Sunday, October 9, 2016

خواطر عامة 10

بسم الله الرحمن الرحيم

 الدراويش
 10

                  في الستينات من القرن العشرين الماضي، كانت مدينتنا درنة تعج بالكثيرين من الرجال والشيوخ الأجلاء والذين بعضهم من التقاة حفاظ كتاب الله تعالى القرآن الكريم، وبعضهم وعاظ يأمون الناس في الصلاة بالمساجد، مما لهم الإجلال والتقدير ولهم إحترام خاص في المعاملات في أوساط العارفين... واخرون كنا نعتقد أنهم دراويش سذج و لهم رهبة خوفا من ردود الفعل والإيذاء في حالة الإستهزاء عليهم،   حيث كنا نعتقد أن بعضهم لديهم أخوة  مع الجان من العالم الآخر .... ومنهم من كان  يمر  بحالات خاصة عقلية غريبة مما إعتبرناهم مجانين وكانوا ينعتونهم ببعض التسميات الغير كريمة...  إستهزاءا والواقع نحن المجانين لأننا لم نستطيع استيعاب مثل هاته الفئة من المواطنين وقتها حيث يعيشون في عوالم أخرى بعيدة عن مستوى عقولنا في الفهم نظير الجهل وعدم التدقيق في الأمور وحب الاستهزاء.

                        والدليل عليها قصص كثيرة وروايات ترددت في الأوساط المحلية وإحداها ( نوادر بالة ) حيث اسمه الصحيح كان (حمد) من مدينة إزليتن بالغرب كما يقال في الأوساط المحلية، وليس بالة، و كان عاملا أجيرا بعرق جبينه ويحمل جاروف ذو يد طويلة غليظة من الخشب على كتفه مثل البندقية في التسمية المحلية (بالة) للعمل بها، ولا يستطيع تركها خوفا من ضياعها حيث عدة عمله يحتاجها للعمل يوميا، ونهاية الأصيل يرجع إلي مكان إقامته حيث يسكن  بمنطقة  بومنصور الجبلية، ماشيا على الأقدام مارا على الميدان الذي يطل عليه بنك باركليز وقتها، والذي تغير العنوان وإنتقل إلي ميدان البلدية مقر فرعه الجديد وحل مكانه المصرف التجاري، في البناية العتيقة....

                    كانت تطل على الميدان عدة مقاهي أذكر منها مقهى الهنيد المعروف عنه أن رواده معظمهم من كبار السن، ومقهى الديباني الذي كان مشهورا ويؤمه معظم شباب المدينة للجلسات ولعب الورق و وراءه دار خيالة الزني (السينما الصيفية) التي كانت بدون سقف، تستعمل طوال ليالي الصيف الرائعة، مكانها الآن عمارة الأوقاف... ولاحظ الشباب الجالسين في المقاهي وعلى دكة حديقة الوادي والتي مع الوقت تم ردم معظمها من الشرق  وأصبحت من ضمن الشارع الذي يؤدي إلى ميدان البلدية والسوق ...

                         وكان العامل وطريقة المشي الغريبة  بإنتصاب كالجندي بخطوات عسكرية حاملا  الجاروف مما أطلقوا عليه لقب بالة بإسمها كإستهزاء ونكاية، وكان خفيف العقل سريع الغيظ والغضب يثور بسرعة على المستهزئين ويرد عليهم بالسباب البذئ من الغيظ...  مما زادوا ا عليه في القدح والضغط اللاذع كمرح قوي العيار، حتى يثور ويخرج عن طور الإتزان وبالأخص من الأولاد الصغار، ومع الأيام وكثرة الترديد وردوده ثبتت النكاية وأصبح إسمه مشهورا يعرف به في المدينة ( بالة )، بدلا من إسمه الحقيقي ووصل إلي مرحلة ذهاب العقل والجنون من كثرة النعت المشين ...

                   كان عثمان أحد أصدقائي (رحمه الله تعالى ) عطوفا عليه يدعوه إلى أحد المقاهي عندما يشاهده في بعض الأوقات بالسوق بالصدفة، لشرب فنجان قهوة معا في جلسة سمر ودردشة عامة ويتحدث معه بجدية بدون إستهزاء مثل الآخرين مما إرتاحت نفسية الدرويش بالة له وأصبحت معرفة مع الأيام... وفي أحد الدعوات الفريدة يوما ما في الجلسة بالصدفة من خلال الحديث المتشعب في أمور عديدة ، سأله عثمان عن الفرق بين أمريكا والعرب، كسؤال عام وكان الرد ببساطة وبسرعة، ( أمريكا كرة حديد والعرب يلعبون مباريات ضدها وأقدامهم حافية بدون نعال )، مما عثمان إستغرب من الرد السريع الذي لا يصدق والحكمة البليغة والتي كانت وقتها مقولة مأثورة لو عرف أولاة الأمور العرب أبعادها ...

                       وحاول في كل مرة يشاهده دعوته للجلوس والحديث الشيق، وكان وقتها الرئيس جمال عبد الناصر له خطابات عديدة تذاع في الراديو، حيث لاوجود لأجهزة التليفزيون والقنوات المرئية بعد في عالمنا العربي ووجدت عند البعض من الأثرياء، وليست مثل الآن في الوقت الحاضر في كل مكان ، وأصبحت جزءا من حياتنا اليومية ، والخطابات للجماهير كانت شبه أسبوعيا خطابات لاذعة ضد إسرائيل وأمريكا حليفتها، على المساندة والدعم القوي ، والإعلام يذيعونها شبه يوميا خطابات الزعيم ، المملة بالساعات من كثرة الترديد وكأنه أستاذ يشرح لطلبة في الفصل الدراسي أغبياء  غير فاهمين، مما لصقت بالأذهان أنه على حق وصدق وأثبتت الأيام أنه خطأ وخداع كبير ضرره على الأمة العربية فادح ، نتيجة الأخطاء والجبروت والغرور... وكانت نتيجته نكبة حرب سنة 1967 م، وخسارة ثلاثة جيوش عربيه في مدة ايام  وضياع الكثير من الأرواح الشهداء والأرض والمعدات، وسأله عثمان عن رآيه في خطب الزعيم الذي هيج العرب بالوطنية والعداء لإسرائيل على إغتصاب أرض فلسطين من المحيط إلى الخليج وكان الرد ، (العرب مثل الضفدعة سقطت في الوادى و تيار الفيضان السريع يجرها إلي الهاوية والهلاك بسرعة، وهي تزغرد ولا تعلم ولا تعرف مصيرها القريب المؤلم المميت! )... لا مقارنة بينهم بالمرة أمريكا وصلت للقمر بالعلم والتخطيط ، والعرب مازالوا علي الأرض في جهل، يموجون في هرج ومرج معظم الوقت في خطابات حماسية وأمنيات للشعوب العربية المتعطشة لإسترجاع أرض فلسطين المحتلة بدون دراسات وتخطيط جيد، للسير عليه حتى يتحقق الهدف يوما مهما طال الوقت....

                        في أحد أيام الصيف القائظة  شديدة الحرارة كان بالة يمر ماشيا  في وسط شارع السوق بشارع إبراهيم أسطي عمر ، المشهور بأسم (وسع بالك) في وقتنا الحاضر وكان يضع على رأسه خوذة من الجلد سميكة تغطي  حتي أذنيه كسماعات، مثل التي يضعها جنود الدبابات على رؤوسهم لمنع سماع الأصوات الشديدة من القنابل المدوية في ساعات الحرب أو التمرين، ويسير بنفس طريقته الغريبة بعكاز غليظ غير مهتما بالنكايات والإستهزاء من البعض وكأنهم غير موجودين، وشاهده عثمان بالصدفة وسأله لماذا لبس الخوذة الغريبة في الحرارة ؟؟ وكان الرد السريع والغير متوقع، ( حتي أسمع صوت الضمير الذي يقول لي، لا تهتم ولا تسمع لهؤلاء البشر المجانين!!! الذين ينعتون في بإستهزاء متعمدين وكأنني بهلوان مجنون للتسلية والمرح ولست بإنسان) مما إستغرب صديقي عثمان من الرد السريع اللاذع، والحكم البليغة التي يقال أنها تصدر من آفواه المجانين مما في نظري أن بالة ليس بمجنون ولكن يدعي الجنون لمآرب أخرى لا يعلمها الا الله تعالي راجيا أن لا نكون أخطأنا في حق الدراويش بالإستهزاء....

                  لقد عرفت البعض من الشيوخ الأجلاء، والدراويش  وشاهدتهم بالعين المجردة في عدة أماكن في المدينة مثل ( بالة، وسي عبدالجليل، وأكرومة، و أوحيده والصادق، والطشاني، والهنيد) رحمهم الله تعالى جميعا، وغيرهم أمثال الشيوخ ، القديري ، و مكراز والعقوري وآخرون الذين مازالوا على قيد الحياة يرزقون  ، ولدي معرفة شخصية مع البعض ولقاءات عديدة وسمعت الكثير من الحكايات عن العالم الآخر ، والتي غريبة عجيبة تكاد لا تصدق ، والآن لا اذكر منها إلا القليل من طول السنين فقد مر على معظمها حوالي نصف قرن من الزمن ومازالت عالقة بالذهن ، متسائلا وقتها وإلى الآن من هو المجنون ؟؟ هل بالة الدرويش، والآخرون، ام نحن المجانين والدراويش ؟؟ حيث جميع ردوده كانت سليمة في قالب رموز ، لا تصدق وقتها لأننا كنا غافلين مخدرين نعيش في حلقات الكذب والخداع المتواصل في الإعلام وعدم قول الصدق والصراحة والإعتراف بالحقائق المرة، من أولياء الأمر بالوطن العربي مما مرت كلماته المأثورة مرور الكرام في كلام وضحك،، وسرور ولو تمت دراستها جيدا من قبل خبراء منذ ذاك الوقت ،، وتحليل آبعادها ،، أمورا كثيرة ومصائب عديدة وكوارث جسيمة ، لم تحدث، ولكنها إرادة القدر ، لا نعلم ولا نعرف الغيب لأننا بشر...

                  وبخصوص الدراويش كان الله تعالى في عونهم ، فقد كانت المدينة في الخمسينات والستينات تعج بالكثيرين ، وكنا ننعم بالسلام والأمن والآمان والبساطة والطيبة والصدق في الوعد والعهد ضمن الأخلاق الحميدة إلى حد السذاجة، ضمن البركة والرحمة والمغفرة، أيام العهد الملكي الزاهر ،الي ان حل البلاء وقام الإنقلاب الأسود، ثورة الفاتح عام 1969 م، وفي فترة وجيزة من الوقت غابت معظم الوجوه المألوفة بالموت والهجرة إلي أماكن أخري خارج المدينة وكأنها هجرة جماعية ، وبقي القلائل بها مما زاد الإعتقاد لدى سكان المدينة العارفين لهم أنهم أولياء ومن رجال الله تعالى الصالحين، الذي كان بعضهم يرتدون أسمال ثياب بالية بالكاد تحمي أجسادهم من البرد فترة الشتاء، وكأنهم غير راضين على الوضع الجديد الشيطاني، حكم الجماهير، والله أعلم! والله الموفق...

 رجب المبروك زعطوط

No comments:

Post a Comment