Saturday, September 17, 2011

قصصنا المنسية 14

 بسم الله الرحمن الرحيم

 رجال ليبيا المنسيين

              يوم 23 اكتوبر عام 1911م قصفت البوارج الحربية الايطالية مدينة درنة بوابل من القذائف النارية بغرض الاحتلال ، وقام جنود الحامية العثمانية القليلي العدد ، وآزرهم الكثيرون من الوطنيين، بالدفاع عن المدينة بالتمركز في خط المواجهة على الشاطئ المقابل للميناء الذي كان سابقا يبدأ من نهاية شارع رافع الانصاري إلى المستشفى القديم ، لمنع إنزال الجنود الغزاة على الأرض بطابور طويل ببنادقهم العتيقة الطويلة التركية الصنع، التي عفى عليها الزمن من القدم ذات الطلقة الواحدة والتي بحاجة إلى شحن بالبارود والرصاص بعد كل إطلاقة (بنادق بوصوانة) عديمة الفعالية والشأن.
                 أجدادي من ناحية الأب، صالح حسن زعطوط، ومن ناحية الأم،  مصطفى بن عطية (بورقيعة)، كانوا  من ضمن من لبى نداء الواجب، وتطوعوا في الخندق ليدافعوا ضد الأعداء حسب القدرات المتاحة... وعندما زاد الضغط عليهم من القذائف النارية من المدفعية الحديثة وقتها وسقط الكثيرون بإصابات بليغة ووجدوا ان المقاومة عقيمة حيث رصاصهم لا يصل للهدف تم إتخاذ القرار من المسؤول بالإستسلام ورفع العلم الأبيض بدلا من القتل وسقوط الضحايا بدون فائدة وهدم مركز المدينة القديمة بالقنابل، حماية للعائلات من الإبادة!
             توقفت المدافع عن الضرب والرماية وبدأت عملية التفاوض بين الطرفين على شروط الإستسلام وأصر القائد الايطالي على حضور قاضي المدينة الشرعي، الشيخ رويفع قاطش، الذي كان بصيرا أعمى ، وتحت الإصرار تم الإذعان ووافق القاضي على الذهاب وملاقاة قائد العدو لحقن الدماء ، وتم إصطحابه إلى الميناء وعلى احد القوارب التي تنتظر تم توصيله حتى صعد على السفينة وصافح القائد الايطالي ويده مغطاة بالجرد حتى لا تمس يده يد الغازي النصراني حسب رؤيته وإعتقاده في ذاك الوقت وقال كلمة مشهورة خالدة حتى اليوم تذكره بالخير مر عليها أكثر من قرن من الزمن ، (مرحباً بالقضاء والقدر)، ولما تم ترجمتها إلى الايطالية تبسم القائد الايطالي وقال نعم انه القدر أن نأتي إلى هنا غزاة فاتحين !!
             تم الاتفاق والتوقيع على الاستسلام والمنع للجنود الغزاة من الاستباحة للمدينة وإزعاج العائلات وبدأت الأفواج من الجنود تهبط إلى الشاطئ في سلام بدون مقاومة والسير في حقول شارع البحر في طوابير شاكية السلاح إلى وسط المدينة حيث قصر الحاكم والإدارة والمعسكر العثماني المهجور الذي تم الاخلاء له بسرعة.
                غادر الجنود الاتراك والوطنيين الليبيين من رجال المقاومة إلى مكان قريب على الهضبة في مكان حصين وسط الجبال جنوبا يبعد  حوالي 15 كم عن درنة، وأقاموا معسكرا للمقاومة ومنع العدو الغازي من التقدم للداخل أطلق عليه إسم (دور بومنصور) تيمنا بإسم القاضي منصور ، قاضي الجيش الإسلامي عندما إستسلمت ليبيا لجيوش الاسلام ، المدفون في مقبرة مسجد الصحابة في مدينة درنة .
             من اوائل الشهداء الضحايا يوم إحتلال مدينة درنة خالي الشاب، أحميدة مصطفى بن عطية (بورقيعة)، بشظية قنبلة وهو واقفا بجانب (التلسيس) كلمة تركية تعني برج اللاسلكي والتي كان الرماية والضرب بالقنابل مركزا عليه من البوارج حتى يتوقف عن الارسال وهو لا يعلم ولا يعرف وليست له دراية عسكرية بشؤون الحرب، مما تسبب في استشهاده .
                  الحكايات الكثيرة التي سمعتها في العديد من المرات عن الغزو وإنزال وهبوط الآلاف من الجنود الإيطاليين على الشاطئ واحتلال المدينة والعائلات التي تضررت في أعزائها الشهداء ، وعن البساطة والطيبة والنوايا الصادقة لدى المواطنين بدون خبث كما في يومنا الحاضر، وإحداها عن القاضي الشيخ رويفع قاطش في أحدى زيارات الوالد له صافحه وقبل يده بأحترام وقال له يقرئك السلام الأمير أدريس السنوسي وكان وقتها مريضا بالحمى ممدا بالفراش مما ظهرت الفرحة والسرور على وجهه محاولا النهوض بصعوبة ممسكا بيد الوالد بقوة محاولا تقبيلها ، والوالد يحاول سحبها خجلا وتقديرا وإحتراما للشيخ الجليل رافضا تقبيلها...  وقال الشيخ مسرورا أن اليد التي صافحت الأمير جديرة بالتقبيل تدل الكلمات على الحب والولاء والوفاء للعائلة السنوسية (حسب رواية الوالد لنا) والتي ضيعها أحفادها بإنزوائهم والتراجع في الخلف والبعد عن المقاومة والنضال ضد الطاغية القذافي وإستسلامهم للواقع لقاء حب الدنيا وعدم المخاطرة والتضحية مما ضاعت الأمجاد السابقة التي ضحى من أجلها الأجداد الأوائل .
                   كان الوالد المبروك مغامرا شجاعا  ولم يتوقف عن السفر والترحال والعمل الوطني وله قصص كثيرة وحكايات سوف تذكر بالتتابع مع الوقت في المدونات القادمة حسب السياق ... احداها كانت أثناء أواخر الحرب العالمية الثانية  عندما كان متخذا من التجارة البيع والشراء غطاءا ، وتمت الوشاية عليه وعلى رفاقه التجار الدراونة من واش من بنغازي إسمه ( صالح ....) حيث تم القبض عليهم من السلطات المصرية الهجانة السودانيين في منطقة الضبعة القريبة من السلوم على الحدود الغربية لمصر وهم على متن القطار في الطريق إلى مدينة طبرق (القصة مشهورة بقطار الذهب) وتم النقل إلى الاسكندرية وايداعهم في سجن الحدرة على ذمة التحقيق ضمن أسوء المعاملات من السجانين المصريين الذين ساموهم القهر والمهانة والتجويع المتعمد بقصد الإذلال وتقديم القليل من الطعام من فتات الخبز وصحون حساء العدس الفاسد الملئ بالسوس الذي بالكاد السجين يسد به الرمق للبقاء على قيد الحياة ... والإبتزاز والرشوة لأي طلب آخر وبالأخص الدواء للعلاج ، مما تأثرت النفسيات والروح المعنوية هبطت وتأثر السجناء ومرض البعض بأمراض خطيرة إستمرت في أجسادهم المنهكة حتى بعد الخروج وإطلاق السراح سنوات عديدة عانوا منها حتى توفاهم الله عز وجل .
                بعد جهد وجهود وعن طريق الوساطة من الأمير ادريس على أنهم رعايا ليبيين ومدير مكتبه المناضل السيد عمر فائق شنيب والذي أحد أقربائه الحاج اللواج شنيب كان سجينا معهم ضمن الرفاق ، تم الإفراج عليهم بعد عام ونصف من السجن والإعتقال بدون محاكمة عادلة ولا حكم بحجج الحرب ، وضاع كل الرأسمال من الذهب والبضائع الثمينة التي بحوزتهم في جيوب الضباط والجنود السارقين.
              وعن طريق الوساطة مرة أخرى من مكتب الامير ادريس تم الركوب لهم على متن القطار الذي تحت الادارة البريطانية المتجه إلى مدينة طبرق ليبيا بصفة عمالة والعمل في التزويد له بالفحم الحجري طوال الطريق حيث كان هناك نقص لليد العاملة نتيجة الحرب حتى الوصول إلى طبرق وهو يتوقف في كثير من الاحيان خوفا من الغارات الجوية لطائرات الالمان (الشتوكا) من القصف....  من مدينة طبرق مشيا على الأقدام حتى درنة مسافة 175 كم حيث لا مواصلات عامة ولا أي وسائل للنقل نتيجة اواخر نهاية الحرب العالمية الثانية ، ووصل إلى البيت بصعوبة مريضا صحيا ونفسيا من الإرهاق والمعاناة والبعد عن الوطن وكنت في ذاك الوقت أبلغ من العمر سنتين .
                الحوادث والمحن عديدة التي مر بها الوالد وستر الله تعالى وتمت نجاته في اللحظات الاخيرة حيث في أحد المرات عندما رجع من رحلة مصر تم القبض عليه مع بعض الآخرين في مداهمة لأحد المستودعات للجيش الايطالي (سوتو إستانسا)  للحصول على بعض المواد التموينية لعائلاتهم حيث جوعى ، وتم صفهم واقفين في طابور وظهورهم على الحائط إستعدادا لرميهم بالرصاص مواجهة ، وفي اللحظات الاخيرة مرت فرقة جنود ألمان وتم الخصام مع الإيطاليين على التصرف ومحاولة القتل العمد وتم النهر لهم والطرد واطلقوا سراح الليبيين مما تواروا بسرعة خوفا من رجوع الجنود الإيطاليين والانتقام .

                   وكان الوالد سريع الملاحظة وحفظ وجه العريف الالماني وتشاء الصدف بعد نهاية الحرب مباشرة ان شاهده مع فرقته التي أنقذته يوما من الاعدام على الحائط ، سجين حرب في معسكر (كاستيللو دي مسالسا) في درنة مما تعرف عليه ممتنا بالجميل وتولدت صداقة بينهم وطلب الإذن من سلطات المعسكر بضمانتهم بدعوتهم في بعض عطلات نهاية الاسبوع والأعياد على مآدب غداء عدة مرات في بيتنا في هضبة بومنصور، وقد شاهدت بأم العين شخصيا في حدود نهاية الأربعينات من القرن العشرين وعمري كان وقتها حوالي السبع سنوات بالكاد اتذكر وتتضح الصور ، الجنود الألمان الأسرى قبل اطلاق سراحهم والرجوع إلى المانيا ، العديد من المرات وهم جالسين على الارض القرفصاء (متربع أو ركبة ونصف) ويأكلون بأيديهم الطعام الدرناوي من وجبات الكسكسي والأرز (المبوخ) ولحم الضأن اللذيذ حيث وقتها لا نعرف إستعمال الملاعق والشوك والسكاكين اثناء تناول وجبات الطعام .
                تاريخ العائلة زعطوط مشرف قام العديد من رجالها بالتضحية والفداء عن إيمان وقناعة ضد المستعمرين الأجانب والحكام الطغاة أمثال الطاغية وغيره ، كل واحد منهم بطريقته الخاصة حسب الجهد والفهم والمعرفة ، الجد من ناحية الأم ، مصطفى بن عطية بورقيعة، حارب مع رفاقه المجاهدين في الخندق متصديا لجنود الطليان عند الأنزال من السفن الحربية وإستشهد خالي الشاب ، محمد من قذيفة قتلته في الحال وكان من أوائل الضحايا في أول يوم الغزو لمدينة درنة .
             والدي كان من ضمن المجاهدين في معركة القرقف الشهيرة والتي سوف تذكر في مدونات قادمة بالتفصيل ، والكثير من المغامرات في تسليم السلاح والمواد والرسائل ضمن شبكة العمل السري ضد العدو الايطالي إلى نهاية الحرب العالمية الثانية .
            عمي الفقيه عبدالجليل كان حافظا للقرآن الكريم والخريج في الشريعة الإسلامية من زوايا ومعاهد الجغبوب والكفرة وكان عضوا في الطريقة السنوسية يكن لها ولاءا وحبا وإحتراما خاصا بضمير وقضى بعض الوقت في معية سيدي أحمد الشريف الزعيم الروحي وقائد الجهاد الليبي في المنطقة الشرقية وحارب في معارك كثيرة ضد العدو الايطالي بدون عدد .
           أخي شقيقي الأكبر الحاج صالح تطوع في حرب فلسطين عام 1948 م ، وأولاد أخي الثاني الحاج حسن،، صلاح وفتح الله استغلوا فترة الزحام في توديع الحجاج المغادرين عام 1986 م ، وتم التسلل على الباخرة هاربين من ظلم القذافي من ميناء درنة إلى السعودية.
           وإستشهاد البعض من شباب العائلة في جبال اوراس من ضمن المقاومة الجزائرية ضد الفرنسيين والتي تمت التعزية رسميا من قبل وزارة الخارجية الجزائرية عندما تم الاستقلال للجزائر في بدايات الستينات إلى إبن عمي وجد اولادي، الحاج محمد زعطوط، النائب في برلمان مجلس النواب في العهد الملكي، والتحديات من طرفي والمعارضة على مدى طويل حوالي اربعة عقود من الكفاح المرير والنضال... والله الموفق .

               رجب المبروك زعطوط

 البقية تتبع...

No comments:

Post a Comment