بسم الله الرحمن الرحيم
رجال ليبيا الأفذاذ
جنوب هذا الموقع يوجد معسكر دور بو منصور |
حارب الوالد، المبروك صالح زعطوط ، الذي كان شابا يافعا في عمر العشرينات سنا في معركة القرقف المشهورة يوم 1912/9/17م ، على الهضبة المطلة على مدينة درنة الجزء الشرقي مع شقيقه الكبير عمي الفقيه عبدالجليل ضمن جيش المحافظية الشعبي الذي يضم مجاهدين من جميع القبائل من الحرابي والعبيدات والمرابطين والدراونة مع قبيلة الحاسة تحت لواء واحد مما ظهرت اهزوجة أغنية شعبية تمدح التلاحم والبطولات تقول (حاسة وحضور عليهم نور) وجنود الحامية العثمانية الأتراك قليلي العدد كان لهم الدور الكبير في الانضباط والتنظيم للقوات المهاجمة .
الإنطلاق من دور بومنصور تحت القيادة الروحية للسيد أحمد الشريف ، والقيادة الفعلية للقائد أنور باشا التركي المشهور بالحزم والعزم والشجاعة لإحتلال مدينة درنة وطرد الغزاة منها ، وعرف القائد الايطالي للحامية من جواسيسه المحليين بالإستعدادات الكبيرة للهجوم قبلها منذ فترة مما طلب النجدة العاجلة من رؤسائه باللاسلكي حتى لا يخسروا المعركة وتتم إبادتهم وتضيع مدينة درنة من أيديهم.
تقدمت القوات الوطنية الى مشارف درنة من دور بومنصور وواجهتها قوات الطليان المتحصنة في الخنادق كرباط على الطريق الوحيدة الجبلية التى تهبط إلى المدينة بسهولة من الشرق وبدأت المعركة الشرسة الدموية في الفجر على الهضبة وكان لدى جيش المحافظية عدة مدافع ميدان صغيرة أحدهما بقيادة حسن الطبجي الذي عرفته في كبره وهو يعمل عاملا في بلدية درنة بأجر زهيد بالكاد قادرا على العيش ، عندما يوما أشار الوالد عليه وهو يعمل في ترميم الطريق وراء المدحلة الكبيرة (الرولة) امام بيتنا في شارع رافع الانصاري ، قائلا سبحان الله مغير الأحوال ، هذا الرجل ذو السبعين عام بطل من أبطال معركة القرقف المفروض تكريمه وإعطاؤه مميزات وتقاعد جيد وراحة في كبره!
وبالضحى كاد جيش المقاومة أن يخترق الحصار ويحقق النصر وفوجئ بقدوم النجدة العاجلة للعدو حيث وصلت عدة سفن إلى الميناءالقريب الذى يبعد حوالي 4 كم جنوب ميدان المعركة والتي شاهدوها قادمة بالنظر من بعيد تدخل للميناء مع الفجر تحمل آلاف الجنود الاريتريين الأحباش وضباطهم الايطاليين والعتاد والمدافع وبدأ الإنزال السريع في طابور طويل عريض بسرعة وعجلة صعودا في الجبل مع الطريق الترابي (عقبة حدوث) وهم يقودون الخيول والبغال في جر المدافع وعربات العتاد والسلاح بحيث أفواج جنود المقدمة في المعركة تحارب والمؤخرة مثل الثعبان الطويل مازالت بالميناء لم تنتهي السفن بعد من التفريغ والإنزال .
وتشبث جيش المقاومة المحافظية بالهجوم بعنف وشدة بدون جدوى ، حيث وصول النجدة الكبيرة فجأة للعدو الايطالي رفعت روحه المعنوية ولم يتراجع للوراء خطوة واحدة مهما قدم المحافظية من بطولات وتضحيات لدحر العدو الذي زادا قوة وعنادا لتحقيق النصر بأي ثمن كان على المقاومة.
المناضل حسن الطبجي.... ( الطبجي ) كلمة تركية تعنى المدفعي.... الذي أشرت له بالسابق قام ببطولات خارقة وهو يقذف ويرمي العدو بالنيران في أماكن وتجمعات حساسة مما أربكته وظل حائرا حيث كان خبيرا في إستعمال المدفع بالسابق في الجيش العثماني وتوقفت المدافع عن الرماية لمسافة طويلة في المساء من الحرارة الشديدة نتيجة كثرة الاستعمال والرمي ونقص الذخيرة ، وكانت نكسة للمهاجمين فقد قوة النار التي أرعبت العدو وجعلته غير قادرا على التقدم للأمام .
حدث الاضطراب لدى جيش المقاومة نظير النقص في الذخيرة وفقد الكثيرين من الشهداء والجرحى والمعاقين وبدأت العزائم تتراجع وتخور مما إضطر القائد أنور باشا إلى إعطاء أمر الانسحاب بالليل فى الظلام والتراجع بدلا من الإبادة للجميع تاركين وراءهم حوالي 840 شهيدا منهم العديد من الجنود العثمانيين في ساحة المعركة قتلى وجرحى ولم يتمكنوا من دفنهم ومن عشرات الجرحى تم نقل القليل لإسعافهم لضيق الوقت وعدم الرؤية الواضحة ، مستغلين الظلام والانسحاب السريع .
اليوم الثاني في الفجر عندما عم الضياء والنور ، قام جنود العدو بإعدام الجرحى الليبيين بدون أي واعز للضمير بدل الاهتمام والعلاج كما يجب للأسير بإطلاق الرصاص والقتل المتعمد بقصد من العدو الشامت الغاضب الحزين على فقد جنوده وخسائره الضخمة في الأرواح والمعدات... وقد بلغ تعداد القتلى والجرحى من الطرفين ما يناهز حوالي 3200 ومن ضمنهم حوالي 30 ضابطا إيطاليا من مختلف الرتب... والتي وزارة الحرب الايطالية في روما كتمت الأسرار مدة طويلة عن الخسائر الضخمة ولم تعترف الا بالقليل حتى لا تعطي أهمية للمقاومة الليبية وشراستها أمام الشعب الايطالي حتى لا يثورون عليهم نظير الكذب والتزوير في الحقائق والتضخيم في البطولات والفشل الذريع في القضاء على المقاومة .
لقد تحدث الوالد كثيرا في ساعات السمر والراحة عن المعركة المشهورة معركة القرقف التي حارب وشاهد المعجزات بأم العين والتي سجلت في تاريخ المقاومة الليبية بالمنطقة الشرقية من ضمن أهم المعارك التي حدثت بالمنطقة ، وأذكر يوما في نهاية الستينات حوالى الاصيل كنت راجعا بالوالد إلى مدينتنا درنة بعد زيارة إلى مدينة طبرق لبعض الشؤون ، ولما وصلنا إلى ميدان المعركة طلب مني أن أتوقف مما فعلت ونزل من السيارة ومشى خطوات عديدة بعض المسافة وجلس على جرف وادي بسيط يتطلع ويشاهد ولم يتحرك وكان مغطيا رأسه بطرف الجرد العباءة مطرقا ساندا رأسه على العكاز ساهما في تفكير الذكريات المؤلمة الحزينة ، وكانت فرصة لي للتدخين حيث لا أستطيع أمامه نظير الإحترام .
دخنت السيجارة الأولى ثم الثانية بشراهة متطلعا إلى الوالد الجالس الذي لم يتحرك مما خفت عليه ان يكون حدث له أمرا وأنا لا أعلم... حتى وصلت إلى جواره وسألته بلهفة مما رد على مبتسما بحزن وقال لقد كنت أعيش ذكريات المعركة الرهيبة والله العظيم يابني ، وأشار بعكازه إلى بعض الجداول الصخرية (السواقي) ، لقد شاهدتها مليئة بالدماء التي تنساب خلالها إلى الوادي من دم الشهداء والجرحى والأعداء ، مما تعجبت وذهلت!
تم تكليفي من أمانة الزراعة في السبعينات من رئيس المشروع السيد بشير جودة رحمه الله تعالى والذي تربطني به معرفة ودية عندما كنت مقاولا ولدي شركة بمنطقة الفتائح لبناء 270 وحدة سكنية زراعية مع الطرق ، ببناء مسلة عالية وساحة عرض في أرض المعركة حتى تصبح شاهد عيان لكل من يمر على الطريق السريع وذكرى خالدة تمجد الأبطال الذين ضحوا بالروح والدم من أجل الوطن والتي ستظل ذكراها خالدة في تاريخ الجهاد الليبي المشرف لجميع الأجيال القادمة إلى ماشاء الله عز وجل.
سمعت قصصا وحكايات كثيرة والتي كان يجود بها الوالد أو الوالدة والأخوال والمعارف للعائلة من كبار السن في بعض الأحيان أوقات السهر والسمر عن الأستعمار الأيطالي وحكمهم للوطن وعن المساوىء والحسنات عن المعارك والمناوشات التي حدثت والتي عاصروها ضد العدو وعن الجهاد في المنطقة الشرقية فى الجبل الأخضر والعمل السري وبالأخص وراء الخطوط في الحرب العالمية الثانية ، حيث في بدايات إستقلال ليبيا في الخمسينات والستينات لايوجد إذاعات وقنوات مرئية ولا إعلام جيد للمعرفة إلا من بعض اجهزة الراديو التي كانت ضنينة إلا لدى البعض الميسورين الأغنياء.
وقتها كنت يافعا في السن صغيرا لم أعط حديث الوالدين وحكاياتهم الأهتمام الكافى بالتدوين لكثير من الاحداث والأسماء الجنود المجهولين من رفاقهم سنوات النضال والكفاح ضد المستعمر الايطالي وحرية الوطن....الذين توفوا وأصبحوا في ذمة الله تعالى ، طواهم الموت والنسيان ولم يذكرهم أي أحد ، الوالدين شهود عيان للبعض لتاريخ حدث وليس سمعا أو تحريف من بعض الأدعياء الذين يحبون لأمر أو آخر الفخر والمباهاة وحشر أنفسهم أو البعض من أسرهم أو بني عمومتهم من شرائح وقبائل حتى يظهرون بمظهر الأبطال .
وحدثنا عن دوره الهام والكبير الذي لا يستطيع المخاطرة فيه الا القلائل من ذوي الشجاعة والعزم فقد كان ساعيا لعدة مرات بين الأمير أدريس السنوسي زعيم الطريقة السنوسية الروحية وقائد المقاومة في المنطقة الشرقية المهاجر في مصر في نقل الرسائل السرية بالآوامر والتوجيهات للعمل الجهادي بالجبل ألأخضر بقيادة شيخ الشهداء عمر المختار إلى درنة ضمن الحيطة والسرية مخاطرا بالحياة ، الذي لو تم القبض عليه الشنق في الحال ويسلمها إلى شبكة المقاومة السرية في درنة المناضل سليمان بن خيال والقاضي رافع قاطش قاضي مدينة درنة الشرعي الذي كان بصيرا أعمى والباشا على العبيدي الذي عن طريق أبناء عمومته العبيدات تصل إلى الدور وعمر المختار .
كان الوالد يضع الرسائل حسب قوله وحديثه لنا في البلغة (حذاء محلي صناعة يدوية) يطوى الرسالة عدة طيات بحيث يصغر حجمها وتوضع بين طيات الجلد ويخيط عليها بحيث من الصعب أكتشافها في ذلك الوقت ، وليس مثل الآن بالأجهزة الحديثة يظهر كل شىء للعيان ، وكان يمشي حافيا بعض الطريق يحمل البلغة محافظا عليها بيديه حتى لا تتمزق ويظهر الورق ، ووقت المرور الصعب على الحواجز يلبسها ويمشي بها حتى لا يلاحظ من أي أحد في العشرينات من القرن الماضى .
كان معظم أبناء الشعب فقراء والكثيرون من رجال البادية يمشون حفاة بدون أحذية أو ( قبالات ، أحذية صناعة محلية من الجلد والأرضية من مطاط اطارات السيارات الغليظ ، والسيدات يستعملن السباط والقبقاب والعجائز الرقعة ، طويلة الرقبة إلى الركبه ) وقد عشت وشاهدت بأم العين شخصيا على الطبيعة أيامها كم كانوا يقاسون في الخمسينات عندما كنت صغيرا بالسن شظف العيش والحياة الصعبة ، وكان الجميع من أبناء الشعب سعداء فرحين بالإستقلال وحرية الوطن ، راضين بالنصيب ليست لديهم ضغوط نفسية ولا طموحات دنيوية شخصية من التكالب النهب والنهش والوصول للمراكز والجاه مثل الآن... أهتمامهم على العمل بالعرق والرزق الحلال ضمن البراءة والطهارة بالنفوس.
رحم الله تعالى ذاك الوقت الجميل كم كنا سعداء ذوي صحة وعافية ، طعامنا من الأرض بدون أية مواد كيماويات وأسمدة صناعية ، اللحوم بدون أعلاف ومواد مركزة مما لها طعما لذيذا.... يعمل الأجداد والأباء البعض موظفين ضمن الدولة ، والآخرين في حرف عديدة يدوية والتجارة من بيع وشراء وتربية الحيوانات من أغنام وأبقار ودواجن ومعظمهم في فلاحة الأرض والزراعة بعرق الجبين من الفجر وطلوع الشمس إلى منتصف النهار الغداء والقيلولة بعض الوقت ، ثم إلى المساء والعشاء بعد صلاة المغرب مباشرة وبعض السمر والحكايات بعد العشاء على أضواء ونور الفنارات المزودة بالكيروسين والشمع أو ضياء القمر في ليالي الصيف المقمرة والنوم هادئي البال بدون إزعاج ولا ضجيج من أحد... رحم الله عز وجل ذاك الوقت الذي مضى ولن يرجع... والله الموفق .
رجب المبروك زعطوط
البقية تتبع....
No comments:
Post a Comment