Tuesday, September 27, 2011

قصصنا المنسية 18

 بسم الله الرحمن الرحيم
 زيارة بغداد 2


                اليوم الرابع في بغداد تم اللقاء بناءا على طلبنا مع السيد خليفة المنتصر الذي كان مقيما معززا مكرما لاجئا سياسيا ببغداد ضيفا على العراق، حوالي الساعة 9 صباحا يوم طقس قائض شديد الحرارة بالخارج والذي لم نكن نحس به بالداخل حيث كان الجو رطبا وساحرا من الهواء المنعش ينساب من المكيفات الكبيرة التي كانت تعمل على مدار الساعة، بدون توقف .
             كان الرجل وقتها في حوالي العقد السابع من العمر وبعد التقديم والسلام والتعارف جلسنا على كراسي صالون دائري متقارب لوحدنا بحضور الرفاق الليبين وحراسات شباب حزب البعث المدنيين من بعيد، وسألته سؤالا محددا عن الرسالة وترجمتها، وإبتسم الرجل وقال لنا بمرارة ترجمة الرسالة المشئومة هي سبب بلائي وهروبي من ليبيا لأنني لو إنتظرت قليلا لكنت الآن ميتا بالقبر أو قابعا بالسجن إلى ماشاء الله تعالى .
             وسرد لنا القصة المثيرة والتي في ذلك الوقت في ليبيا كانت تتلى على أضيق نطاق، خوفا من الاتهام ، حيث أقل إشتباه يصبح صاحبها متهما  ويكون مصيره السجن أو القتل وإخماد الأنفاس غدرا حتى لا تفوح القصة لدى أبناء الشعب ويعلمها الداني والقاصي والتي القذافي وحواريوه لا يريدون نشرها لأي سبب كان،  وقتها، حفاظا على سمعة العقيد من أن تلاك في الأفواه ويصبح محل سخرية في أوساط الشعب وفضيحة من الفضائح في الشارع الليبي حيث  كان معظم الشعب  في ذاك الوقت  يعيش في الخداع والتدجيل والتمثيل ويحبونه لدرجة العبادة... فلو تظهر الحقيقة  أنه من أصل يهودي غير ليبي أصيل، والتي وقتها مصيبة كما كان يدعى ويروج له الحواريين أنه إبن ليبيا البار الذي سوف ينهض بها من الخراب والدمار، والواقع المرير أن الأهوج هو الذي أوصلها لهذا الحال من الخراب والدمار على جميع المستويات نظير شطحات الجنون والعظمة الفارغة والإرهاب.
          قال محدثنا أنه في بدايات الثورة تم إستدعاؤه بالليل من قبل مجلس الثورة عن طريق الشرطة العسكرية ولم يعرف سبب الإستدعاء، مما شعر بالخوف والرعب من الطلب حيث كان موظفا سابقا بالخارجية أيام المملكة وخاف من الزج بإسمه ضمن المطلوبين للقبض والتحقيق معهم من المسؤولين... ووصل للمجلس وهو يرتجف وعندما شاهد إبن عمه المصراتي الضابط ،عمر المحيشي، عضو مجلس قيادة الثورة مع بقية الحاضرين، إطمأن قليلا وبعد التحية والجلوس على أحد الكراسي ضمن طاولة الإجتماعات الكبيرة وكان الحضور جميع الأعضاء بالمجلس عشرة من الضباط ولم يكن غائبا عن الحضور سوى الرئيس العقيد  معمر القذافي ونائبه الرائد عبدالسلام جلود الذين كانوا وقتها في زيارة إلى سرت حسب ما قيل له .
               سلمه المحيشي الرسالة وطلب منه ترجمتها من اللغة الإيطالية إلى العربية وتصفحها بسرعة وعندما عرف محتوياتها بدأ يرتجف ويرتعد وقال له المحيشي لا تخاف خذ راحتك وترجم بالحق، وترجم الرسالة بصدق وكانت من أحد الكرادلة بالفاتيكان في روما ، يشيد بقائد الثورة  معمر ويشرح له نسبه وأصله ويوصيه بالجالية اليهودية التي نفيت من ليبيا بعد النكسة عام 1967م وهزيمة العرب ، بالتعويض المناسب ، والرأفة بالجالية الإيطالية في ليبيا حتى لا يحدث لهم مثلما حدث مع اليهود الليبيين .
                وشرح الكاردينال في الرسالة (الذي كان وقت ميلاده راهبا في منطقة سرت في الأربعينات من القرن العشرين الماضي وكان له العلم بالقصة من البداية ، وتدرج في السلم الكهنوتي في فاتيكان حتى وصل إلى منصب ديني كبير، كاردينال) قائلا للقذافي أن الأديان الثلاثة إجتمعت فيه وأنه الرسول المختار والدته يهودية ليبية حملته بالحرام بدون زواج  شرعي رسمي معترف به ، ووالده ضابط إيطالي مسيحي كاثوليكي، ويوم ولادته خافت أمه من عائلتها اليهودية المتزمتة دينيا ومن خنق وقتل الرضيع ، فتم تسليمه إلى محمد بومنيار القذافي الليبي المسلم ، المجند ضمن الجيش الإيطالي والخادم لدى الضابط في قضاء حوائجه ، لرعاية الرضيع المولود وتربيته في بيته مع الآخرين من افراد عائلته... مما نال ، الكفيل بومنيار، إهتماما وسخاء من قبل  الضابط الإيطالي الأب نظير تربية اللقيط في كنفه وكان فأل دخل لأسرة بومنيار الفقيرة حيث نالت خيرا كثيرا نظير تربيتها ورعايتها للرضيع من نقود وعطايا من مواد غذائية والتي كانت نادرة وقتها أثناء الحرب العالمية الثانية....
               عندما سمع الضابط  محمد المقريف الترجمة وكان شجاعا قويا متهورا خبط الطاولة بقبضة يده بعنف وقال الكلمة المأثورة عنه والتي كانت سبب هلاكه وموته: "آخر الزمان يحكمنا نحن الليبيون العرب المسلمون شخص يهودي عديم الأصل والفصل!" ...  وإنفض الإجتماع بين مادح وقادح من الأعضاء والبعض كان محتارا،  غير مصدق للموضوع ولا يدري كيف يكون العمل والتصرف؟؟ وطلب منه الصمت والسكوت وعدم البوح بالسر لأي أحد كان تاركينه في حاله يرجع للبيت بدون مشاكل وحجز نظير الترجمة والمعرفة.
                السيد خليفة ذو تجارب مريرة ولديه خبرة وحنكة سياسية وعرف بالحدس أنه لن ينجى ببساطة ويترك في حاله  نظير الترجمة للرسالة المشئومة في نظره،  ذاك الوقت، ولم ينم الليل وهو يفكر ويقلب الامور وقرر الهرب بالصباح طالما الفرصة سانحة والسفر والهجرة ليضمن حياته... وفي اليوم الثاني رتب حاله وأحواله وغادر فجأة إلى بغداد مع عائلته ليحتمي بقيادة العراق حيث كانوا على خلاف وصراع مع القذافي منذ  يوم الإنقلاب الأسود... ولا يثق في رجال مخابرات مصر حيث قضى وقتا هناك في السفارة الليبية ويعرف أن البعض من المسؤولين طماعين مرتشين ومن الممكن أن يقبضوا  عليه بأي حجج ويسلموه إلى ليبيا بسهولة لقاء دفع المال... وقد حدث ذلك بعد عدة سنوات وتم خطف رجال ليبيا الأحرار أمثال السيد المناضل ، جاب الله حامد مطر ، والسيد منصور الكيخيا،  من طرف المخابرات العامة أيام عهد الرئيس حسني مبارك لقاء حفنة ملايين دولارات باع شرف مصر وكرامتها بسهولة ، عكس الرئيس السادات الوطني المخلص إبن مصر ، الذي قال عنها وصدق في القول حتى وفاته:"مصر وطن الأمن والأمان".

            الضابط الشجاع محمد المقريف الذي خبط الطاولة وتفوه بالكلمات المسيئة للعقيد في فورة الغضب تم إستدعاؤه للقدوم إلى سرت بسرعة حسب ما سمعت نظير المتابعة، وركب الطائرة الهليكوبتر بحسن نية وأثناء الطريق وفي بقعة مهجورة قفز عليه الحرس وتم رميه من علو شاهق بحيث توفي في الحال ورتبت له المسرحية للتغطية والتمرير بأنه حادث سيارة وظهر الرائد عبدالسلام جلود على الشاشة المرئية وعليه ضمادة (لصقة) بسيطة في مقدمة الراس بالجبهة للتمويه والتضليل وأعلن الخبر المفجع وأنه نجى من الحادثة الأليمة بعد أن كان برفقته في السيارة وقد شاهدته شخصيا وهو يعلن عن الحادثة المفجعة وقتها ولم أصدق القول والبيان  .
              الغريب الذي لا يصدقه أي أحد أن  المرحوم  محمد المقريف كان صحيح البنية، والذين قالوا في البيان الطبي  الرسمي الغير معلن أن به كسورا بلغت 21 كسرا بالجثة والرائد جلود عبارة عن خدش بسيط ومضى الأمر ببساطة وصدقه المغفلون، فهل يوما من الأيام، سوف تفتح الملفات لنعرف الحقيقة المرة وكيف توفي الرجل الشهيد الوطني الذي قدم حياته في أوائل بدايات الإنقلاب (هرب الرائد جلود من طرابلس إلى إيطاليا وهو شاهد إثبات على العصر والحدث، نرجو منه الإيضاح حتى نتأكد من صحة القصة للتاريخ).
         بعد هذا الحدث بفترة بدأت سلسلة الإغتيالات والتصفيات لبعض الضباط الكبار بحوادث سيارات مدبرة والبعض أقصي عن السلطة بناءا على رغبته، خوفا من الإستمرار فقد لمس كيف تدار الأمور بالعنف والقوة وليس كما كانوا يتوقعون  بالديموقراطية ... وهناك الكثير من القصص التي يوما سوف تكون مسلسلا به آلاف الحكايات والحلقات عن ماتم من حوادث وقتل وإغتيالات حتى صفى الجو وحكم العقيد الأهوج الوطن بالخوف والإرهاب .
               شكرنا الرجل على سرد القصة كما حدثت معه وودعناه على أمل اللقاء يوما عن قريب في طرابلس ليبيا وإنتهت المهمة في بغداد، العراق، ورجع كل واحد منا إلى حيث يقيم ونحن نتأسف على الحدث، وبعدها بمدة طويلة سمعت أنه إنتقل إلى رحمة الله تعالى وتوفي غريبا مهاجرا ودفن في بغداد العراق (الله يرحمه ويحسن له) .
             قامت القيادة العراقية بالوفاء بوعودها وعهدها بدعم ممتاز للمعدات والتقنية والتي عن طريق دولة تشاد حسب ماعلمت ، وبدون علمها على ما أعتقد، هربت وأدخلت إلى ليبيا عبر الصحراء الشاسعة ووصلت حتى مدينة إجدابيا وتوزعت إلى بعض الأماكن في مدن وقرى الوطن للإستعداد للثورة ضد نظام الأهوج، تحت إمرة البطل المناضل جابالله حامد مطر، والتي كانت المطاردة الرهيبة له من قبل اللجان الثورية والمخابرات الليبية في صمت لعدة سنوات ودفع الملايين من الدولارات للقيادة المصرية العميلة للقذافي وخطف الرجل المناضل من مبنى المخابرات المصرية في القاهرة بعلم الرئيس المخلوع، حسني مبارك ، وأوامره، والذي الآن يحاكم على الجرائم التي لا تحصى ولا تعد تجاه الشعب المصري أولا....وإنتهاءا بالدمار للشعب الفلسطيني عندما صافح وزيرة الخارجية الإسرائيلية بالموافقة الضمنية في الخفاء وتحت الطاولة لمحاربة فلسطينيي  غزة وأن مصر لن تتدخل ولن تفتح المعبر... وهذا ما شاهدناه في الإذاعة المرئية، قناة الجزيرة،  وحدث الذي حدث... والله الموفق .

              رجب المبروك زعطوط

 البقية تتبع...

No comments:

Post a Comment