Sunday, February 7, 2016

قصصنا الرمزية 24

 بسم الله الرحمن الرحيم

 الجوع

                  كلما تسمع  الحيوانات الناطقة أو تقرأ كلمة الجوع تتبادر إلى أذهانهم معاني  الفقر والحاجة و جوع البطن إلى الطعام ، ناسين أن الجوع له عشرات التسميات بلا عدد ولا حساب ، مضامينها كثيرة لمن يفهم ويتعظ ... إبتداءا من جوع البطن التي هي الاساس في الحياة للعيش براحة بدون آلام وخوف من المرض والهلاك ... جوعها القارس بالمعدة الذي يعتصر الأمعاء مما يضيع و يتلاشى النشاط والحيوية و يتحول  إلى خمول وتعب ويعجز الجسم عن الحركة والتفكير الجيد وحسن الرأي والعمل ....  والجوع الآخر الذي  يختلف عن  جوع البطن  هو الجوع للحرية و العيش بدون أي قيود أو موانع من أي طرف طاغية كان .... حيث من غير الحرية يصبح حيوانا أعجما مثل البهائم والدواب ... الجوع للثراء والإمتلاك لكثير من الأشياء من مال و جاه وشهوات وملذات الجسد ... الجوع للإنتقام والقتل وإراقة دم الأعداء و الخصوم و الأخذ بالثأر ... الجوع في التنافس والوصول قبل الآخرين والفوز والنجاح وتحقيق الهدف ، الجوع للسياسي و الطموح في الوصول للقمة والحكم والسلطة بأي ثمن كان ولو على أشلاء الآخرين ...  الجوع لدى الطالب المجتهد للنجاح في الدراسة والإمتحانات ليصبح من الأوائل ...  الجوع الجوع مهما عددت، بلا نهاية !!!
                           جوع البطن ذكرني بقصة وحكاية سمعتها في أحد الأيام أثناء السهر والسمر مع الأصدقاء في أحد ليالي الشتاء  الباردة في الستينات من القرن الماضي ، كنا مجموعة جالسين في الدفء في بيت صديق ، نتحدث عن الكثير من الأحداث والنوادر .... وقتها كانت الحياة بسيطة وجميلة و هادئة لا وجود لأي تعقيدات مثل الآن في عصرنا الحاضر ، لا أجهزة مرئية بهاالقنوات الفضائية العديدة ، ولا الحواسيب و لا الشبكات العنكبوتية ولا أي نوع من أنواع التسلية لقضاء الوقت تشغل البال والوقت غير لعب الورق من البعض أو الذهاب إلى دار الخيالة بالليل لمشاهدة الأفلام... الفقير يبقى مشغولا طوال اليوم في العمل كأجير بعرق الجبين أو مزارعا، والقلائل الذين يعملون في التجارة والبعض في الصناعات الحرفية العديدة المتداولة وقتها حتى يستطيع الحياة و توفير العيش الكريم له و لأسرته ...  و في وقت الفراغ   يكون محتاجا للراحة والنوم حتى يستجمع طاقته لليوم التالي... لديه برامج عديدة وأحلام في ذهنه غير قادر  على تحقيقها، و لا التواصل مع الرفاق والأصدقاء والسفر والترحال من مكان لآخر نظير الحاجة و الفقر و فراغ الجيب ... الكثيرون من المغامرين في المدينة القادرين على تحمل الصعاب يعملون في الصحراء مع شركات النفط بعيدين عن دفء العائلة ، لسد جوعهم من مد اليد لكل من هب ودب ، حيث وقتها عارا لا يغتفر ... مما الوحدة والعمل المضني مع المعدات والآلات بالشهور بدون أجازات غير الأعياد ، طالهم الجفاف وأصبحوا بدون عواطف وشعور مع مرور الوقت ....

              القصة حدثت في منتصف الخمسينات من القرن العشرين الماضي وقت الإستقلال لغابة المختار، في مدينتنا الشلال والصحابة حيث جوع البطن كافرا يجعل الحيوان الناطق الطيب الهادئ في بعض الأحيان شرسا يقوم بأعمال جريئة رغما عنه وممكن تسبب له الضرر الكبير ، القبض في حالة سوء الحظ من أي خطأ قد يحدث بالمصادفة بدون القصد، والفضح في أوساط المجتمع الضيق القليل العدد وكأنه عشيرة واحدة متشعبة وكثيرة الأسر والعقاب والسجن عدة شهور او سنوات نظير التعدي على الغير والضرر ، مما في كثير من الأحيان لا يصدق الحدث ولا يستوعبها العقل بسرعة الذي حدث من أمور شريرة من البعض الوادعين الخجولين ذوي الأخلاق الحسنة الذين يضرب بهم المثل، ناسين الظروف الصعبة القاسية والحاجة الملحة لإتيانها وملء البطن.

               صديقنا الشاب الوديع الخجول (علي) الذي لم نتوقع منه هذه الجرأة وقت أن فتح قلبه وصدره وحدثنا عنها في جلسة سمر مع الأصدقاء ، أنه يوما من أيام الفقر والجوع في ليلة شتاء باردة رجع للبيت عند المغرب جائعا ولم يجد أي طعام ولا كسرة خبز يأكلها حتى ترتاح المعدة من الألم الذي يعصرها من الجوع وعدم تناول أي طعام طوال اليوم  ، ووجد أمه محتارة دموعها على خديها من البؤس والشقاء حيث إخوته الصغار يبكون من الجوع والبيت خاويا من الطعام .... ولإلهائهم وضعت قدرا على النار به بعض الماء يغلي وكأنها تجهز طعام حساء عسى الصغار أن يناموا حتى ترتاح من الألم وهي تشاهد دموعهم تتساقط وغير قادرة على تقديم الطعام حيث أرملة زوجها (والدهم) العائل توفي منذ فترة شهور مضت ولم يترك لهم أي إرث ودخل للعيش به غير البيت ، ووقتها لا وجود لأي مركز ضمان عام ومساعدات يقدم العون للمحتاجين مثل اليوم في عصرنا الحاضر و المساعدات متوفرة في كل مكان للأخذ بيد المحتاجين .

                   كان صديقنا أكبر إخوته شابا ذو الثمانية عشرة سنة ، صحيح البنية في مقتبل العمر والحياة ، عندما شاهد دموع أمه وإخوته الصغار ، نفسه أبية  و لم يستطيع أن يتحمل الوضع البائس والجوع الكافر الذي  كان الجميع يعاني منه .... خرج من البيت هائما على وجهه يريد أن يتحصل على طعام للأسرة بأي ثمن كان ، والجيب خاويا من أي قرش كان حتى يستطيع  شراء الخبز و سد جوع إخوته الصغار ...  كان عميد الأسرة والعائل الوحيد حل مكان أبيه المتوفى ، ونظير الوضع الإقتصادي الصعب في غابة المختار بعد إنتهاء الحرب العالمية الثانية بسنوات ، ومعظم الجميع  يعاني من  الفقر و البؤس و الشقاء ... البطالة عامة ، لا عمل ولا دخل للشاب (علي) إلا من البسيط الصعب ودخل بعض القروش القليلة التي لا تغني ولا تشبع من جوع ، ومهما عمل بكد وعرق طوال النهار في أعمال السخرة وطلاء أحذية جنود المحتل لقوات الأسد العجوز الهرم  ، بصعوبة يستطيع وضع الخبز على المائدة للأكل وبالأخص أن إخوته كانوا عديدين، سبعة من الذكور والإناث وجميعهم صغار بالسن غير قادرين على العمل .

               أثناء السير هائما على وجهه في شارع  (الفنار) حتى شارف نهاية المدينة بالوسط قريبا من شاطئ البحر الصخري الذي به مقام وضريح الولي الصالح ( بوعزة ) والمنارة لهداية السفن ووراءه المقبرة لدفن غير المسلمين ، والمنطقة آمنة لوجود مقر الشرطة المحلية البوليس بالمدينة ودار الخيالة ومقابلها مبنى كبير أحد مخازن السلع التموينية (النافي) لقوات الأسد ، والجنود الحرس كثيرين يراقبون ليلا نهارا خوفا من السرقات والعديد من البيوت السكنية وقتها كانت مميزة سكانها من الضباط والمسؤولين المدراء الأجانب المقيمين مع عائلاتهم....

             سار هائما على وجهه بدون أن يدري ، يفكر في أي حل ليسد رمق الجميع حتى وصل إلى منطقة (علوة بوعزة) مكان السكن وشاهد أحد الساكنين وبرفقته زوجته خارجين وركبا السيارة من أمام البيت مما طرأت الفكرة الشريرة عليه فجأة بالتعدي على البيت والسرقة عسى أن يجد طعاما لسد الجوع الجميع... وأن الساكن وزوجته ذاهبين إلى دار الخيالة القريبة  ، أو لزيارة  إحدى العائلات للسهرة مما سوف يتأخرون بعض الوقت وتتاح له الفرصة بالدخول عسى أن يجد أي طعام كان ... ووقف في أحد الأركان في الظلام يراقب فترة ، والطقس باردا والرياح تهب ورذاذ المطر يهطل بهدوء ولا أحدا بالشارع  ، وهو لابسا ثيابا بالية غير دافئة مما طوال الوقت كان يرتعد ويرتعش من البرد والجوع ، ولما تأكد من الخلو ولا عيون فضولية مراقبة من الجيران ، قفز عبر السور الخلفي حيث باب المطبخ غير متين مما بعد دقائق من الضغط والمعالجة تم فتحه ، ودخل يتسلل بهدوء وصمت حتى لا يفاجأ من أي أحد موجود أو كلب للحراسة يقفز عليه ، ولما تأكد انه لا صوت وأن المكان فارغا، دخل المطبخ ووجد بعض الطعام الجاهز وسد جوعه بنهم وبسرعة حتى شبع ، وتطلع بحجرة التخزين ووجد كمية من طعام العلب المخزنة وبحث حتى وجد كيسا كبيرا (شوال) مما عبأه من الطعام مما لذ وطاب المخزون ، ودخل إلى غرفة النوم وكان سعيد الحظ في احد الأدراج وجد محفظة النقود وضعها بالجيب بسرعة ولبس بعض الثياب الصوف للدفأ من البرد ...    وأثناء الخروج من البيت من الباب الأمامي بهدوء حتى لا يشك فيه أي أحد في حالة الرؤية له من الجيران ، سمع صرير المفتاح في قفل الباب مما قطع تيار الكهرباء على البيت من العداد الرئيسي واصبح الظلام دامسا ، ودخل ساكن البيت وزوجته وراءه بحسن النية كالعادة وضغط على زر تيار الكهرباء عدة مرات ولكن بدون فائدة ومد اليد إلى العداد ليتأكد من الخلل ، حيث (علي) واقفا ظهره للحائط وقلبه ينبض بقوة تسمع دقاته من بعيد ، أول مرة في حياته يسرق و يعتدى وليس له الوقت الكافي بالخروج هربا من الخلف كما دخل... وبسرعة وغفلة لطم بقوة الساكن في  بطنه بالكيس الثقيل المعبأ بعلب الصفيح الصغيرة من التونة والسردين وغيرها مما سقط على الأرض يتلوى من المفاجئة الغير متوقعة حدوثها ، وخرج من الباب هربا يجري بسرعة ، وزوجته من المفاجئة لسقوط زوجها في الظلام لا تعرف ماذا حدث ...  صرخت صرخات عالية ولكن لا أحد يسمع في الطقس البارد وخلو الشوارع من المارة، وكان سعيد الحظ لم يشاهده أي أحد من الجيران وتوارى بسرعة في الظلام ...

             صاحب البيت كان ضابطا ذو رتبة عالية قام بالإتصال الهاتفي طالبا النجدة ... مما حضر الجنود الأجانب والبوليس المحلي من كل مكان بسرعة للقبض على اللص المعتدي  ووضعوا دائرة مغلقة حول الشوارع القريبة صعب الإفلات من قبضتهم ، والسارق (علي) لم يهون عليه ترك الكيس والهرب والنجاة بالنفس حيث معبأ بالطعام الكثير لإخوته الجياع وبدلا من السير إلى داخل المدينة هداه التفكير للتضليل الذهاب إلى عكس الإتجاه لشاطئ البحر الصخري مرورا بالمقبرة وترك الكيس في أحد الفجوات، وشاهد ظلال المطاردين من قريب على أضواء أعمدة تيار الكهرباء بالمنطقة وعرف أنه لا محالة سوف يقبض عليه ، مما هداه الفكر للنجاة ومشى إلى الحاجز حيث يعرف المنطقة جيدا وقفز في البحر الهائج ذو الامواج العالية والتيار الكبير مخاطرا بالحياة في الطقس السئ وسبح إلى الجزيرة الصخرية الصغيرة المقابلة القريبة حتى وصل وجلس يرتعد من الخوف والبرد والمطاردة وشاهد من بعيد ظلال الأنوار من البطاريات الجافة من المطاردين تتراقص في البحث عنه، وطلب من الله تعالى أن لا يعثروا على كيس الطعام ويأخذوه وهو السبب الكبير في هذه  المغامرة ، المطاردة والمعاناة ...

                  وبعد بحث طويل في المقبرة وحولها لم يتوقع المطاردين أنه سبح للجزيرة في هذا الجو العاصف البارد، الذي لا يقوم به إلا المجنون وغادروا المنطقة خائبين ، وبعد فترة طويلة سبح بهدوء عائدا للشاطئ عند الفجر وأخذ الكيس على ظهره ومن طرق خلفية مشى وسط المزارع حاملا للكيس الثقيل والذي لا يشك فيه أي أحد، حيث يعتقدون أنه مزارع ذاهب لسوق الخضار لعرض و بيع  بضاعته كالعادة ، ووصل للبيت مع الضياء في منطقة (المغار) وهو بالكاد يسير ويمشي من ثقل الكيس والإعياء مريضا من البرد والحمى حيث غاب طوال الليل وليست من عادته التأخير ، والأم قلقة لم تنام من أي سوء قد حدث له، وفرحت بحضوره وبكيس الطعام والجنيهات في المحفظة فرحا شديدا حيث تستطيع شراء الدقيق وإشباع الصغار بالخبز لفترة من الوقت وصديقنا (علي)  قضى ثلاثة أيام طريح الفراش من البرد والحمى وهو يهذي حتى من الله تعالى عليه بالشفاء وإستعاد  صحته و نشاطه ...

             لم يحكي بالقصة والحكاية فترة طويلة وعذبه الضمير على التعدي والسرقة وأصيب بالكآبة بعض الوقت ولكن مجبرا حيث النفس أبية ذات كرامة ، وليس عن رغبة وطواعية السرقة والمغامرة التي قام بها، وأقنع النفس وطلب المغفرة والرحمة من الله تعالى وأن لا تتكرر المغامرة مرة أخرى، مؤمنا أن الخالق عارفا بالأمر ، غافرا للذنب على الفعل المشين والسرقة  ، تهون المغامرة والسرقة للطعام وقت الحاجة الملحة الضرورية لقاء إشباع أفواه إخوته الجياع ، حيث بمحتويات الكيس وبعض الجنيهات التي سرقها ووجدها بالمحفظة ، بالتقتير في الصرف عاشوا عليها بضعة شهور إلى أن تم الفرج ، حيث المولى عز وجل لا ينسى أي أحدا مهما كان ، يرزق كل حيوان ناطق وغير ناطق ، بالغابة الكبيرة من رزقه الواسع و بالحلال !!!!

           كان الله تعالى في عون الفقراء المحتاجين وكل مسكين جائع في البطن في هذه الغابة الكبيرة المترامية الأطراف ، حيث الفقر ليس بعيب وعار ولا الثراء والغنى بفخر ، جميعنا فقراءا للرحمة والمغفرة من الله عز وجل ، عسى من هذه الحكاية التي حدثت ومازال صاحبها كهلا عجوزا حيا يرزق، أن يأخذ منها الكثيرين دروسا وعبر وبالأخص الأسود والسباع الحكام المتخمين من كثرة الطعام مما لذ وطاب والذي فضلات موائدهم تشبع الكثيرين من الرعية الجياع، ويمدوا يد العون للمحتاجين العفيفين ذوي الكرامة والإباء في النفوس الذين لا يرضون بالتعدي والسرقات، والذين نحسبهم أغنياءا من التعفف والواقع المرير هم فقراءا محتاجون للعون في ستر الله تعالى ... والله الموفق...
                                                                              رجب المبروك زعطوط

No comments:

Post a Comment