Sunday, October 4, 2015

قصصنا المنسية 54

 بسم الله الرحمن الرحيم

 خواطر عن أمريكا


 مرت الأيام الأولى من شهر مارس عام 1988 م وأنا في أجازة جبرية بالبيت في فرجينيا بيتش بأمريكا ، حيث قررت الخلود فيها إلى الراحة البدنية وعدم السفر والترحال لفترة من الوقت وتنقيص المصاريف وتفادي زيادة الإلتزامات وتجنب الغرق في الديون التي تتكاثر نظير الحفاظ على العيش بكرامة...  معطيا للنفس حقها في أجازة طويلة حتى أرتاح من التعب والإرهاق في سبيل القضية الوطنية النبيلة... حيث كنت تاركا بالسابق الهم  على كاهل الزوجة الوفية،  والأولاد بدون رعاية وحنان كما يجب وحقهم علي أن أكون بقربهم وقت طفولتهم وصغرهم والبعض منهم في سن المراهقة الصعبة التي تحتاج إلى رعاية كبيرة !!!

               تركت أمهم تحل مكاني وأنا حي أرزق، وتصبح الأم والأب معا في رعايتهم وتربيتهم والأخذ بيدهم طوال الوقت مما تعلقوا بها وأصبحت مع الوقت غريبا ضيفا بالبيت بدون التواصل معي وطلب أي شئ مني في أمور كثيرة تخصهم ، وكان هذا الأمر خطئا كبيرا وسوء تصرف مؤسف قمت به حيث وجودي بالقرب منهم وبينهم مهم جداً!

        أثناء وجودي بالبيت كل يوم يفاجئني قدوم الرسائل العديدة بالبريد والتي معظمها فواتيرا للسداد، مما أضعها في السلة على المكتب بدون فتح حتى لا أفاجأ بالأرقام المطلوبة سدادها مع أنها بسيطة والتي لو جمعتها كلها لأصبحت رقما كبيرا... أنا عاجز في الوقت الحاضر على السداد، حيث السيولة ناقصة في هذه الأيام الصعبة، وأنتظر  مبلغا مالياً تم تحويله من الخارج مقابل دين سابق على احد الرفاق، ولم يصل ويصبح في الحساب المصرفي بعد!  وأنا أنتظر،  أعد الايام قائلا للنفس لماذا الحوالة تأخرت من الخارج ولو كان التحويل في أمريكا يصل خلال ساعات حتى أقوم بالسداد دفعة واحدة لجميع الالتزامات والفواتير المكدسة  وأرتاح من الهم والغم الذي كل يوم يزداد ضغطه ومعاناته وأنا أسيرا مكبلا بالقيود والهم والغم بالليل والمذلة بالنهار بالغربة .

                 حيث كل خطوة خطوتها في المدة الأخيرة في العمل لم تحقق النجاح كما توقعت،  وخططي باءت بالفشل. فالوضع العام الإقتصادي في أمريكا يمر بمرحلة صعبة وشلل وخسائر لمعظم الشركات وكساد قادم يطرق على الأبواب بقوة في مدينة فرجينيا بيتش بولاية فرجينيا وجميع الولايات الأخرى، ولا أحد يعرف إلى أين سوف تؤدي هذه الكوارث والأزمات المالية بالكثيرين من رجال الاعمال والتجار الذين يعتمدون على حركة السوق في النماء والرواج والدورة المالية تدور ويستحيل  التوقف وإلا حل الخراب والدمار للكثيرين ضعاف الرأسمال،  متسائلا مع النفس في حزن، إلى أين المسيرة سوف تصل؟  سبحان الله الكريم حيث لا أعلم الغيب ولا الذي سوف يحدث بالمستقبل القريب أو البعيد؟؟ ولكن تاركا الأمر له!! هو المفرج للأحوال والهموم عندما يرضى في لحظات وليست ساعات ولا أيام وشهور .

                الساعة الثامنة مساءا وصلت الزوجة للبيت بعد أن أغلقت باب المتجر (البوتيك) الذي نملكه لبيع الملابس والأحذية والحقائب اليدوية الجلدية للسيدات والكثير من الأشياء النسائية من أفخر الأنواع وآخر الصيحات بأوروبا، وسألتها  السؤال العادي الذي   أردده كل يوم : هل من مبيعات اليوم وسيولة لدفع المصاريف الحياتية؟ وترد علي بسخرية وأسف وتقول لا تسأل، السوق في كساد وموت بطئ ولا بيع لأي شئ طوال الوقت، حضرت البعض من السيدات وكلهن يتطلعن للمعروضات معجبات ولكن عاجزات عن الشراء.

             وقلت لها لعل الأسعار عالية؟ وقالت الأسعار مناسبة جدا ولكن السوق كل يوم يتضاءل وفي كساد...  وفي مجمع السوق الكبير حيث محلنا كل يوم يقفل أحد المحلات نهائيا من غير فتح الأبواب، وصاحب المطعم الكبير (الملعقة الفضية) بجوارنا أقفل الأبواب نهائيا وتغيب عن العمل غير قادر على دفع المصاريف الضخمة المستحقة للأيدي العاملة والإيجارات والمصاريف العامة التي بدون حساب، حيث لا زبائن مثل السابق يترددون وزحام كبير على الحجز، وسمعت همسا من أصحاب المحل المجاور لنا، أنهم آخر الشهر سوف يقفلون المحل، وينتقلون إلى مدينة أخرى عسى أن تتاح لهم الفرص للنجاح ،  مما السوق سوف تقفل فيه محلات كثيرة وبالتالي يخف الرجل والحركة للزبائن على المجمع... ففي المدينة عشرات الأسواق والمجمعات التجارية في كل ضاحية و ليست سوقا واحدة .

                هذه المشاكل العديدة سببها الإنهيار الكبير لسوق الأوراق المالية في نيويورك (البورصة) العام الماضي يوم الإثنين الذي سمي باليوم الأسود من أكتوبر 1987م .... فقد تمت خسارة المليارات وإفلاس معظم المضاربين خلال ساعات قليلة ، وأنا كنت أحد الضحايا ضمنهم، فقد خسرت الكثير من المال ، الرأسمال والأرباح ، مما ضاعت السيولة التي كانت لدي دفعة واحدة في ساعات ومرضت يومها فجأة من القلب لأول مرة ، نتيجة الصدمة القوية الغير متوقعة ... وبالأخص في الغربة وعلى عاتقي مسؤوليات كبيرة عائلية محتاجة لكثير من المصاريف ، ومازلت تحت العلاج ، وأعاني من  المصائب والصعوبات و سوء الحظ نظير الآثار للخسارة العميمة التي حلت على رؤوس الجميع وأنا كنت للأسف من بينهم !!! !


               معظم رجال الأعمال والتجار والأفراد العاديين الأمريكان، لهم طرق غريبة في التخلص من الديون لا تتماشى معنا نحن كعرب، عندما يعجزون عن الدفع، يعلنون الإفلاس الرسمي عن طريق المحكمة ، وبالتالي يتحايلون على الدفع وإنقاذ مايمكن إنقاذه من الأصول المادية بحكم القانون، ويدفعون نسبا بسيطة لقاء المبالغ الكبيرة التي تم العجز عن سدادها .

               يتخلصون من الماضي و مشاكله وهمومه وغمه بتوقيع ورقة ، ويبدؤون من جديد بأسماء أخرى جديدة وكأنه لم يحدث أي شىء...   أما نحن الغرباء المهاجرين العرب المسلمين المقيمين نظل على نفس مبادىء العالم القديم بدون تجديد ولا فهم للطرق الغريبة في نظرنا، ويستمر الغريب يناضل ويكافح ضد التيار الجارف على أمل الفوز والنجاح عسى أن يعوض الأمر حتى آخر رمق خوفا من الفضيحة، وبالتالي يضيع كل رأس المال ولا يستطيع النهوض من جديد إلا بعد عدة سنوات ، نظير التعنت وعدم مجاراة الآخرين والإستفادة من القوانين .

           كل يوم قضيته في أمريكا أحاول تعليم وتثقيف النفس قدر الإستطاعة والمعرفة والفهم حيث لم تتاح لي الفرص بتكملة الدراسة في الجامعات كطالب منتظم أو منتسب حيث ليس لدي وقت الفراغ المناسب لأتابع الدروس لأنه كنت طوال الوقت مشغولا بالقضية الوطنية ، وفي ترحال وسفر عبر القارات في حضور الإجتماعات واللقاءات الوطنية ، حتى أتحصل على شهادات جامعية تفيدني يوما من الأيام، وكانت خطئا كبيرا من أخطاء العمر لا تعوض ولا تغتفر ! 

              كنت أمضي  ساعات وقت الفراغ في الإطلاع على البرامج العلمية في بعض القنوات المرئية ، وأتابع الندوات السياسية وخصوصا قناة مجلسي الكونجرس محللا كيف يتم الحديث والردود وقوة الحجة والإقناع، مما بعد مرور الوقت في المتابعة والإطلاع والمثابرة والقراءات المستمرة للكتب الدسمة بالمعلومات ، تعلمت الكثير، توسعت المدارك وأصبحت ملما بكثير من الأمور السياسية، والتحليل لأي موضوع عابر يخص وطننا ليبيا بسهولة في نطاق المعرفة والفهم بطرق علمية يعجز عنها الكثيرون من أدعياء النضال والسياسة الليبية في المعارضة،  مع أن الكثير منهم  لديه شهادات جامعية عالية في تخصصات معينة ولكن إذا كان المسار يختلف في الطرح وليس في الإختصاص،   عندها يغرقون في شبر من الماء كما يقولون ، حيث ليست لديهم معلومات عامة كبيرة كثيرة دسمة تشفي الغليل ولا الشجاعة الأدبية في الإعتراف بالعجز في الموضوع نظير الكبر والجبروت، أليس الأمر بمؤسف ؟؟

               الميزة الكبيرة في أمريكا مساحتها الشاسعة وكثرة الولايات التي عددها 50 ولاية، وكأنها 50 دولة مجتمعة مع بعض ضمن الحريات والقانون الفريد المميز الذي يضمن حقوق الجميع ويحفظ السلام والأمن والأمان للمواطن والغريب....   ولايات فقيرة بها العجز والإفلاس وولايات تجاهد قادرة على السير ببطء، وولايات غنية تأثرت الأعمال فيها قليلا ولكن قادرة على الصمود والسير ضد التيار، محافظة على الاستقرار الإقتصادي بسهولة متناهية لمواطنيها نظير قوة الدخل والموارد الموجودة فيها... حيث يحتاج الغريب المهاجر إلى معرفة القوانين بدقة وطريقة التفكير والعقلية الأمريكية في البيع والشراء حتى يستطيع أن يتعامل مع السوق ويحقق الأرباح ويستفيد من القوانين في حالة العسر والغسرة ، الضيق أو الإفلاس .

              أمريكا وطن اللبن والعسل، وطن الفرص والنجاح والإثراء، لا أحقاد وحسد للغرباء عند النجاح والإثراء الكبير كما في أوطاننا العربية ... حيث يحتاج المهاجر إلى عمل دؤوب جاد ودخل يغطي المصاريف ضمن القانون حتى يقاوم الجرف وينجح مع الوقت إذا ساعده الحظ وفتحها الله عز وجل في الوجه ويصبح من الأثرياء بسرعة نتيجة التطور والتجديد  اليومي والمتواصل.

              ونصيحتي الثمينة  والتي دفعت الثمن الغالي فيها نظير الأخطاء العديدة، أن لا يوقع المهاجر على أي عقد ومستند مهما كان بسيطا حتى يستشير المحامي في الأمر، حيث أن خطئا بسيطا ممكن أن يجر الإنسان الغافل إلى المحاكم التي لا ترحم المغفلين... حيث كل إنسان مواطنا أم مقيما غريبا عبارة عن رقم في الحواسيب ضمن الضمان الإجتماعي ، وليس كأوطاننا العربية يعتمد على المركز وإسم العائلة والتجاوزات والمقابلة الشخصية والعواطف البشرية، والتحايل على القانون بحجة المعارف والواسطات والتأجيل الطويل ودفع الرشاوى الباهظة، وبالتالي نحن الشعوب العربية تدهورنا للقاع بدون نهوض وتقدم...  نتيجة التخلف والتأخر والمحسوبية .

             كتابتي لهذه الورقات وبالأخص عن أمريكا ، تعبيرا  لها عن حبي وإحترامي العميق فقد آوتني وقت الضيق، وحفظتني من العدو الطاغية القذافي و زبانيته وشطحاته وأنا مناضلا غريق، عندما تم الطلب الرسمي عن طريق البوليس الدولي (الأنتربول) للتسليم، رفضت الأمر ، ونحن معظم العرب الأصيلين ذوي الجذور أبناء العائلات الكريمة نحافظ على الجميل، وفضل أمريكا دينا على العنق والنفس طوال العمر لن ينتسى كما يفعل الكثيرون المنافقين ذوي المصالح، ولن أنساه طالما بي نفس ورمق حياة، وسأعمل جاهدا على تقريب وجهات النظر في حالة الرجوع يوما منتصرا للوطن، حيث الفرق كبير بين التغطية الإعلامية في القنوات المرئية والإعلام المأجور، وبين الواقع المرير الذي تعلم الإنسان المهاجر المقيم فيها والذي قاربت المدة لدي حتى الآن حوالي ربع العمر مقيما شرعيا مواطنا فيها تعلمت الطرق السليمة وكيف أفكر بالمنطق بالعقليتين العربية والأمريكية معا بعقل متفتح بدون تعصب وتزمت والإنحياز لطرف دون الآخر نظير الإعلام العربي السابق الجاهل في أوطاننا قبل الغربة وبعدها في الطرح مما سبب الكراهيات وتضييع الوقت من غير أن ندري .

              الله تعالى يسامحها على كل لحظة أقمت فيها وعشت و تنسمت فيها هواء الحرية وشعرت بالأمن والأمان، ومهما شكرت لن أوفيها حقها من الإحترام والتقدير، فهي الوطن الحالي لنا، الذي كل انسان بالعالم يتمنى ان يهاجر ويقيم ويعيش فيه نظير الحريات بدون حدود وفرص النجاح لأي غريب حيث لا فرق بين مقيم ومواطن مهما كان طالما ضمن القانون...  والله الموفق... 

     رجب المبروك زعطوط

 1988/3/5م

No comments:

Post a Comment