بسم الله الرحمن الرحيم
رجال ليبيا المنسيين
الكثير من الرجال ضحوا من أجل الوطن وقدموا الكثير من الجهد والعرق والدم في مناوشات ومعارك عديدة صغيرة والبعض فردية ضد المستعمرين الأجانب... أظهروا فيها البطولات، ولم تتاح لهم الشهادة والموت في ساحات المعارك وكتبت لهم الحياة لأمور غيبية يعلمها الله عزوجل ، والبعض إستشهد في ساحات الوغى والمعارك وذكرهم التاريخ بالذكرى الحسنة ، والبعض منسيين مهمشين في زوايا النسيان أبطالا مقبورين لم يتركوا أي أثر وراءهم حتى يدخلوا تاريخ الجهاد الوطني من أوسع أبوابه ، وظلوا جنودا مجهولين للبشر، لكن ذكراهم حية عند الخالق الرب الكريم .
سمعت قصة وحادثة وقعت ولم تدون ويصبح لها الذكر من صديق عزيز السيد سيف النصر عبدالجليل الذي كان آخر وزير دفاع للمملكة الليبية وقت الإنقلاب الاسود المشئوم عام 1969 م الذي سرد لنا يوما في سهرة سمر في القاهرة ، مصر ، عن الأبطال المجهولين أنه سمع حكاية وقصة عن بطل مجهول لم يذكر في التاريخ من العجوز المسؤول في المقصف عن إعداد وجبات الفطور في الضحى وتقديم الشاي والقهوة للزوار خلال ساعات العمل في مدينة البيضاء... وفي ضحى يوم من أيام فصل الشتاء الباردة (البيضاء مشهورة بالبرد القارس) وبينما كان يعد الفطور لمجموعة المكتب حيث في ليبيا لايوجد لدينا النظام الطبقي ولا التفرقة مثل العديد من الدول العربية ... عامل المقصف والسائق والوزير كبير الشأن أم صغيرا، سواسية ساعات الراحة اصدقاءا يتسامرون مع بعض، سرد العجوز هذه القصة التي تدور احداثها في الثلاثينات من القرن الماضي، عندما كان شابا صغير السن مجندا لدى الإيطاليين حسب قوله وخرج مع بقية الدورية بناءا على إخبارية من وشاة بأن قافلة صغيرة من عدة إبل في طريقها إلى أحد مواقع المقاومة والجهاد، محملة بالذخيرة والسلاح... وكانت الدورية مكونة من ثلاثة سيارات وجنودا من المحليين والأحباش المرتزقة من إريتريا والضابط المسؤول ومعاونيه والسائقين الإيطاليين حيث في ذاك الوقت كان القليل من المحليين قادرين على قيادة السيارات .
تحركت سيارات الدورية إلى مكان معين في أحد الأودية جنوب الجبل الأخضر على مشارف الصحراء وتم التمويه الجيد والإخفاء انتظارا لمرور القافلة حتى يتم القبض عليها وطوال الليل بدون راحة ولا نوم في الإنتظار للإنقضاض فجأة صامتين من غير أية أضواء ولا أصوات لخداع القادمين حتى يقعوا في الفخ بسهولة كما كان يعتقد الضابط المسؤول وهم قادمين حيث في هدوء الصحراء التام تسمع صدى الأصوات تتردد من بعيد ، وأنوار لهب النار تشاهد من مسافة عشرات الكيلومترات.
أثناء الفجر وعندما بدأ ضياء النهار في البزوغ والوضوح شاهدوا ظلال القافلة تظهر وتسير ببطء إلى الكمين بدون ان يدروا ونظير الإستعجال واللهفة من قائد الدورية الايطالي بالمغامرة والقنص وكأنه في رحلة صيد، ناسيا أنه يتعامل مع ثوار (محافظية) مقاتلين أشداء ، الحياة والموت عندهم سيان في سبيل الوطن، ولم يصبر ويتأنى حتى يصلوا ويباغتهم فجأة ويقبض عليهم... أمر الجميع بالركوب في السيارات للمباغتة والمطاردة حتى لا يهربوا إلى الجبال العالية ويتركوا الجمال محملة لوحدها سائبة في الوادي حيث شاهدهم بالمنظار قليلي العدد وبالإستطاعة السيطرة عليهم بسهولة والقبض عليهم أو القضاء عليهم .
وتحركت السيارات ببطء نحوهم حيث الأرض وعرة شبه رملية والإطارات تغرس من السير بصعوبة تتحرك، وشاهدتها القافلة وكانوا عدة شباب يقودهم شيخ عجوز، شاهدوه من بعد وهو يشاور بيديه للشباب بقيادة الإبل إلى الخلف بسرعة والهرب حتى لا يقبض عليهم بسهولة .
جلس القرفصاء ( نصف جلسة واضعا ركبه ونصف على الأرض )، وربط أكمام اليدين من ثوبه الفضفاضة وراء عنقه حتى لا تعيقه عن الحركة بسهولة ، ووجه بندقيته بإحكام تجاههم متحديا قدوم السيارات التي كانت تقترب... وصرخ في الوادي بصوت عالي مما رددت الجبال صدى الصوت بقوة (شتاوة) أهزوجة قتالية ليبية قائلا ( يا أمكوغط حن، عدوانك جن) وبدأ المعركة وأطلق الرصاصة الأولى فجأة أصابت سائق السيارة الأول في الرأس وقتلته مما توقفت السيارة ومنعت الأخريات من التقدم، ثم الطلقة الثانية أصابت وقتلت سائق السيارة الثانية عندما تجاوز الأولى الواقفة محاولا التقدم، والثالثة بنفس الكيفية فقد كان مقاتلا قناصا، كل طلقة بقتيل من الأعداء حيث ذو معرفة في فنون القتال والإختيار للأهداف حتى يعطل الركب والهجوم.
غضب الضابط الإيطالي غضبا شديدا من الموقف الرهيب والحدث أن مقاوما عجوزا من البادية، يتحداهم لوحده ويقتل سائقي سيارات الدورية في دقائق سريعة وأزاح پقوة ورمى على الارض جثة السائق القتيل الراكب معه من على المقود بسرعة وغيظ، وحاول القيادة والهجوم ولكن العجوز لم يمهله وأطلق عليه الرصاص وقتله، مما توقفت السيارات في الوادي، نظير موت السائقين والضابط بسرعة وبقية المجندين يطلقون الرصاص العشوائي بغزارة عسى ان تصيب إحداها العجوز المهاجم .
وقفز العجوز وأطلق صرخة أخرى وقال ( ياناب هذا حق الشياب) وهرب في لحظات وذاب وتلاشى إلى عدم، وكأن الأرض إنشقت وبلعته بدون أن يدروا ، في خضم الفوضى والدهشة من الذي حدث بسرعة، ولم يستطيعوا الإستمرار والمطاردة للعجوز والإبل، حيث لا أحدا يعرف قيادة السيارات وغير مهتمين بدون ضابط مسؤول يصدر الأوامر، ولا يريدون المغامرة والقتل من قناص ويطاردون ثائرا رغبته الشهادة والموت في الدفاع عن الوطن .
هذه الحادثة البسيطة واحدة من عشرات المئات من الأحداث والمصادمات والمعارك الفردية والجماعية والتي قاوم فيها المجاهدون الليبيون طوال سنين الغزو الإيطالي المرير لأرض ليبيا، دفاعا عن الوطن والفداء والتضحية بالأرواح والدم نظير خلاص الوطن حتى إنتهاء الحرب العالمية الثانية بالنصر للحلفاء وطرد الإيطاليين الغزاة من ليبيا للأبد .
إن قصة مثل هذا العجوز لدليل حي عن مدى الشجاعة والصمود بدون وجل ولا خوف من الأعداء ساعة التحدي والمواجهة... صد تقدم الدورية في الوادي لوحده يغمره الإيمان بعدالة القضية التي يحارب من أجلها، بالروح والدم، ضد غزاة الوطن عن قناعة وتحدي، فأبناء الشعب الليبي ليسوا بجبناء ضعاف النفوس غير قادرين على القتال والتضحية، لديهم الصبر على تحمل المصائب والمصاعب وكأنهم غير قادرين على الرد والدفاع والهجوم ، وساعة الصفر والنفير والطلب للجهاد والتضحية بالنفوس أسودا أشاوس عندما يزيد الظلم والطغيان عن الحد، شجعانا لا يتوقفون عن النضال والمقاومة حتى يصلوا بقدرة الله عزوجل والتوفيق إلى الهدف والنصر، حسب مقولة شيخ الشهداء عمر المختار الخالدة "نحن شعب لا يستسلم، ننتصر أو نموت"... والله الموفق...
رجب المبروك زعطوط
البقية تتبع...