بسم الله الرحمن الرحيم
مدينة درنة الصحابة 4
تم دس الإشاعات المغرضة والفتن بأن المدينة لا تحب المملكة ولا شخص الملك من أعوان وأياد الشر مما تقلصت الأعمال من الحكومات المتعاقبة ولم ينجز بها أي مشروع مهما كان، غير بعض الأعمال من صيانات بسيطة لا تغني ولا تسمن من الجوع خوفا من إغضاب القصر، والملك الزاهد في برجه العاجي سواءا يعرف أم لايعرف غير قادر على أي شىء للإصلاح، ولم يستطع الشعب المطالبة حيث الدولة فقيرة والخزانة ليست لديها الأموال لرصدها للمشاريع حتى تنهض وتتقدم .
عشت تلك الأيام الصعبة حيث كان الوالد يذهب للسوق مثل العادة كل صباح ويرجع للغداء وبعد غفوة القيلولة البسيطة والوضوء وتأدية صلاة العصر بالجامع الكبير يذهب للمحل مرة أخرى ويبقى به إلى صلاة المغرب ويقفل المحل ويرجع للبيت وكنت بعد المدرسة كل يوم بعد العصر أذهب معه لأراجع بعض الدروس، والسوق خواء ليس به زبائن للشراء، حيث لا نقد ولا مال موجود ولا سيولة بالسوق ، ولا حركة تجارية مثل السابق... مما بدأ الوالد يمرض وتنتابه حالة كآبة وسرعة الغضب وعرفت السبب الرئيسي عندما كبرت أن المصاريف الحياتية زادت عن الحد ولا دخل يغطي حتى يحافظ على رأسماله، ويخاف في كبره أن تتلاشى ثروته السائلة ويضطر إلى بيع بعض من أملاكه بأسعار متدنية وبأبخس الأثمان ... وهي التي كان يحتفظ بها للزمن ولنا نحن الورثة (حسب قوله لنا في بعض الأمسيات وقت السمر)، كان مستعدا للموت جوعا ولا يفرط فيها تحت أي ظرف ... هكذا كانت العقليات بالمدينة في ذلك الوقت ، يعتبرون البيع للأملاك الخاصة مهما كانت الأسباب ء عارا ما بعده عار !
الإدارة البريطانية بخبثها وصبرها وتخطيطها الطويل الأجل وخبراتها السنين الطويلة في حكم الشعوب تعلمت وعرفت وخنقت المدينة ببطء مع مرور الوقت وضيعتها للأبد مما إضطر الكثيرين للمغادرة والهجرة والبقاء في المدن الثانية حيث زاد رواجها، مثل طبرق والبيضاء وكان التركيز على بنغازي والعاصمة طرابلس... والبعض هاجر للخارج سواءا للدراسة وتحصيل العلم أو للعمل ، وزادت الأمور صعوبة وضيق عندما فتحت الجامعة أبوابها ببنغازي وإضطر معظم الآباء للتضحية لقاء تعليم أولادهم بالجامعة لبيع أملاكهم في مدينة درنة والعيش في بنغازي لقاء القرب وبالأخص البنات حتى يدرسن ويتحصلن على الشهادات العالية .
والقلائل من ذوي العقول الذين يحبون العيش في درنة لا يحبذون المغادرة والهجرة ذوي النفسيات والثقة في تربية بناتهم سمحوا لهن بالإقامة في بيت الطالبات بحيث مع الوقت كل عائلة جذورها أصيلة بالمدينة لها جزء وفروع أسرية بخارجها ، أكثر من عددها بدرنة ، حتى أصبح الدراونة الذين يعيشون خارج المدينة، مع مرور الوقت يشكلون الأغلبية، فقد كانت هجرات جماعية مما مدينة درنة قدمت ودفعت الثمن الغالي لقاء الطموحات السياسية التي لا تسمن ولا تغني من جوع .
وزاد الطين بلة عدم وجود مطار للسفر مما يضطر المسافر الدرناوي للذهاب إلى بنغازي 300 كم والرجوع نفس المسافة حيث ضاع الكثير من الوقت والجهد في السفر وشراء التذاكر والبقاء فترة من الوقت حتى يسافر للخارج، والمصاريف والبعض منهم غير قادرين على الدفع ، يعيشون على الإقتراض والسلف. وإستراح الدراونة قليلا عندما بدأ العمل في مطار الأبرق وكان نهضة كبيرة للسفر إلى طرابلس والخارج أو القدوم .
الميناء صغير وضحل إلى منتصف الستينات ، يعاني منذ أيام الحرب العالمية الثانية من وجود سفينة حربية غارقة تحت سطح البحر محملة بالقنابل والذخائر بمدخلها والجميع من الربابنة للسفن الصغيرة يخافون من الجرف والإصطدام بها خوفا من الإنفجار أو العطب والغرق ، سواء في الدخول أو في الخروج وبالأخص أيام الشتاء والعواصف ذات الأمواج العالية حيث الميناء ليست به الحمايات الكافية وقتها من تيارات البحر العديدة ... والمشكلة أن الميناء يزداد ضحالة كل سنة نظير عدم التنظيف والجرف والصيانة مما السفن ذات الغاطس الكبير لا تستطيع الدخول ، وربابنة السفن الصغيرة الذين يخاطرون في الدخول بصعوبة في فصول الشتاء والأمواج العالية عبارة عن سفن صغيرة أحمالها بسيطة ، بمقاييس اليوم تعتبر قوارب وزوارق وليست سفن .
أثناء حرب فلسطين عام 1948م والنكسة الشنيعة للعرب جعلت الجميع من الشعب يصابون بالإحباط وزاد الغل والحقد على اليهود الليبيين المسالمين نظير التخطيط من أيادي الشر والقوى الخفية حتى تم الصدام والعنف من الغوغاء وتم طردهم من بيوتهم وأعمالهم وإضطروا للهجرة إلى فلسطين ولديهم أحقادا على العرب الليبيين نظير المعاملات الشائنة والسيئة، التي لا يرضاها الرب ولا جميع الأعراف والقوانين.
هاجر اليهود الدراونة إلى مدينة بنغازي حيث أصبحت محطة تجميع لجميع يهود المنطقة الشرقية وزاد رواجها في الأعمال التجارية ثم نكسة حرب 1967م مما خاف العهد الملكي على اليهود المقيمين القلائل في بنغازي وطرابلس من غضب الشعب وتم الإتفاق مع زعمائهم على الهجرة خارج ليبيا بسلام وأمن وأمان خوفا على حياتهم، وتم التسهيل للسفر إلى إيطاليا بدون أي تعطيل ، وليس كما أشيع وقتها أنه تم الطرد من الوطن كدعاية وراحة لنفسيات المواطنين والأهالي الثائرين وطلب الهدوء حتى لا يتمادوا في الإضرابات وأعمال الشغب والعنف الغوغائي الذي يضر بمصلحة الوطن ، ويهزوا أركان العرش وتتعطل مصالح المستفيدين من القطط السمان عن القبض للعمولات الرهيبة من جراء بيع النفط بأبخس الأسعار وقتها .
قام الإنقلاب الأسود بقيادة القذافي وظهر في البدايات للشعب أنه حمل وديع، ومع الوقت تحكم في جميع المقدرات وأصبح وحشا طاغية عانى منه الشعب الويلات لمدى 42 عاما، لم يسعد يوما ويرتاح رازحا تحت الشر والشرور والتمثيل والتدجيل والإرهاب والقتل... وكان لمدينة درنة نصيبها وقدرها المحتوم، فأول شهيد توفي منها ومات الضابط المرحوم عبدالحميد الماجري (الذي أعرفه معرفة شخصية فقد كان صديقا وإبن عم) من التعذيب والحرق للأماكن الحساسة في الجسم أوائل الشهور الأولى للإنقلاب الأسود نظير تصفيات وتطهير للضباط الأبرياء عن الجيش والسلطة .
وحدثت حوادث عديدة من البدايات وتمرد وثار الشعب الأعزل في مدينة درنة الصامدة أياما عديدة متحديا قيادة الشر القذافي في أوائل السبعينات نتيجتها تم طرد كتيبة الجيش الليبي المقيمة في المعسكر من المدينة نظير الكرامة والشرف بسبب سوء التصرف والجهل من آمر المعسكر الموجود بحامية درنة.... مما كبرت القصة وتفاقمت وتلافاها الطاغية بسرعة وبدهاء ومكر حتى لا تصبح القاضية لحكمه، ركع وطأطأ الرأس حتى قطع وأخمد فتيل الإشتعال من التفجير للقنابل الموقوته الجاهزة نظير الغضب الشعبي على العسكر. وهدأ الشعب ورجع لسكينته مثل السابق وإنفرد بالمدينة وشفى غله والأحقاد الدفينة بتهميشها كما فعل القصر والإدارة البريطانية من قبل بنفس المخطط .
حدثت القصة في سوق الظلام بوسط المدينة عندما تمادى أحد الجنود وعاكس أحدى الفتيات الشابات وردت عليه بعنف وقسوة وصفعته على وجهه نتيجة فعلته وطلب منه صاحب المحل الخروج لحل المشكلة ولكن تمادى ورفض وإستعمل القوة وإستدعى أصحابه لمهاجمة البائع الذي طرده من المحل وتم الإعتداء عليه وضربه من المجموعة مما جيرانه كالوا الجنود ضربا مبرحا غير متوقع حتى يتعلموا الدرس حيث كانوا موجهين ومعبئين نفسيا أنهم كعسكريين لهم الأولوية والآخرون المدنيين في المؤخرة .
فر الجنود إلى المعسكر هاربين وبدلا من قول الصدق لمسؤوليهم عن الحادثة ، كذبوا بأن الأهالي يتآمرون على الثورة وهذه في نظر العسكريين المجانين خيانة عظمى وجريمة بشعة من التريث والتحقق من الأمر والصبر قام آمر الحامية نظير الطيش والجبروت بإصدار الأمر بالإستعداد والتعبئة لقمع الثورة المزيفة الكاذبة والتحرك لضرب المدنيين العزل في شوارع المدينة .
تم حصار المدينة القديمة والسوق وإطلاق الرصاص العشوائي في الهواء لإخافة الجمهور وعندما قاوم البعض تم رميهم بالرصاص مواجهة وسقط الكثيرون جرحى والبعض قتلى، وتنادت المدينة وأقفل السوق أبوابه وعم الذعر السكان وإستمرت الحالة الصعبة في إستنفار لمدة أسبوع وتحدت المدينة الجيش وآمره المخبول، ولم يتجرأ جنود الدوريات المدججين بالسلاح على الدخول للشوارع الضيقة والأزقة وكل من يدخل صدفة بالخطأ يتم ضربه بقسوة من شباب وفتوات الحي وتجريده من السلاح... وحاولت القيادة التهديد بالقوة ولكن الشعب لم يصغي للجعجعة ولم يتوقف عن المقاومة وأصر أن يرحل الجيش من المدينة وخاف العقيد من الأمر أن يستفحل وتبدأ المدن الأخرى المجاورة بالتمرد مساندة وتعاون لأخوتهم الدراونة في نضالهم من أجل حماية الشرف وعندها الثورة ونهاية الحكم ، وأذعن وطأطأ الرأس وتم الأمر بالإخلاء وهو حزينا بالداخل نظير الهزيمة.
كنت شخصيا شاهد عيان واقفا أمام مكتبي في شارع رافع الأنصاري عند العصر، الشارع الوحيد الذي يؤدي إلى الغرب (إتجاه بنغازي) و شاهدت طوابير سيارات النقل الثقيلة والشحن وهي تنقل الكتيبة والجنود مستائين والبعض يبكون من الطرد والهزيمة، وكانت فرحة كبيرة للشعب فرض قراره بالرحيل والمغادرة لهؤلاء المجانين الذين نسوا أنهم ليبيين جنودا في خدمة الشعب وليس لمهاجمته وإطلاق الرصاص عليه . ( الجيش في أي مكان بالعالم لخدمة الشعب وعدم التعدي على الأبرياء والدفاع عنه والتصدي في حالة الغزو الخارجي والحفاظ على الوطن)... والله الموفق ....
رجب المبروك زعطوط
البقية تتبع...
No comments:
Post a Comment