Sunday, October 4, 2015

قصصنا المنسية 53

 بسم الله الرحمن الرحيم
 خواطر المرض

قضيت أسبوعا طريح الفراش مريضا بالحمى، حيث   أصابتني أنفلونزا حادة، مما جعلت الجسم يتهاوى فريسة الإعياء ويسقط من الضعف، غير قادر على الوقوف مثل العادة والرأس يكاد ينفجر من الصداع والألم ولا أستطيع السمع إلا بصعوبة، والرشح من الأنف كرذاذ المطر بدون توقف، والدمع ينهمر من العيون طوال الوقت، وشعرت بضعف شديد وإعياء كبير وعدم قدرة على الحركة أو التفكير الهادف الصحيح فقد أصابني الهذيان وعدم التركيز .

              الأعصاب مشدودة على الآخر من مشاكل عديدة حدثت نتيجة التسرع في إتخاذ بعض القرارات المصيرية وأكاد أجن من الإرهاق والقلق والضيق ينتابني بسرعة من الأصوات العالية وبالأخص في البيت العامر بالعائلة والآخرين من الأقارب الشباب المقيمين في ضيافتي لغرض الدراسة... حيث جميع المنافذ قد سدت في وجهي كسدود منيعة صعب تجاوزها بسهولة ولم أجد الراحة في الغربة كما كنت أعتقد، أعيش صابرا على مقادير القدر فقد عملت ما بوسعي حسب الجهد والقدرات، والباقي تركته على الله عز وجل فهو المسير للأمر طول الوقت .

              معظم الأيام الأخيرة قبل المرض قضيتها ساهما لوحدي مع النفس، أعيش في صمت لا أريد الكلام ولا كثرة  الحديث والنقاش، تجتاحني كآبة وأسف محاولا قدر الإمكان طردها والتخلص منها حتى لا تستمر طوال الوقت وتصبح مزمنة، وعندها المصائب تزداد ولا تتوقف، صعب الخلاص منها...  متسائلا مع النفس أخطط وأبحث عن أجوبة شافية، ماذا فعلت  لهؤلاء الأولاد والزوجة، حيث خاطرت وأحضرتهم لهذه الغربة البعيدة،  أمريكا، بدون سند ولا أهل ومعارف الا من القلائل، أفكر بقوة متسائلا مع النفس في حسرة وخوف  كبير عليهم طوال الوقت الذي يمر ببطء من غير أن أصل إلى إجابة مقنعة ليرتاح الضمير... لو حدث شىء لي وإنتقلت لرحمة الله عز وجل وفارقت الحياة، سوف يتعبون وهم مازالوا صغارا بالسن ، لم يتمرسوا بالحياة بعد!

            الله تعالى يجازي، الطاغية القذافي، الذي كان السبب في الهجرة القسرية ، رغما عني،  من وطني،    ولو تأخرت لكنت متهما وسجينا بالسجن مهانا تحت التعذيب والقهر أو أشلاءا في القبر !

              أعوذ بالله تعالى من الشيطان الرجيم على الوسوسة الخبيثة بالفكر نتيجة الهذيان ، ذاكرا عظمة الرب الخالق معللا للنفس أن كل إنسان حي رزقه على الله عز وجل وما أنا إلا عبارة عن وسيلة وجسر لعبور الطريق إلى الحياة المتشعبة من خير وشر، فالسماء لا تمطر ذهبا ولا فضة كما يقول المثل الشعبي، حيث المعنى الحقيقي لهذا المثل، مطلوب من الإنسان الجد والعمل بلا كلل حسب القدرات والجهد، ولا ينام ويتوقع حصول المعجزات بدون أن يقدم ويدفع الثمن. الرب الرازق سوف يعطي ويهب العبد المؤمن الصابر المكافح من أجل العيش بشرف محافظا على الدين بقناعة وإيمان راسخ من الروح والقلب ، ذو قيم المولى العاطي الوهاب يدهشنا  بالمن والعطاء، وقد مررت بالماضي بالنعم، وأصبحت من الأثرياء في فترة وجيزة من الزمن في مدينتي درنة بليبيا حسب ذاك الوقت والمعطيات منتصف الستينات وأنا مازلت في بدايات فترة الشباب !!!

              جميع الأمور في مسيرة الحياة العملية التي مررت بها عمل مستمر،  جهاد وكفاح ، مررت بأفراح وأتراح كثيرة حتى الآن فأنا مسيرا ولست مخيرا ...  أراجع النفس عن ماذا فعلت ؟؟ هل بقرار الهجرة والهرب من ليبيا قد أصبت أم تسرعت ، إنني لا أعرف ؟؟ لكن النفس مرتاحة بها طمأنينة تامة وشعور غامر روحاني إنني لم أخطىء القرار والقدوم لأمريكا، ولكن لدي بعض الأخطاء التي جعلتني أندم على فعلها، وهذا هو السبب في الضيق والقلق، أما عن الوعكة الصحية والمرض بالحمى فهو شىء طبيعي يمر ويحدث طوال الوقت على أي إنسان بأي مكان كان، يحتاج للراحة والعلاج حتى يتم الشفاء بإذن الله عز وجل .

              ساعة العسر والضيق بالغربة تطلعت ولم أجد الرفاق الذين بالسابق كانوا عشرات ملتفين حولي مثل السوار على المعصم بدون فكاك ولا خلاص منهم مهما فعلت وحاولت نتيجة الرياء والنفاق من البعض. تطلعت ولم أجد أي أحدا منهم بجواري في الغربة يؤنسني ويخفف آلام المرض والهم والغم عني، وقلت للنفس سبحانك رب العالمين لو إحتجت لهم ماديا أو نصرة ضد عدو ، فما العمل ؟؟ حيث لست طالبا عونا ولا مالا منهم، لكن طالب تسرية نفس وحديث من القلب للقلب ورفقة أخوة نابعة من الضمير بشفافية وبصدق، حتى أشعر بالطمأنينة وأنني لست أصارع المرض والوحدة بالغربة لوحدي فلدي إخوان وأصدقاء وقت الحاجة.

             وكانت هذه "الغسرة"، الضيق والمرض درسا مهما تعلمته من الدروس للتوعية مهما دفعت فيها من أموال ، ليس لها ثمن حتى أتعلم أن لا أخطىء بالمستقبل وأندفع في مغامرات غير محسوبة بدقة، وبالأخص مع البعض المنافقين الذين صداقتهم ورفقتهم عبارة عن مصالح ونفاق، الضرر فيها أكثر من النفع .

              هذه الأيام الصعبة بالغربة لن أنساها طالما حييت، طالبا من الله عز وجل أن أتخطاها بسلام وأن تكون آخر التعب والأحزان، فأنا أسطر هذه السطور العديدة بسرعة من غير تدقيق ولا فحص بل أكتب وأكتب ممسكا بالقلم بيدي بقوة وأسطر بسرعة واضعا القلق والهم والغم على الورق حيث لا يتكلم وينطق ولا يشتكي ... أعبر عن ما يجيش بالنفس من خواطر وإنفعالات جياشة عن تدني الكثيرين من البشر الذين يحسبهم الإنسان إخوة ورجال، وأثبتت الأيام أنهم أشباه رجال منافقين متسلقين ذوى خداع يرتدون أقنعة جميلة حسب المصلحة والأمر. إعتقدت أنهم أوفياءً،  وهم صعاليك ونفايات المجتمع!

              أليس بشىء مؤسف من هؤلاء الأدعياء المنافقين الذين يلعبون على الحبال؟  فقد تعودت على القيم والكرامة وعدم مد اليد وإراقة ماء الوجه لأي إنسان مهما كان، فالعفة والشرف هو الأساس والمقياس الذي يقاس به الإنسان الشريف، هكذا تربيت في بيت العائلة والوالد رحمه الله تعالى،الحاج المبروك ، هو الأستاذ الأول والمثل الأعلى لي في تعليم الدروس القيمة التي الإنسان لو أخذ بها وطبقها التطبيق الصحيح لن يتعب، و يستطيع مواجهة الزمن  وقت الأزمات أو الخطر...   ولكن للأسف خدعت نظير طيبة النفس والعواطف وحب الخير والصدق في القول والإخلاص في العمل والعهد والوعد، فجميع هذه الصفات توجد عند بعض الشرفاء الصادقين مع الله تعالى وأنفسهم...  أما الكثيرون فقد ذابوا وتلاشوا مع الأيام ومرور الزمن بسرعة من غير أن ندري أو نشعر بهم... يعتبرون هذه الأوصاف الجيدة والقيم والأخلاق الحميدة بالية قديمة لا تصلح لهذا الزمن... همهم النجاح والفوز والوصول للقمم بأي ثمن كان وللأسف على حساب الكرامة !!!

              الغربة لها ثمنها القاسي وبالأخص للإنسان السياسي المناضل الذي  يبقى فكره مشغولا بقضية الوطن طوال الوقت،  بالجهاد والخلاص من الطاغية للرجوع في أقرب وقت منصورا ، مما تتعطل الطاقات ولا يعمل ويكافح بالعرق في وطن الغربة ليعيش، ولا يستطيع الرجوع لوطنه الأصلي في حالة الضيق والإحتياج حيث هاربا ومطاردا وبالتالي يضيع بين البينين ويضطر على العيش في الهم والغم ، وهذا الأمر قمة المأساة ، والحزن للغريب .

             شهدت بساحة الغربة خلال العقود السابقة والسنوات الماضية على أحداث رهيبة ومآسي محزنة نتيجة شائعات أطلقت على مهاجرين مناضلين شرفاء ونظرات الشك وأصابع الإتهام وجهت لهم من الجميع نظير الخبث والدس من أدعياء النضال الذين يدسون في االسر والعلن ، يعملون من الحبة قبة ، حتى تصفى الساحة لهم من الوطنيين الشرفاء، حيث يستغلون ويستعملون القضية الوطنية النبيلة كورقة للإبتزاز وقبض الهبات والدعم من الدول لقاء العمالة وتمرير المعلومات !!! والجماعات والأفراد المحسنين المتعاطفين مع القضية ، يعيشون أحسن العيش على حساب الآخرين في أمجاد زائفة، ناسين متناسين أنهم يأكلون ويطعمون عائلاتهم مالا حراما زاقوما، في يوم ما  سوف يرجع عليهم مهما طال الزمن والوقت بالدنيا أم بالآخرة بالضرر !!!!! .

              قصتنا نحن الليبيين الغرباء المناضلين المطاردين بأوطان الغربة، قصة طويلة تحتاج إلى شرح كثير، والجميع من الشرفاء الوطنيين الصادقين بالغربة الذين مارسوا السياسة من عظيم الشأن إلى قليله وصغيره ، قدموا الثمن الغالي ومروا بدرب المعاناة والضيق، الهم والغم بطريقة أو أخرى ،  طالبا من الله عزوجل الشفاء العاجل في أقرب وقت ، وأن نصل إلى تفاهم بشرف،  لا غالب ولا مغلوب  لأي أحد للمصلحة العامة ويتحد الجميع مع بعض يدا واحدة ضد العدو الطاغية الرابض على أكتاف الوطن عسى أن نلحق به الضرر البليغ ونرتاح منه بالأسر ومحاكمته في العلن أمام الجميع على كل الشرور في عهده المشئوم الأسود،  بالعدل والقانون، أو القتل وإزالته من الحياة وخريطة الوطن المستباح من الأشرار بأمر الله تعالى حتى نهدأ وترتاح نفوسنا من الهم والغم والمطاردات حتى نعيش مرتاحين ونرجع منصورين إلى وطننا، ليبيا الغالية،   عن قريب...  والله الموفق .

            رجب المبروك زعطوط

 1988/5/2م

3 comments: