حارب مع الحلفاء في الحرب العالمية الثانية... وإتخذ من مدينة سوسة الساحلية مقرا للقيادة والجيش حيث كان التخطيط على المدى البعيد ان تصبح مدينة البيضاء العاصمة الشرقية لليبيا .
أول زيارة إلى مدينة درنة للجنرال عمران. عندما إستلم مهامه زيارته لإخوته وعائلته بعد المدة الطويلة حوالي الأربعين سنة من البعد والغياب كانت عام 1952 م والجميع ينتظر بفارغ الصبر والفرحة رؤيته وكنت صغيرا بالسن حوالي العشر سنوات من العمر موجودا مع الوالد وقتها في الإستقبال حيث تربطنا بأسرة الجاضرة روابط مصاهرة الحاج حسين عوض إبن أخ الجنرال كان زوجا لأختي الشقيقة الحاجة أمنة . وكان جميع إخوته والعائلة في الانتظار وتوقفت السيارة العسكرية في الساحة منطقة ( الكوي ) حيث يقيمون ونزل الجنرال ودوت الزغاريد عالية وإطلاق الرصاص بالفرحة العارمة وبدأ الجميع في المصافحة والعناق إحتفاءا بالوصول والسلامة .
كان الجنرال ذو شخصية مهيبة قوية متعودا على إصدار الأوامر وخلق بالإدارة العسكرية الجيدة... الضبط والربط وكون من المتطوعين جنودا أشداء يعتمد عليهم في الدفاع عن ليبيا وقت الطلب في فترة بسيطة وحدثت له مضايقات عديدة وحسد وحقد وغيرة من بعض رجال العهد الملكي الجهلة بالأصول والأعراف الرسمية في التسلسل الاداري وكان شجاعا لا يخاف ولا ينافق ولم يرضخ مثل الكثيرين المنافقين منهم لقاء الجاه والمركز ..
الجنرال عمران بجميع المعايير يشرف المهنة العسكرية ، وأذكر البعض من المشاكل التي واجهته أيام نظام الولايات حدثت مشادة وخصام شديد بين قبيلة البراعصة وقبيلة الدرسة في وادي الكوف مما الطرفان تصدوا لبعضهم مواجهة لحسم الأمر بالسلاح وعجزت قوات البوليس وقتها (قوة دفاع برقة) عن فض الاشتباك وطلب الوالي وقتها حسين مازق البرعصي والي ولاية برقة من القائد عمران الجاضرة النجدة وتدخل الجيش لحسم ووقف الامر قبل الصدام والبدء في الرماية واطلاق الرصاص بينهم بصفة عاجلة ... وكان الرد من الجنرال هذه مسألة داخلية ليست من إختصاص الجيش حتى يقحم في الامر، مما كان صادقا في الامر ، رافضا تسيس الجيش والتدخل في الصراعات الداخلية وكانت ضربة قاصمة للقصر والوالي وقتها.
على إثرها وخلفياتها تم خلق القوة المتحركة بقيادة ورئاسة الزعيم (السنوسي الفزاني) الذي كانت عائلته من أتباع ومؤيدي الاخوان الطريقة السنوسية الدينية التي كان زعيمها الروحي الملك إدريس ، وقام القصر والحكومات المتعاقبة للعهد السابق بفتح أبواب التجنيد لها بأجور ومرتبات عالية مما الكثيرون تقدموا كمتطوعين والاختيار كان لنوعيات معينة من البادية موالين للملك ، والدعم المتواصل بالسلاح والمعدات .... مما أصبحت قوية تنافس الجيش وأكثر من حيث القوة والسطوة والتسليح وهي خاصة بولاية برقة ، ومثار تنافس شديد بينهم... ووقت الانقلاب تم الخداع لقادتها ومفرزة صغيرة دورية من الجيش بقيادة موسى أحمد إستولت على قيادة معسكر قرنادة الحصين فجأة بترتيب مع الحراسات وإستسلمت نظير المفاجأة والصدمة ولم تطلق القوة المتحركة طلقة رصاص واحدة للدفاع عن المملكة وقادتها أصبحوا سجناء وعلى رأسهم قائدها الزعيم .
وحدث موضوع مهم لمسيرة الجنرال عمران ، حسب المعاهدة الليبية البريطانية وقتها ، احد البنود تسمح للبريطانيين مراجعة الجيش والكشف عنه وتزويده بالنواقص ، وشاء سوء الحظ يوما وصول لجنة من كبار الضباط االبريطانيين الى بوابة معسكر القيادة في سوسة ولم يكن لدى الجنرال عمران العلم بالموضوع ، وتم الاتصال الهاتفي من البوابة طالبين الإذن بالدخول ، وكان رد الجنرال ببساطة عدم السماح لهم بالدخول حيث كان المعسكر خاصا بالجيش الليبي وممنوع الدخول ... ورجع البريطانيون بخفي حنين شبه مطرودين بصفعة قوية من الجنرال عمران الجاضرة ابن ليبيا الوفي البار .
وزاد الطين بلة رفضه لقائد الشرطة محمود بوقويطين من التشريف في الصف الأول حسب البروتوكول الرسمي في الزيارة الرسمية على أن الاول في الصف يكون قائد الجيش وبالخلف قائد الشرطة أثناء زيارة الملك والوفد المرافق له لمصر في عهد الرئيس جمال عبدالناصر... مما زادت الحساسية وبدأت المؤامرات والدس ضده أنه ( تركي ) صعب التفاهم معه ، ولا يعتمد عليه كقصر وحكومة في حالة حدوث أي أزمات خطيرة للوطن نظير الجهل والقصور في الفهم من رجال القصر... ونجحت المكيدة ووافق الملك ، وتم استدعاء الجنرال إلى القصر وقابل الملك الذي كان متحاملا غاضبا عليه في صمت نتيجة الدس ، وبلباقه وديبلوماسية شكره على الخدمات الجليلة التي قدمها للبلاد وأنهى الاستعارة والخدمات، مما تقبلها الجنرال بصدر رحب ونفذ الامر .
لقد كنت مع والدي طوال الوقت في اللقاءات معه وبالأخص في عطلات نهاية الاسبوع والأعياد التي كان يقضي معظمها فى زيارات لإخوته في درنة وجاء ضيفا إلى بيتنا العديد من المرات تلبية للدعوات لحضور المآدب والحفلات ولدي البعض من الصور معه خلال الزيارات العائلية يوما ما، بإذن الله تعالى، سوف تنشر حيث موجودة حاليا في الحفظ والصون وليست في متناول اليد حاليا للنشر .
غادر الجنرال عمران إلى تركيا وإستمر في الجيش التركي كقيادي آمرا عسكريا رفيع الشأن وحسب العلم كان الآمر العسكري على منطقة حدودية واسعة مع بلغاريا ... وبعد التقاعد عن الخدمة العسكرية كان يحن إلى أهله وإخوته الأحياء في درنة ويأتي في زيارات حتى كبر في السن وزاره العديد من أقربائه ومنهم أخي الثاني شقيقي الحاج حسن وإبنه محمد في إسطانبول وأنقرة ، تركيا ووجدوا منه كل الترحاب حتى توفاه الله تعالى ودفن في المقبرة الرئيسية في أنقرة مع كبار رجال الدولة والمسؤولين الأتراك المشهورين... والله الموفق .
رجب المبروك زعطوط
البقية تتبع...
No comments:
Post a Comment