Monday, August 15, 2011

قصصنا المنسية 2

 بسم الله الرحمن الرحيم

 رجال ليبيا المنسيين

              أردت البدء في تدوين تاريخ بعض الشخصيات النضالية من قافلة طويلة، سواءا أحياءا يرزقون أم شهداء في ذمة الله تعالى متوفين الذين عرفتهم يوما من الأيام معرفة شخصية ، محاولا قدر الإمكان ساعيا بأمانة وضمير تسطير كل ما عرفته وعلمته عنهم خلال المعرفة والأخوة والرفقة والنضال طالبا من الله عز وجل للموتى الرحمة والمغفرة ، وللأحياء التوفيق والنجاح ودوام الصحة والعافية لهم حيث من وجهة نظري الخاصة قدموا الكثير من أجل قضية الوطن النبيلة ولم يتم ذكرهم وتكريمهم عرفانا بالجميل .

              بادئا بالمناضل جاب الله حامد مطر من مدينة إجدابيا قبيلة زويه الذي إختفى في ظروف غامضة عام 1989م حيث تم إستدعائه كضيف أحد فروع المخابرات المصرية الأمنية في القاهرة بمصر للحديث وبحث بعض المواضيع بالجالية والمعارضة الليبية حسب ماسمعت من عائلته وبعض الرفاق ، وقام بالزيارة لهم كالعادة وهو خالي البال عما يحاك له من دسائس ومؤامرة على حياته وإستقبل بكل الحفاوة والإحترام .

             كان الحديث طويلا ومتشعبا بينهم وقدمت له القهوة كالعادة بها مخدرا مما فقد الوعي ووخز بإبر مخدرة حتى لا يفيق حتى وصل إلى طرابلس في رحلة جوية خاصة بعد ساعات.... وعندما أفاق ورجع له الوعي وجد نفسه مكبلا بالقيود تحت حراسة مشددة من قبل رجال الأمن الشامتين والفرحى بالقبض عليه وإحتجازه للحصول على الرضي والمكافئات الجزيلة من سيدهم القذافي.

               المجرم الأول وراء هذه العملية البربرية كان الرئيس السابق حسني مبارك الذي للأسف الشديد برأته المحاكم والعدالة المصرية من كل التهم أثناء رئاسته فقد تمت العملية بعلمه وضمن تعليماته لقاء حفنة من ملايين الدولارات دفعت له في حساباته بالخارج من قبل القذافي الذي عرف نقاط ضعفه وشهوته للمال الحرام وعمالته ، وعرف كيف يشتريه بالمال وضيع اسم مصر العظيم وشوهه وهي التي كانت من قبل أيام المرحوم الرئيس السادات بلد الأمن والأمان....

              لقد تابعت أخباره واطلعت على  قصة اختطافه والقبض عليه في كامل الدقة و السرية ،  في ليبيا بعد عدة سنوات عندما رجعت إلى هناك مارس 1991م  لأنه كان بالنسبة لي أخا من الدهر وليس من الظهر وصديقا ورفيق كفاح وشريكا في شركة النجم الأخضر للتجارة والمقاولات التي كانت غطاءا لتمويل الكفاح ضد نظام الطاغية من دخلها البسيط الحلال حتى نعيش ونتحمل المسؤليات الجسام التي آلينا على أنفسنا حملها لخدمة الوطن بشرف وبدون أطماع مستقبلية في الاستغلال او الحكم .

               لقد عرفت الرجل بالصدفة فقد كنت في أحد الأيام في طرابلس لبعض الأعمال مقيما في فندق البحر الأبيض المتوسط فى صيف عام 1973 م حيث دعاني صديقي الحاج فرج تربح إلى مأدبة غداء في بيت صهره ، زوج أخته،  العائد من أمريكا بعد أن أنهى الخدمة الدبلوماسية في البعثة الليبية في نيويورك كقنصل،  وحاولت التملص والإعتذار ولكن أصر على مجيىئي ووافقت على حضور الوليمة ولم أعرف أنها سوف تكون فاتحة خير وروابط كثيرة عديدة مستقبلية وأخوة تربطنا مع بعض في كثير من الأعمال التجارية والنضال.

              أستقبلني السيد جاب الله  بحفاوة وترحاب في بيته وقدمنى الحاج فرج صهره بأنني رجل أعمال فى مدينة درنة في التجارة والمقاولات ، والغداء الشهي والحديث والحكايات المتعددة أثناء شرب أكواب الشاي الأخضر وتناول الفاكهة حتى قيام آذان العصر مما إستأذنت للذهاب ولم تكن معي  سيارة مماأصر أن يوصلني بسيارته إلى الفندق وكنت محرجا حيث لا أريد له التعب .

             أثناء الطريق تجاذبنا الحديث في مواضيع عديدة حتى وصلنا إلى باب الفندق ، وعرفت بالحدس أنه يفكر في ترك وظيفة الدولة والعمل في القطاع الخاص الحر بدون قيود في أي مشروع لحسابه ولكن ليس لديه الرأسمال ولا الخبرة والمعرفة التجارية الواسعة حيث كان ضابطا بالجيش الملكي برتبة مقدم وجميع معلوماته وخبراته عسكرية إلا بعض الخبرات التي إكتسبها في الادارة من وجوده في العمل بالسلك الديبلوماسي كقنصل يمثل ليبيا أيام إقامته لفترة بسيطة في بعثة الأمم المتحدة في نيويورك أمريكا .

                شجعته على الفكرة ، ان التجارة الحرة هي المستقبل الواعد في ليبيا حيث بلدنا مقدم على مشاريع كبيرة للبناء والاستثمار الجيد وله أرباحا كثيرة وكبيرة مما وافقني في الأفكار وتم الإتفاق بان يأتي بالغد إلى المكتب في عمارة طاطاناكي الدور الرابع في شارع المقريف للنقاش عن الأعمال ،  مما وافق على اللقاء بعد صلاة العصر.

              اليوم الثاني فى الميعاد وصل للمكتب وإحتفيت بالزيارة و تحدثنا كثيرا في مواضيع عديدة أثناء شرب القهوة وشعرت بصدقه وحديثه الرزين وإتفقنا على التعاون مع بعض في عمل تجاري مفيد لنا  كشركاء مستقبلا عندما يتحصل على الاستقالة من أمانة الخارجية التي سوف يسعى فيها من الغد بناءا على الوعد بالتمويل للرأسمال المبدئي والخبرة التجارية من طرفي  حتى النجاح بإذن الله تعالى .

              مرت شهور على الحديث بدون أي إتصالات  بيننا حتى فوجئت يوما بإتصال هاتفي أثناء تواجدي في مدينة درنة منه من اجدابيا يذكرني بالاتفاق الشفهي الذي تم بيننا حيث تحصل على الاستقالة من امانة الخارجية ويريد البدأ ، متسائلا هل مازلت مهتما في الموضوع الذي توصلنا فيه إلى إتفاق مبدئي أم لا ...   وكان الرد السريع مازلت محافظا على الوعد طالبا منه القدوم إلى درنة حتى يتم وضع الاتفاق رسميا ضمن عقد عن طريق محرر العقود مما ذهل وقال غداً بالمساء بإذن الله تعالى سأكون في مدينة درنة للزيارة وإتمام الموضوع.

            وصل إلى درنة حسب الميعاد وأستضفته في بيتي يومين ضيفا ، ويوم وصوله بالظهر أبلغت العقيد المتقاعد السيد مفتاح الباح (الله يرحمه) الساكن في الدور الأول بعمارتي  بأن يحضر مدعوا لتناول وجبة العشاء إحتفالا بوصول السيد جاب الله مطر ، وبدون العلم و المعرفة   إستضاف بعضا من الأخوة رفاقهم السابقين المتقاعدين ذوي الرتب وقت الانقلاب من عدة سنوات فقط السادة:  الطيار محمد شنيب والسيد يوسف شخير، والعوكلي ورمضان أسطى عمر ، بحيث أصبح الضيوف ستة من ذوي الرتب العسكرية المتقاعدين  وأنا الوحيد وسطهم المضيف مدنيا .

             قبل تقديم وليمة العشاء بقليل طرق الباب وكنت أسكن بالدور الأخير بالعمارة وكان بالباب مدير الأمن الخارجي عبدالمولى العرفي  ونائبه السيد فتحي خليل كشاهد على اللقاء بحجة أنهم يريدون معرفة رقم سكن الدكتور الهندي الخاص بالأطفال المقيم عندي بالعمارة وعرفت بالحدس أنه في شىء خطير يحاك لا أعرفه بحيث يأتي هؤلاء شخصيا وعندهم عشرات الأعوان يستطيعون أيجاد الدكتور وأستدعائه ببساطة... مما تداركت الأمر عفويا بدون قصد وأصررت عليهم بالدخول وحلفت بأن يدخلوا للعشاء طالما وصلوا للباب لأنها فرصة لدي لا تعوض بحيث يصبحون شهودا لو حدثت أية تساؤلات أو مكروها مستقبلا من أية جهة أمنية أخرى  تبحث.

                حيث كنا نعيش في ظلال الخوف والرعب في صمت تحت السطح خوفا من الاتهام الجائر من أي واشى ، وقبلوا دعوة الضيافة وتناول طعام العشاء مع الجميع حيث يريدون معرفة الضيوف، و دخلوا إلى الصالون وعرفت الجميع على بعض وكان العشاء شهيا لذيذا وسهرة طويلة في ذكريات الماضي وقصص وطرائف درناوية وأحداث قديمة ولم يتطرق أي أحد إلى أي موضوع سياسي كان وكلما أراد رجال الأمن الخروج والذهاب أصر على بقائهم لنهاية السهرة ، حتى غادر الجميع البيت وودعتهم على الباب متمنيا لهم نوما سعيدا ، وبقى جاب الله الضيف لوحده حيث أكملت السهرة معه في الحديث عن أتفاقية المشاركة ووضع اللمسات الأخيرة لمقابلة محرر العقود وتسجيل الشركة رسميا بإسم شركة النجم الأخضر للتجارة والمقاولات ، والحصول على إذن ورخصة رسمية بالعمل .

                تم التوقيع لدى محرر العقود على أن يستكمل الأجراءات الرسمية وبقية المعاملات خلال فترة بسيطة ، واليوم الثاني سافر جاب الله إلى أجدابيا لزيارة والدته وإخوته ، وسافرت إلى أثينا اليونان لبعض الاعمال . وصادف الحظ أن شركة هيراكليس اليونانية لصناعة الإسمنت ، والتي كنت وكيلها  في المنطقة الشرقية ، ولديهم باخرة أسمنت حمولة الفي  طن تحت الشحن و تأخر المشتري  في فتح الإعتماد ولا يستطيعون ترك السفينة تنتظر في الميناء حتى يصل الاعتماد البنكي بالشراء وطلب مني مدير التصدير مساعدتهم في حل المشكلة ووافقت على شرائها ودفع الثمن ضد المستندات ووقعت على المعاملات هناك بإسم الشركة الجديد (النجم الاخضر) والتي مازالت تحت الإنشاء بالدفع عند الإستلام. 

               ورجعت إلى بنغازي وكان شريكي جاب الله في أنتظاري بمطار بنينا لإستقبالي في القدوم من الرحلة وعندما شاهدته قلت له ضاحكا مبتسما أبشر فعندي لك هدية سوف تصل باخرة محملة بالأسمنت قريبا إلى بنغازي كأول عملية شراء وبيع باسم الشركة الجديدة بيننا وعليك بيعها إلى التجار من معارفك وأصدقائك وكانت مفاجأة له حيث لا توجد لدينا مخازن في بنغازي في حالة عدم البيع لتخزينها ولكن السوق كان محتاجا لأي كميات تصل إلى المدينة نظير الطلب الكبير ، وقبل الأمر على مضض وكانت أول صفقة تجارية للشركة الجديدة وفاتحة خير عميم تحققت بدون علم مسبق و ترتيب وكانت ذات ربح عظيم .

              وصلت الباخرة وقام جاب الله بجميع الاجراءات والمعاملات الجمركية بالمستندات ، وأثناء التفريغ كان جاب الله يتردد على الميناء مما ملابسه إتسخت بغبار الآسمنت وكان محبا للنظافة و الأناقة وإستعمال العطور وبدأ يردد بأبتسامة عريضة لائما (آخر الزمان أترك وزارة الخارجية والمكاتب المكيفة والأحترام والمعاملة كقنصل وأغطس في الغبار بسببك ياحاج) وأرد عليه أحسن أن تكون حرا ولا مديرا على رأسك تذهب وترجع متى تشاء وتصبح مع الوقت وتوفيق الله تعالى من الأغنياء تحقق أمانيك وأحلامك ) وكان الرد منه عندك حق فالمرتب مهما كثر لايغطى مصاريف الحياة التي تزداد صعوبة كل يوم .

                  وكانت البداية في التجارة والتي إستمرت من نجاح إلى نجاح وسافرنا مع بعض إلى دول عديدة مثل  اليونان وإيطاليا وألمانيا لحضور المعارض والسويد والدانمرك لتوقيع عقود توكيل آليات رافعة وقضينا أياما جميلة ذكراها ستظل بذاكرتي إلى ماشاء الله تعالى وكتبت لي الحياة  ، ولم نحسب حساب الزمن الغدار في بعض الأحيان أنه يوما في ليبيا سيتم الزحف والتأميم على التجار ورجال الأعمال ، وتلاحقت الأمور وخدعنا من قبل النظام عندما أرغم جميع رجال الأعمال والتجار على تكوين شركات مساهمة جماعية بحيث أية رخصة مقاولات فردية تصبح ملغية بدون صلاحية في فترة زمنية ضيقة مما أضطر الجميع إلى التجمع مع بعض في فوضى بدون دراسات وتكوين شركات مساهمة ومعظم المساهمين صوريين عبارة عن وضع أسمائهم فقد كانوا موظفين وعمالا بدون رأسمال للدفع أو أقارب   لم يتم دفع أي مبلغ لتغطية حصصهم وبالتالي سببت مشاكل رهيبة بعد مرور سنوات طويلة وقت المطالبة للدولة بالأموال عن الزحف والتأميم ، مما يدل على أن سياسة الدولة في حيرة وتخبط وفساد على جميع المستويات، وأضطررت مثل غيري من ضم جميع الشركات التي كنت مالكها او مساهما فيها بالنصيب الأكبر تحت أسم واحد (شركة المدائن للتجارة والمقاولات).

               بعد الزحف والتأميم لكل الأملاك والشركات ووفاة الوالدة من الصدمة بستة أشهر هاجرت من ليبيا وخرجت بعد جهد جهيد بوجود موانع أمنية عديدة هاربا بالجلد لإنقاذ النفس من السجن والتعذيب والعقاب كما حدث لغيري من رجال الأعمال الرفاق ولكن رضاء الله تعالى والوالدين وعمل ومساعدة الرفاق والأصدقاء المعروفين والغير معروفين تمكنت من السفر يوم 1979/3/21م  من مطار طرابلس هاربا ضمن مخاطرة وقصة طويلة ثانية سوف تذكر في المدونات القادمة.

               ولم يكن بيننا أي أتصال مع  الرفيق جاب الله حتى يوما من الأيام أتصل بي هاتفيا من جنيف سويسرا قائلا أنه يريد أن يرجع إلى طرابلس لأخراج عائلته وكانت لدى فكرة عمل وقيام تنظيم سياسي فعال ضد النظام تختمر في الذهن ولم تخرج للنور بعد...  قائلا له لا ترتبط بأي عمل سياسي مع أي طرف آخر حتى نلتقي وكان بيننا أخوة وصراحة وثقة عمياء وأجابني سوف يتصل عندما يطمئن على وجود عائلته في مصر، وقد طلبت منه المجىء إلى أمريكا ليقيم في الجوار معنا أو على الأقل في لندن مجاورا رفيقنا الحاج الصابر مجيد الغيثي وكان الرد أنه يفضل مصر حسب وصية والده عندما هاجر أثناء أحتلال الأيطاليين للوطن أستقر بمصر ، والله الموفق ...

 رجب المبروك زعطوط

 البقية تتبع ....

No comments:

Post a Comment