Sunday, June 12, 2016

يوميات خاصة 5

بسم الله الرحمن الرحيم


 بعد يومين من الإنتظار في تونس، وصل ثلاثة رجال خبراء أمريكان من الشركة لدراسة الأوضاع المأساوية من التطاحن والكر والفر وكل طرف يسعى للنصر مهما كلف الامر من تضحيات على أرضية الواقع في ليبيا، والإتفاق النهائي مع مسؤولي المجلس الإنتقالي عن إدارة العمليات الحربية في حالة الموافقة للعون والمساندة للقضاء على الطاغية ونظامه اللعين الأهوج بثوار وأياد ليبية، الذي يدار بعقليته وجنونه فارضا تطبيق تعاليم الكتاب الأخضر التافه كقانون بدون أي إستناد على دستور منتخب من أبناء الشعب ولا قوانين عادلة للجميع، حسب أهواء المجنون...  والأحكام القاسية الشنيعة تنفذ في الأبرياء المعادين والمشكوك في ولاءهم للنظام ...  وفي حالة الموافقة الرسمية والتوقيع على العقد المبرم بين الطرفين  للمساندة والعون، يأتي المدربون الآخرون إلى ليبيا لتدريب شباب الثوار بعد الفرز للمميزين على القتال والمواجهات ضمن الضبط والربط كجنود محترفين حسب الاتفاق بين الطرفين، ويصلون إلى الوطن مع المعدات بطرقهم الخاصة عن طريق البحر أو الإنزال الجوي ضمانا لسرعة التنفيذ وعدم تضييع الوقت، حيث كل يوم نتأخر في الإنجاز والقضاء على الطاغية يزداد عدد الشهداء والجرحى و يتفاقم دمار و خراب الوطن ، وتتوسع الهوة لتجار الفرص وأغنياء الحرب وأدعياء الثوار للقفز على المراكز الأولى بعد النجاح والنصر .

                       وتم اللقاء في فندق هيلتون بتونس و عندما سئلت من بعض الثقلاء بحب المعرفة عن هويتهم  أجبت  بأنهم رجال أعمال ، يبغون الربح في البيع والتمويل والتوريد  لكثير من المواد والسلع التي بدأت تنقص من  الأسواق بسرعة... و في تلك الفترة كان من الصعب السفر جوا و الحصول على مقاعد على متن   الطائرة الوحيدة المخصصة للجرحى  من كثرة النازحين والمرضى الذين تم علاجهم  في تونس العاصمة ولا يريدون البقاء هناك لرعاية عائلاتهم بالوطن وعلينا الإنتظار عدة أسابيع على قائمة الانتظار حيث الرحلات الجوية إلى  بنغازي كانت مرتين فقط في الأسبوع ولا نستطيع السفر والعبور بالبر من حدود تونس إلى ليبيا عن طريق العاصمة  طرابلس والمنطقة الوسطى إلى بنغازي،  حيث القتال كان دائرا بشراسة في المنطقة الغربية مما إضطر أحد الخبراء إضطر إلى السفر السريع إلى جهة ما بناءا على تعليمات وصلته من رؤسائه بدل الانتظار الممل وأن يحضر عنه البديل خلال عدة أيام... و كان رفاقه لا يحبذون السفر بدونه و قرروا إنتظاره  حتى يرجع بحيث يسافرون مع بعض كفريق... وتم تعديل البرنامج بالدخول إلى ليبيا عبر حدودها الشرقية مع دولة مصر ... وسافرت ومعي أحد أبنائي كمعاون ورفيق إلى القاهرة لترتيب الموضوع في دخول المجموعة إلى ليبيا بدون أي تعطيل عبر روما، إيطاليا، وكانت رحلة جوية صعبة ومزعجة من كثرة الفراغات والمطبات الهوائية والإنتظار طويلا في صالة العبور (الترانزيت) بالساعات حتى صعدنا الطائرة لتكملة الرحلة المحفوفة بالمغامرات والخطر في سبيل خدمة الوطن بالروح والدم....

                وصلنا الى القاهرة وأقمنا في فندق السفير بالدقي كالعادة لقربه من بيت أحد الأصدقاء الليبيين القدامى، الذي تربطني به صلات صداقة وأخوة وماء وملح منذ حوالي ثلاثة عقود وكنا معا في تنظيم واحد أيام المعارضة (حركة الكفاح) وأعضاءا في مجلس إدارة الرابطة الوطنية في مصر لرعاية الليبيين في بداية الثمانينات من القرن الماضي العشرين عندما تم نقلها من الاسكندرية إلى القاهرة من مجموعتنا وأصبحت الرئيسية وليست فرعا ، وكان رئيسها المناضل الكبير مصطفى البركي (توفى في بريطانيا ودفن غريبا مطاردا مريضا معدما رحمه الله تعالى وكان أمله وأمنيته حضور ومشاهدة يوم الثورة ضد النظام والطاغية حتى يفرح ويسعد أن تعب النضال والغربة والمعاناة والضغوط للسنين العديدة في النضال لم تضع هباء بدون نتيجة، وإنتقل إلى رحمة الله تعالى قبل الثورة بفترة سنوات ) .

                     كنت أتردد  عندما أكون في القاهرة على بيت صديقي  شبه يوميا عندما يكون في بعض الأحيان متواجدا في زيارات قصيرة لعائلته حيث وقع إختياره من ضمن أعضاء المجلس الإنتقالي لمتابعة ما يحدث من أخبار الحرب الشرسة الدائرة في المنطقة الغربية والذي يرجع في أصوله منها من منطقة صرمان وله الاتصالات اليومية مع أقاربه ومعارفه والمجلس لمعرفة ماذا يدور من الأمور القتالية في مواقع الاحداث في الجبهات الغربية والجنوب ، ومتابعة أخبار الجالية الليبية المقيمين سابقا والذي لديه المعرفة والعلاقات الشخصية والصداقة مع الكثيرين...  وقد تضاعف العدد عشرات المرات وأصبح أكثر من نصف مليون مواطن من النازحين معظمهم من المنطقة الشرقية والقلائل من المنطقة الغربية حيث معظمهم يحبذون الهجرة والبقاء في تونس لقربها منهم والوصول لها بسرعة وبالأخص من الطحالب والأزلام الهاربين مع عائلاتهم من ليبيا خوفا من قصاص الثوار بدون رحمة ولا شفقة في ساعات الفرحة والفوضى ووصل العدد في تونس إلى أكثر من نصف المليون ، وحوالي نصف مليون آخر موزعين في دول العالم العديدة، بحيث أصبح الربع من تعداد الشعب الليبي القليل من النازحين يعانون في الغربة وضيق ذات اليد والمعاناة ، والبعض المسالمين مع عائلاتهم إستقروا في مصر للعيش في أمان بدون خوف ورعب من الأحداث والحرب الدائرة بشراسة وعنف حتى يتم النصر وننتهي من الطاغية ونظامه عن قريب بإذن الله تعالى ويرجعوا للوطن ...

                   تمت الاتصالات المكثفة العديدة مع الرفاق في بنغازي وتم الترتيب بإستقبالنا عندما يتحدد وقت الوصول إلى الحدود حتى ينتظروننا لمتابعة الرحلة البرية رأسا إلى بنغازي...  وفي اليوم الموعود للوصول قمت بتأجير حافلة صغيرة حتى تستوعبنا وكان احد رفاقي من مدينة بنغازي  يرغب في السفر معنا مما وافقت على أن يرافقنا في الرحلة...  وذهبنا إلى مطار القاهرة في نهاية الأصيل إنتظارا لوصول الطائرة وطلبت من إبني أن يدخل إلى الصالة وينتظر ويستقبل الجماعة وجلست مع السائق ورفيق الرحلة حوالى الساعتين في الإنتظار في السيارة بالموقف في أحاديث عامة عن ما يجري من صراع شرس وحرب دائرة في الوطن والنظرة المستقبلية عن ماذا سوف يكون الوضع... هل نرتاح من الدسائس والمؤامرات والعنصريات الجهوية وأصابع الآخرين من العملاء من جميع الأطياف والشرائح سواءا محلية أو خارجية ...

                  حتى وصل الفريق بسلامة وتم التعارف مع القادم البديل ووضع الحقائب الخفيفة في السيارة وإنطلقنا للسفر إلى مدينة بنغازي التي تبعد حوالي 1300 كم وجلست على الكرسي الإمامي بجوار السائق في حديث طويل متشعب معه حتى أجعله متيقظا، لا يمل وينعس من التعب والانتظار الطويل... وعندما كنا على جسر 6 اكتوبر ومازلنا في وسط القاهرة، فجأة سمعنا صوتا مدويا من محرك الحافلة فقد حدث خلل كبيرا فيها، وإضطررنا للوقوف وبعد فحص سريع تبين أن الموضوع سوف يأخذ وقتا طويلا عدة أيام حتى يتم الاصلاح ، وعدة مكالمات هاتفية مع مكتب التأجير مما أفاد أنه سوف تأتينا حافلة أخرى بسعر وأجر كبير لتوصيلنا إلى بنغازي ووافقت حيث لا وقت لنا للجدال والمساومة على الإستغلال ورفع مبلغ الأجرة إلى حوالي الضعف حيث محتاجين للسفر، وإنتظرنا حوالي الساعتين على الجسر على أحر من الجمر حتى وصلت الحافلة الأخرى وتنازلت للسائق الإول عن مبلغ الدفعة الأولى من الأجرة وأعطيته مبلغا آخراً كمساعدة وتبرع على وجوده معنا طوال الوقت ولم يتذمر عندما تم توصيلنا إلى المطار وانتظرنا الوقت الطويل ...

                     إنطلقنا في الحافلة الأخرى وكانت الساعة حوالي العاشرة ليلا طالبين من المولى تعالى السلامة، ولفت إنتباهي أن احد الخبراء وضع جهازا صغيرا في حجم الهاتف النقال ألصقه على زجاج أحد جوانب الحافلة بجانبه من الخارج حيث يجلس، على ماأعتقد يعطي  إشارات إلى مكان ما عن مكاننا خطوة بخطوة، وكنت معظم الوقت مركزا النظر على السائق حتى لا يغمض عينيه من التعب والنعاس لحظات ويتسبب  في حادث شنيع يؤدى بالجميع إلى الهلاك،  فقد كانت الطريق البرية إلى الاسكندرية بها زحام كبير و كثيف من السيارات وبالأخص النقل الكبيرة التي تسير مع الأخريات في سرعات عالية حيث سائقنا لم يكن مستعدا للرحلة الفجائية والسفر بالليل إلى ليبيا...  ومررنا على أحد الإستراحات حيث تناولنا بعض السندوتشات كعشاء سريع وعدة فناجين من القهوة المركزة حتى نفيق ولا نغفوا وننام بسرعة من التعب والمعاناة...

                  وإستمرت الرحلة وعلى المفترق لمدينة الأسكندرية إتجهنا غربا إلى ليبيا حتى لا يضيع الوقت الطويل في الدخول إلى المدينة ونحن لسنا بحاجة لها وبعد رحلة متعبة حوالي الساعة الثالثة صباحا طلبت من السائق التوقف على جانب الطريق السريع وأخذ قسط من الراحة حتى يستعيد قواه فقد شعرت به يتثاءب ولا يستطيع الإستمرار وطلبنا منه عدة مرات أن يرتاح وأحدنا يقود مكانه فجميعنا قادرين على القيادة  ولكن رفض حيث كان عنيدا، مما أصررت على التوقف وأخذ قسط من الراحة في أي موقف بالصحراء بعيدا عن الطريق السريع حتى لا قدر الله تعالى وأحد السيارات تصطدم بنا لأي سبب كان... بعدما تجاوزنا مدينة مرسى مطروح ومازال الوصول إلى الحدود الشرقية والدخول إلى ليبيا حوالى 300 ك م...

                  جميعنا أخذ فترة راحة فقد كنا مرهقين من السفر والترحال وشد الأعصاب بسبب عطل الحافلة الاولى على الجسر بالقاهرة وفي حالة مزرية من القلق ، مما كان القرار جيدا بالتوقف، والجميع في لحظات عندما توقفنا إرتاحت النفوس على التركيز على الطريق خوفا من أي حادث قد يحدث وناموا بسرعة، وأيقظت السائق لمتابعة المسيرة عندما حل الفجر والضياء، وإنطلقنا في الرحلة ، وفجأة الحافلة إصطدمت بإطار سيارة مرميا في وسط الطريق ولم يشاهده السائق إلا في آخر لحظة وحاول بجهد أن يتجنبه ولم يستطيع التوقف وكانت الإطارات الخلفية للحافلة مثقوبة الاثنين بدون هواءً ولا نستطيع الاستمرار والحافلة معها إطارا واحدا إحتياطيا وبحاجة إلى آخر مما السائق قام بتركيب الإحتياطي وخلع الثاني ووقف ينتظر حتى مرت سيارة استقلها مع الإطارات للتصليح في أقرب مكان ، وتأخر حوالي الساعتين ونحن على أحر من الجمر وفي نفس الوقت حامدين الله تعالى على النجاة والسلامة من الحادث عندما السائق حاول الإبتعاد فجأة وعدم الاصطدام وحاول الانحراف وهو في سرعة عالية مما الحافلة ضاع توازنها لحظات وكادت تنقلب بنا عدة مرات رأسا على عقب، وطويل العمر من تتاح له السلامة للعيش والحياة...

                   تم تركيب الإطارات الخلفية وساعد الجميع السائق فى التغيير، وإستمرت الرحلة الغريبة والمملوءة بالمفاجئات ونحن فرحى سعداء بالنجاة من حادث شنيع كان ممكنا حدوثه ونزعت الظنون الخبيثة من النفس بالتطير والتشاؤم الشيطاني في الرحلة حيث بين المساء والفجر اليوم التالي حدثت لنا حادثتين التعطيل على الجسر والإصطدام بالإطار المرمي في وسط الطريق، ولكن ستر الله تعالى ورعانا حيث النوايا سليمة لأجل خدمة الوطن...  ووصلنا إلى بلدة السلوم ومنها إلى أعلى الجبل بحوالي عشرة كم إلى البوابة المصرية الحد الفاصل مع ليبيا وكانت إجراءاتها متعبة وعقيمة وفوضى عامة أخذت بعض الوقت للمرور ولكن كانت لدينا الخبرة الكبيرة في المعاملات مع حدود مصر بالدفع الجزيل كرشاوي للبعض من المسؤولين وإختصرنا الكثير من الوقت في التعطيل والإنتظار حتى تحصلنا على الإذن وختم جوازات السفر بالمغادرة قبل الكثيرين الذين كان الله تعالى في عونهم ينتظرون في طوابير طويلة للدخول والخروج...

              وصلنا وعبرنا أخيرا إلى البوابة الليبية أرض الوطن وكم سعدت جداً وفرحت عندما شاهدت وقابلنا رفاقنا المناضل الترهوني والعقيد المهدوي وعدة مستقبلين آخرين لا أتذكر أسماؤهم الآن ولكن كان احدهم ضابطا بالجوازات ويقيم في مدينة طبرق ، وإستلم المناضل الترهوني جميع جوازات سفرنا وخلال دقائق تم الختم وعدم التفتيش والفحص لأي حقيبة ولا للحافلة مما إستغرب الضيوف الوضع حيث إستقبالهم كان رسميا غير عاديا المرور بهذا الشكل وبالأخص الوقت ثورة وصراع ودم غير آمن للغرباء الأجانب، وإنطلقنا في الرحلة إلى هدفنا مدينة بنغازي ، وكان الضابط مع الرفاق المرافقين لنا في السيارة الطاوية الثانية التي تتقدمنا وتفتح الطريق للمرور عبر البوابات الأمنية العديدة بدون تساؤلات ولا أي نوع من التعطيل، والذي أصر على دعوتنا وضيافة الجميع لتناول وجبة الغداء في بيته في مدينة طبرق القريبة غرب الحدود حوالي 130 كم ، ولم نستطيع التملص مع أنني حاولت الإعتذار بلطف وأدب حيث حسب عاداتنا الليبية تعتبر خطئا كبيرا وإهانة شخصية للمضيف الرفض والإصرار على عدم قبول الدعوة والكرم الذي يدل على أصالة المحتد للعائلة و عراقة الأسرة، وكان الضابط متصلا بعائلته بالهاتف لتجهيز المأدبة للجميع وأن تكون جاهزة وقت الوصول...

                 وصلنا لبيت المضيف في مدخل طبرق فقد كانت المسافة قريبة من الحدود ونزع الجميع الأحذية وجلسوا على الأرض في الصالون المفروش بالأبسطة على الطريقة العربية حيث على ماأعتقد ضيوفنا الأجانب أول مرة يتناولون الطعام جلوسا بدون طاولة ومقاعد وصحون وكانت وجبة الغداء جيدة لذيذة، وبعد الإنتهاء من الطعام والتحلية بالفاكهة وشرب عدة طاسات من الشاي الأخضر العبق مما جعلنا ننشط..  وشكرنا المضيف على الإستقبال و الكرم وحسن الضيافة وودعناه على أمل اللقاء القريب بعد النصر، ومتابعة الرحلة إلى مدينة درنة محطتنا الثانية بعد حوالي 170 كم ، وفضلنا السفر والسير عبر الطريق الساحلي لأنه أكثر أمنا ، بدل أن نستمر في السير عبر الطريق الصحراوي المهجور الذي يختصر الكثير من الوقت والمسافة للوصول إلى مدينة بنغازي خوفا من أية مفاجئات قد تحدث من أي طرف معاد بالصحراء غير متوقع ونحن ليس لدينا السلاح للدفاع عن النفس في حالة أي مكروه... والله الموفق ... 

 رجب المبروك زعطوط

 يتبع في الحلقة الأخرى ... 

No comments:

Post a Comment