Friday, September 16, 2011

قصصنا المنسية 13

بسم الله الرحمن الرحيم

 رجال ليبيا المنسيين

المجاهد البطل المرحوم  الحاج / المبروك صالح زعطوط
             عائلتنا لقبها زعطوط (بيت من بيوت قبيلة تواجير درنة) وعميدها الحاج المبروك زعطوط المجاهد الجندي المجهول الذي كان لا يحب الشهرة ولا الظهور في الأضواء ودوائر النور، كان دائما طوال حياته 1972/1892م... يعمل في الظلال ومن وراء الستار في صمت، والذي دائما يقول وينصحني أيام الصغر عندما نكون في جلسة سمر عائلية متسائلا له ببراءة وعفوية لماذا لم يكن من رجال الدولة والحكم ولديه المعرفة بالملك ادريس شخصيا وتربطه علاقة روحية أخوية مع آل بوسيف أخوال الملك ادريس والكثيرين من رجال السنوسية والقصر وله التقدير والاحترام نظير الكفاح والنضال .
                ويرد على قائلا يابني أي عمل أن لم يكن لوجه الله تعالى والوطن وبقلب طاهر ليس به خبث أو طمع فى جاه ومركز لن ينجح، لا اريد شهرة ولست بمنافق ووصولي وراضي بما قسمه المولي تعالى لي ولست محتاجا إلا للخالق الرازق ، العمل بالجهد والعرق والنضال الشريف هو العنوان والشاهد دنيا وآخرة ، مما كانت هذه العبارات والنصائح لها بالغ الأثر في نفسي وتعلمت الكثير من خلالها في مسيرة الحياة .
                الوالد المجاهد ضحى بالمال والجهد والوقت وتعرض للموت عدة مرات ولكن بحمد الله عز وجل نجى وكتبت له الحياة من جديد، وصمد أيام الإحتلال الإيطالي حيث حارب مع أخيه شقيقه الكبير الفقيه عبدالجليل الذي كان من أتباع الطريقة السنوسية وتخرج في الفقه وأصول الشريعة الإسلامية وحفظ القرآن الكريم وشروحه من منارات العلم والمعاهد الإسلامية التي تحت إدارة الطريقة السنوسية بالواحات، الجغبوب والكفرة...وكان في معية السيد أحمد الشريف كأحد الأخوان الفقهاء الحفاظ والجنود المتطوعين لحمايته في تنقلاته ومعاركه ضد الإيطاليين والإنجليز على الحدود الشرقية حتى تنازل عن الزعامة الروحية للطريقة السنوسية للأمير الشاب ادريس وغادر إلى اسطنبول بناءا على إستدعاء السلطان العثماني له بالقدوم .
                حارب الوالد الحاج المبروك مع رجال المقاومة السرية (المحافظية) لقب الثوار وقتها والمعسكر يلقب بكلمة (دور ) ولقرب بيت العائلة الذي كان محاذيا للسور الذي أقامه الإيطاليون وقتها على مدينة درنة من 3 جهات والرابعة كان الشاطىء والبحر حيث به الأسلاك الشائكة والعوائق لمسافة ، والسور لا يستطيع أي أحد المرور منه إلا ضمن أبواب معينة محروسة من جنود العدو وعليها حراسات قوية حتى لا يتسلل أي أحد من الوطنيين المحافظية إلى المدينة أو خارجها... ساعات الحظر من السادسة مساءا تغلق الأبواب حتى السادسة صباحا لتفتح من جديد للعبور مع التدقيق القوي فيحالات الاشتباه في أي أحد كان من السكان العابرين لمزارعهم القريبة او الرعي للأغنام والمسافرين.
                 السور الذى احيطت به مدينة درنة كاالسوار بحيث يمنع التسلل من المحافظية ودخول المدينة وشراء المواد الغذائية التموينية التي كانوا في أمس الحاجة لها للعيش ، والدواء لعلاج الجرحى الذين سقطوا في ساحات القتال والمعارك ، وكان السور الوحيد الذي بناه الطليان على مدينة درنة ، ولم يتم البناء لأي سور على مدن أخرى بالوطن منذ الاحتلال عام 1911م والخسارة والجلاء بعد إنتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945م ، حيث يعتبر تاجا من الذهب والجواهر تشع حبات لآلئه وجواهره على الرأس ببريق خاص ، يشرف المدينة وأهاليها طوال الوقت عبر الزمن ، وشهادة  تاريخية من العدو على الصمود والنضال .
              بيت العائلة في ناحية هضبة بومنصور بدرنة المشرف على نصف المدينة الشرقي والذي كانت به كهوف مستترة في باطن الأرض بها فتحات غير مرئية تم حفر ممرات سرية حتى تجاوزت السور وأصبحت ممرا للعبور صعب إكتشافها بدون وشاة أو مخبر جاسوس يعرفها معرفة جيدة. وكان الوالد أيام شبابه وصحته تاجرا بالسوق لديه دكان يبيع ويشتري فترة النهار ،  وبعض الليالي القاتمة يعبر السور إلى الدور القريب وبالأخص في الشتاء حيث الحرس يقبعون بالثكنات والغرف العالية التي بها فتحات ونوافذ من أعلى السور إتقاءا للأمطار والبرد مما لا يسمعون الأصوات نظير هدير الرياح وزمجرتها و يتم المرور بسهولة.
               وأيام الليالي المقمرة كان مع رفاقه يقضون الوقت الطويل في صبر وإنتظار وترقب الفرص حتى تتاح وتسنح و يعبرون في صمت فقد كان الحرس يسير على السور شاهرا السلاح بخطوات عسكرية من ركن إلى ركن حتى يتلاقون وجها لوجه ثم يسير كل واحد منهم عكس الإتجاه إلى النقطة الأخيرة ثم يرجعون كل إلى مكانه إلى الفجر حتى بزوغ الشمس والنور والضياء يعم المكان عندها يتوقفون حيث الرؤية واضحة لمسافات .
               رجال المقاومة السرية معرضين حياتهم للخطر الهلاك والموت في حالة الانتباه والقبض عليهم ، يتسللون الواحد وراء الآخر في صمت وسكون وهم يحملون السلاح والذخيرة والمواد التموينية المطلوبة لمناصرة المحافظية قبل بزوغ الفجر في الظلام ، ويقضى بعض الوقت في الدور خفية حتى لا يلاحظ وجوده على العلن الا من البعض ذوى الثقة خوفا من العيون والجواسيس الذين يتعاملون مع العدو، أو لا قدر الله تعالى أى محافظى ثائر يسقط رهينة لدى العدو أثناء المعارك أو بالصدفة، وتحت الترغيب والترهيب أو العذاب والجلد بالسياط ينطق بالأسماء المحلية، الوطنيين الذين يتعاونون مع الدور منعا من حدوث المصائب . ويوما من الأيام وشى بالوالد أحد الوشاة المحليين في المدينة للإيطاليين بأن الوالد لديه قطع سلاح (مسدسات) وذخائر بالبيت وكان أحد الليبيون "زبطية "(مجند في خدمة الإيطاليين) يسمع الواشي وهو في حضرة المسؤول يذكر اسم الوالد وصحي ضميره فقد كان الوالد محبوبا شعبيا محليا وعديلا لقريبه وأبن عمه الحاج عبدالرازق الحاسي الذي كان زوجا لخالتي ، مما بعث إبنه الصغير بسرعة للوالد بالسوق طالبا منه أن ينتظر قدومه بعد الظهر، مما فهم الوالد معنى الرسالة الخطيرة أنه سوف تتم المداهمة وتفتيش البيت.
                ترك المحل بالسوق مفتوحا مثل العادة ووضع العكاز على كرسيين بالأمام بحيث إشارة أن المحل مغلق وصاحبه غير موجود وذهب للبيت مسرعا خلال الأزقة الخلفية وعبر جبانة الصحابة القريبة من البيت لإختصار الطريق وهو شارد الذهن ... يفكر بقوة من أجل البقاء والحياة داعيا طالبا الله تعالى النجدة والإنقاذ كيف يستطيع أن ينظف البيت قبل وصول الجنود . ووصل للبيت ولم يكن لديه وقت طويل حتى يحفر أو يجد أي مخبأ أمين، وهداه الله تعالى بأن يضع المسدسات والذخيرة في كيس قماش كبير وربطه بإحكام وقوة ، ووضعتها أمي ( رحمها الله تعالى ) على ظهرها وكأنها تحمل طفلا رضيعا وأحكمت الحرام اللباس التقليدي الليبي برباط الحزام بقوة حتى لا ينزلق الكيس ويسقط أثناء المشي وتغطت بالجرد العباءة وهى تصطك وترتعش من شدة الخوف والرعب من المخاطرة والمجازفة بالحياة ، والذي لو حدث أي خطأ وقبض عليها فسوف تعدم بحبل المشنقة وتنتهي حياتها  للأبد .

              لحظة خروجها كان الجنود بالقرب من البيت وبعضهم على الباب وأفسحوا لها الطريق فقد كان الإحترام واجبا للنساء، ولو أي جندي من الدورية تجرأ ولمس الوليد على ظهرها بالشك أو بالصدفة للتفتيش فسيصطدم بحديد المسدسات والذخيرة ، وتبدأ المصيبة ولكن الله عز وجل ستر ، وخرجت بخطوات رتيبة وهي ترتعش حتى وصلت إلى مقبرة الصحابة ورأسا إلى البئر الذي كان بالمنتصف وتطلعت حواليها في جميع الاتجاهات خوفا من العيون المتلصصة وكان وقتها ساعة القيلولة والناس مرتاحين بعد تناول وجبة الغداء ونيام من حرارة طقس الظهر القائظة والمقبرة مهجورة ليس بها أي أحد ووقفت على البئر وأعطته بظهرها وأسقطت الجرد على الجانب وفتحت الحرام والحزام مما سقط كيس المسدسات والذخيرة في البئر بقوة وسمعت صوت الإرتطام بالماء مما إرتاحت ورجعت لها الحياة والهدوء ورجعت للبيت فرحة من غير أن يدري أي أحد أو يلاحظ .
                بالبيت قبض الجنود على الوالد وأصبح تحت الحراسة والمراقبة حتى لا يهرب أثناء التفتيش وإخوتي وأخواتي في هلع ورعب خائفين على مصير الوالد من العذاب والشنق ، وكنت وقتها لم أولد بعد ولكن سمعت عن المداهمة وقصص أخرى عشرات المرات أيام الصبا والشباب ، وتم التفتيش بدقة ولم يترك أي مكان أو فجوة حتى تمت مراجعتها عدة  مرات ، ولم يجدوا أي سلاح أو أي شىء غير قانوني ضارا ، وكان الزبطية الليبي ممسكا بسوطه في إنتظار الأوامر واقفا يغالب الإبتسامة سعيدا يضع أصابعه على شواربه وهو يفتل فيها بسرور أن الأزمة مرت على سلام نتيجة التحذير منه .
             الكابتن الإيطالي إستشاط غضبا من الوشاية والتهمة الكاذبة حيث الواشي ضيع عليه وجبة الغداء و نومة القيلولة والراحة وأمر بضربه 100 جلدة بالسوط على ظهره بدل المكافأة والذي كان موجودا في معيتهم حتى يتأكد مرة ثانية من صحة المعلومات ولا يتهم أي إنسان برئ بالباطل.
              هذه العادة أيامها أن لا يفتش أي بيت لمواطن محلي إلا بحضور الواشي وشيخ المنطقة وعمدة القبيلة التي ينتمي لها المتهم بحيث يصبحون شهودا على الجرم المشهود في حالة الوجود للممنوعات وقت المداهمة والتفتيش ، الذي عقابه الموت بالشنق في مدينة المرج بدون محاكمة، لو وجدت المسدسات والذخيرة بحوزته بالبيت حسب المعلومة .
             وقام الزبطية الليبي متشفيا مع بعض الجنود بربط الواشي في أحد الأشجار مقابل البيت وجلده بسرور وهو فرحا سعيدا حسب ماقاله والدي لنا عندما كبرت في حكاياته وقت السمر في بعض الليالي، عندما كان يحدثنا عن قصص الجهاد في الوطن العديدة وعن ما مر به من مصائب ومحن والتي بفضل الله تعالى ورضاة الوالدين نجى منها وعاش ، والله الموفق .

                  رجب المبروك زعطوط 

 البقية تتبع....

No comments:

Post a Comment