Monday, September 26, 2011

قصصنا المنسية 17

بسم الله الرحمن الرحيم

 زيارة بغداد 1

               كل حاكم او رئيس طاغ ديكتاتورا جبارا متسلطا على كاهل شعبه ظلما بقوة السلاح والارهاب عبر التاريخ والزمن له حكاية ، وقصة وذكرا سيئا مليئا بالشرور ملعونا دنيا وآخرة. ونحن الليبيين قصتنا طويلة ومسرحية منذ الاستقلال للوطن لأول مرة بالتاريخ عبر الزمن من 1951/12/24م   ولم تنتهى بعد. ضمن فصولها العديدة والحدث المهم بدايات الانهيار والدمار الانقلاب الاسود يوم 1969/9/1م   وانتهاء العهد الملكي الزاهر ونفى الملك ادريس السنوسي الزاهد في العرش، وبدأ عصر الجماهير الفوضوي الفاسد واستمرت المسرحية طوال اربعة عقود ونيف من السنين العجاف إلى يوم التمرد والثورة وإقتحام معقل الطاغية 2011/8/23م   وفي لحظاتها الاخيرة تصارع من أجل البقاء ، ننتظر حتى ينتهى الطاغية من الوجود عن قريب بإذن الله تعالى .
                     لم تظهر الحقائق بالأدلة القاطعة عن صحة ميلاده ، أصله وفصله وهل فعلا العجوز محمد بومنيار والده الحقيقي أم لقيطا تبناه حسب مايقال همسا في أوساط الشعب منذ فترة طويلة....  فقد طمست جميع الآثار من السجلات بطرق خفية شيطانية ومات وغاب في ظلام القبور كل من يعرف أي شىء عنه من الأسرار الدفينة، بطريقة أو أخرى في عهده حتى لا تكون شوكة ومجالا للطعن فيه وأبنائه من بعده.
                قضى فترة التمرد والثورة شهورا وأسابيعا عديدة يتظاهر بالشجاعة والواقع أنه كان خائفا كالجرذ، مختبئا في السراديب والأنفاق في باب العزيزية ، قلعته الحصينة،  خوفا من الظهور إلا في بعض الحالات التي كان يضطر فيها للخروج بناءا على نصائح مستشاريه حتى يثبت للرأي العام أنه لا زال حيا يرزق ولا زال قابضا على زمام الامور، يرغي ويزبد من على سطح القلعة الحمراء في طرابلس مطلا على الساحة الخضراء (ميدان الشهداء) يهدد ويتوعد أبناء الشعب الأحرار الوطنيين بالمطاردات والملاحقات (زنقة زنقة وبيت بيت ودار دار) ناسيا أفعاله المشينة وتنازلاته العديدة ودفع البلايين تعويضات سخية في قضية لوكربي، سقوط طائرة شركة البان آم  في إسكتلندا وتسليم معدات وأسلحة الذرة لأمريكا أنها شواهد ثابتة دامغة على خوفه وجبنه وقت الجد والوعيد بالعقاب العنيف من القوى العظمى .
              أبناؤه الذرية الفاسدة على نفس شاكلته في الجنون والمجون،  في العهر والفساد وهتك الأعراض والصرف على الغانيات واللواط والإدمان على المخدرات والأفيون.... وقتل الشرفاء الضحايا في صمت وسرية وفي أضيق النطاق اذا بطريقة ما بالصدف إكتشف البعض من الاسرار الخاصة بالعائلة لحظات المجون والسقوط في الرذيلة بالمصادفة حتى يوما لا تصبح قضية وقصة للفضح للعامة ، الضمان للكتم والدس للأبد بالنسبة لهم الموت والقبر أحسن الآماكن لحفظ الاسرار والتغطية ، ناسين متناسين وجود عين الله الساهرة تراقب، تمهل الظالمين ولا تهمل، مهما طال الوقت والزمن أنه ليس من حقهم قتل النفس بالظلم .
                  الفساد والإفساد في الحرث والنسل إستشرى على جميع المستويات في الدولة مما يعجز الباحث عن العد والتعداد يحتاج إلى عشرات المجلدات للكتابة والتدوين ويعجز عن الشرح للمخططات الشريرة من قوى الشر الخفية حتى لا تنهض ليبيا من الكبوة وتتقدم.
                  أيام عهد الظالم القذافي ترددت قصص كثيرة وهمس في الأوساط عن رسالة خطيرة في محتوياتها من احد الكرادلة بالفاتيكان موجهة إلى القذافي تطلب منه الصبر والإحسان على بقايا الإيطاليين المقيمين في ليبيا ، وعن صرف مستحقات اليهود الليبيين المهاجرين خارج ليبيا، وعن مولده وأصله وفصله... ولقد تحريت عن الرسالة ومن مترجمها؟ وهل القصة حقيقية ام عبارة عن خداع ودس؟ وشاءت الصدف وزرنا العراق كوفد معارضة برئاسة السيد جاب الله مطر وعضويتي شخصيا و جمعه إعتيقه، للتعريف بالتنظيم (جيش الانقاذ الوطني) أثناء الحرب الشرسة بين العراق وإيران والذي قام بالتنسيق  والتعريف بنا للجهات المعنية المسؤولة المناضل محمد السكر الحاسي من مدينة شحات والمناضل المحامي عمران بالرويس من بنغازي .
                  تم الإتفاق على الزيارة وتحديد ميعاد السفر ووصلت من امريكا إلى قاعة الترانزيت في مطار فرانكفورت بألمانيا ، وحضر السيد جابالله من القاهرة ، مصر، والسيد جمعه إعتيقه من روما ،إيطاليا، وتقابلنا معا حسب المواعيد المتفق عليها ، وصعدنا الطائرة الالمانية حتى وصلنا بعد عدة ساعات مرهقين من الرحلة الجوية الطويلة من البداية إلى بغداد وكانت بالنسبة لي شخصيا أول زيارة لها.
              وصلنا حوالي منتصف الليل وكان الطقس قائظا والحرارة عالية بجفاف وإخوتنا العراقيين في الانتظار لاستقبالنا كضيوف أعزاء كرام معارضين، نكاية في القذافي، وعشرات الصحافيين من وكالات الأنباء والمصورين ينتظروننا في المطار لتغطية الحدث.  دخلنا إلى قاعة الشرف لكبار الزوار ، وطلبنا من المسؤولين عدم التصوير لأسباب أمنية والخوف على عائلاتنا ومعارفنا في ليبيا من الإنتقام من طرف اللجان الثورية والأمن مما في لحظات صدر الأمر بالمنع وغادر الجميع القاعة، مما ارتحنا وسعدنا بالأمر.
               وصلنا فندق شيراتون بغداد في موكب من عدة سيارات حيث أخلدنا للراحة والنوم. وفي اليوم الثاني كان لدينا برنامج حافل باللقاءات مع الكثير من مسؤولي حزب البعث والحكومة، الذين كانوا كرماء وإحتفوا بنا وقت اللقاء  والإجتماعات، وأقاموا لنا المآدب لتناول الطعام في وجبات الغداء والعشاء ضمن مرافقة مسؤول كبير من الحزب وحراسة بعض شباب الحزب المنظمين تنظيما جيدا رائعا على أعلى المعايير من الضبط وسرعة البديهة في عمل الكثير لتوفير الراحة لنا في جميع الجولات بالعاصمة .
                لاحظت الرعب والخوف في عيون الكثيرين من أبناء الشعب العاديين الذين ينفذون الكثير من الأعمال بدون رغبة وكأنهم آلات ، وحدثت عدة مواقف مرت مرور الكرام لأنني ضيفا ا عندما سألني أحد المسؤولين عن الانطباع الشخصي لدي في زيارة بغداد وقلت له بعفوية وبصراحة كاملة وجهل سياسي وبدون تفكير في الأبعاد الخطيرة: "ما سبب  كثرة صور الرئيس صدام التي كانت معلقة في كل مكان؟"، حتى أنه  كانت هناك  في بعض المكاتب على كل حائط صورة، مما لاحظت تعابير وجه وقد تغيرت ولم يرد على الملاحظة.
              والموقف الثاني أثناءالجولات العديدة بالسيارة ولاحظت الكتابات في اليافطات العديدة لمقولة حزب البعث المشهورة (أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة) في صدارة الشوارع وعلى الأبنية بحروف كبيرة يشاهدهاالقاصي و الداني... وسألني المرافق عن المقولة وقلت له بدون تفكير وبصراحة الرسالة الخالدة هو القرآن الكريم لجميع العرب المسلمين وسكت السائل ولم يعلق على الرد السريع...  وفي الفندق عندما رجعنا للنوم لامني الإخوة على الردود الجافة حسب رأيهم ونحن كنا ضيوفا وبحاجة ماسة للمساندة والدعم، وكان الرد لست سياسيا متملقا ولا منافقا مخادعا مثل الكثيرين لقاء مصالح .
                  لقد قام إخوتنا العراقيون بوضع جدول كبير حافل وممتاز محاولين استقطابنا لتعاليم حزب البعث أو نكاية في نظام القذافي ، وزرنا متاحف كثيرة وشاهدت بأم العين الكنوز والنفائس التاريخيةالتي لا تقدر  بثمن ولا سعر ، وقد سمعت بعد الزيارة بسنوات أن معظمها سرق أثناء الحرب وسقوط بغداد... وقمنا بزيارة ضريح الإمام سيدنا علي بن أبي طالب ، كرم الله وجهه، زوج السيدة فاطمة الزهراء أبنة الرسول سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام ووالدة سيدنا الحسن والحسين في النجف الأشرف، حيث قرأنا الفاتحة ودعينا له بالرحمة والغفران، وزرنا الجامع الذي أغتيل وقتل فيه ولم تطاوعني نفسي على اداء صلاة الجمعة به حيث الموقف مهيب ورهيب له وضع خاص بالنفس، إغتيال الأمام علي، وطلبت التغيير وذهبنا إلى جامع آخر قريبا حيث أدينا الصلاة في راحة وطمأنينة نفس.
             وطلبت زيارة جسر المسيب الذي ردده المغني العراقي ناظم الغزالي في الأغنية المشهورة "على جسر المسيب سيبوني" وكانت هذه الأغنية عزيزة على قلبي وروحي من بلاغة كلماتها وحسن أدائها وصوته الرجولي العذب، ولم تكن من ضمن برنامج الزيارة ولكن تلبية لطلبنا، ذهبنا إلى هناك وكان جسرا حديديا أرضيته من الخشب الغليظ،  أعاد لي الذكريات بجسر وادي الكوف القديم الحديدي في الجبل الأخضر، وكان ذو ممر واحد لعبور السيارات وتعطل السير بسببنا مدة قصيرة وسرت إلى منتصفه على القدمين وتطلعت إلى تيار نهر الفرات المندفع في صمت.... وكانت دقائق رائعة عشتها في أحلام كم هي عظيمة العراق، وطن الحضارة والعلم وطن الخليفة هارون الرشيد والسندباد الرحالة وقصص ألف ليلة وليلة، وطن الوالي الحجاج والقتل للمواطنين على الاشتباه  وطن حزب البعث وصدام .
              وقمنا بزيارات عديدة إلى متاحف أخرى مثل متحف معركة القادسية والذى إلى الآن لم أشاهد مثله في زياراتي العديدة حول العالم لدولا كثيرة بها متاحف أعجز عن الوصف فقد كان النصف الأول مجسم والنصف الآخر حائط مائل بنصف دورة من البداية ثم يستقيم إلى أعلى بصورة كبيرة بإرتفاع الحائط المرتفع إلى أعلى وطوله دائرة كبيرة بعشرات الأمتار وقد سرنا الدائرة الكبيرة من البداية للنهاية والدليل يشرح لنا المعركة المشهورة ضد الفرس وكأننا جنود نخوضها فعلا، من شدة الابداع في التصميم ، والتي إنتهت بفوز ونصر المسلمين وتم فتح بلاد فارس وأصبحت إيران أحد الحصون المنيعة للإسلام حفظها الله تعالى من شياطين الإنس والاستعمار .
              كما زرنا المتحف الحربي وكم كان رهيبا جميلا في البناء والتنسيق وجمال الترتيب وشعرت بالفخر والعزة عندما شاهدت بعض الأعلام وعليها آثار دماء الجنود المجهولين الذين أستشهدوا في المعارك من أجل الوطن العراق دفاعا عن الكرامة حتى لا تنتهك ، وزيارة لبلدة (مندلي) المهجورة من غير السكان حيث كانت على خط النار، شوارعها بها حفر عميقة من سقوط القنابل القوية عليها، شاهدتها عندما توقف الركب ونزلنا وتطلعت بها وذعرت من ضخامتها وحجمها الكبير  فقد كانت عبارة عن هواة عميقة في الأرض الطينية تستوعب وتواري عدة سيارات نقل من غير ان تظهر للعيان... معظم البنايات مهدمة من قوة النيران، أطلالا تلعب بها الرياح وتسكنها الأشباح ، كان الله عز وجل في عون أهاليها ، فقد كانت المباني الباقية بها متشققة  وآيلة للسقوط وكانت البلدة مهجورة من السكان حيث كانت موقعا أماميا للجبهة والنزال وميدان حرب دموية شرسة دائرة مع إيران طيلة ثماني سنوات أيام  حكم الإمام الخميني...
              وبعد مسيرة طويلة في الصحراء التي لم نشاهد فيها أي أحد إلا من احد المباني المهدمة المهجورة وكانت بها حراسة أمامية غير ظاهرة للعيان من بعض الجنود الذين أدوا التحية للمسؤول العسكري الذي كان برفقتنا، وسمحوا لنا بالمسير في الفلاة وبعد عدة كيلومترات توقفت السيارات فى مكان مجهول منبسط مهما تطلعت لا يعرف الإنسان مكانه بالتحديد إلا العارف والخبير.
                طلب منا النزول إلى حفرة كان تمويهها جيدا ومن الصعب أكتشافها... ونزلنا الدرج الطويل وكم كانت المفاجأة لنا فقد كانت مركز القيادة للخطوط الأمامية تتسع للعشرات من البشر العسكريين وبها جميع الإستعدادات الحربية من الإتصالات وبها الضباط من جميع الرتب والجنود للحراسات وكان جميلا منهم أن بكل موقع مهم يوجد مسؤول كبير من حزب البعث لشحذ الهمم والتشجيع ورفع الروح المعنوية للآخرين بأنهم ليسوا وحدهم في المعارك وجبهات القتال مثل ما يفعل الآخرون من قيادات العرب قابعين في الغرف المكيفة ويصدرون الأوامر ولم يشاهدوا ويخوضوا طوال حياتهم العسكرية معركة واحدة على الواقع ، بل في قراءة التقارير والمشاهدة عبر الشاشات المرئية وفي الصور .
            تعرفنا بالقائد اللواء الذي كان شابا تجاوز في العمر الخمسينات ودخلنا إلى مكتبه الفخم وكان على الطاولة حوالي 4 هواتف وقال لنا أثناء الحديث والشرح والشأن أن الإتصالات متوفرة مع أي مكان في العالم وطلبت منه الإتصال مع العائلة في أمريكا للتأكد من الكلام هل هو صحيح أم عبارة عن حديث، وبكل بساطة قال إستعمل الهاتف وتناولت السماعة وطلبت رقم البيت في أمريكا التي تبعد عن القيادة والحفرة الآلاف من الكيلومترات وفي لحظات بسيطة ردت على زوجتي من مدينة فرجينيا بيتش ولاية فرجينيا حيث الاقامة تلك الأيام وكم كنت سعيدا ولم أكثر القول وإختصرت الحديث في المكالمة الهاتفية إلا من بضع كلمات وسألت عن الأولاد وكيف الحال وأنني سوف أرجع عن قريب... وعندما وضعت السماعة لا حظته يبتسم أنني مرتاح بالمكالمة والحديث مع العائلة .
             شرح لنا القائد على مجسم كبير على الأرض بعصا شرف طويلة في يده المواقع وسير المعارك وقال أن هذا الموقع في الخط الأول ويبعد عن القوات الإيرانية مسافة بسيطة حوالي 10 كيلومترات... أليست بمخاطرة؟ ولكن رجال العراق رجال حرب وقوة وجرأة وبأس ، بكل الفخر والإعتزاز أهنئهم على التمويه العسكري والخداع للموقع الذي لا يخطر على البال، وسبب خسارتهم للحرب بعدها بسنوات وسقوط بغداد في يد التحالف هو الخيانات من كبار المسؤولين العسكريين الجواسيس لإنهاء الحرب ونكاية في جبروت الرئيس صدام وحزب البعث .
               وقت الغداء تم التجمع وشاركنا الجميع على مأدبة طعام أكلة عراقية (المنسف) وهي عبارة عن صحون كبيرة مملؤة بالأرز وبها كميات كبيرة من لحم الخروف الشهي تحتها الذي كأنه تم طلبه وإعداده من أفخر المطاعم أو البيوت في بغداد التي تبعد مئات الكيلومترات.... وتساءلت مع النفس كيف تم طبخه وإعداد الكميات الكبيرة لتغذية الحاضرين الجميع الموجودون بالكهف والحفرة ونحن في عز الحرب والمواجهة الشرسة مع القوات الخمينية الذين شبابهم يحملون قلادات فيها مفاتيح الجنة طالبين الموت والشهادة .
               كثيرون من الضباط صغار الرتب الشباب من الوحدات الأمامية حضروا المأدبة، وودعنا القائد والمسؤولين وتمنينا لهم النصر والنجاح والفوز في نضالهم وحربهم، وداخليا بالنفس كنا نحترق لماذا هذه الحرب الدموية بين الإخوة الأشقاء العراقيين والإيرانيين وهم مسلمون يوحدون بالله عز وجل وبالرسول سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، وجيران في المصير إلى الأبد .
               وخارج الكهف تم التطلع إلى الأفق بالمنظار القوي وشاهدت أمامي عن بعد آليات ودبابات الجيش الإيراني كخط طويل أسود ذو ظلال به الآلاف من المعدات والجنود . والله الموفق .

              رجب المبروك زعطوط

 البقية تتبع....

No comments:

Post a Comment